عشرة قرارات هزت عرش “حُكم المؤسسات”ذات الصلة بإدارة الموارد النفطية الوطنية؟!

أ. د. جواد كاظم لفته الكعبي

في خبرين منفصلين، نُشرا في الموقع الالكتروني www.akhbaar.org يوم 26/1/2020، بشأن خلاف بين المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى حول دستورية وقانونية قرار اتخذته المحكمة واعترض عليه المجلس، قدم كل طرف حُججه مُستندا في ذلك إلى أحكام الدستور والقوانين النافذة ذات الصلة، وجرى الإعلان عن حجج وقرارات كل طرف على الجمهور.

لست في وارد التدخل في جدل المؤسستين القضائيتين الأعلى في بلادنا، لأن هذا الجدل خارج اختصاصي العلمي، ولكني، كمواطن من هذا الجمهور الذي تكرمت عليه كلا المؤسستين الموقرتين بالإعلان عن مواقفها المتباينة من موضوع خلافهما، أرى في هذا الجدل علامة مضيئة على صواب “حُكم المؤسسات!” في إدارة الشؤون العامة، لأن الجدل المذكور قد جرى علانية أمام الناس وفي أُطر أحكام مؤسسات الدستور والقوانين النافذة وليس خارجها أو حولها. ولكن، مع ذلك، لديّ خشية من أن “حُكم المؤسسات” قد يجري تحقيقه بما يُخالف الغرض من تأسيس هذه المؤسسات بكوّنها تُمثل منفعة مجتمعية عامة لا ينبغي تفسيرها أو استخدامها لتحقيق أغراضا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ذات أبعاد شخصية أو فئوية أو مناطقية أو حتى مؤسساتية ضيقة.

في الخبرين المنشورين، اُستُخدمت في الخلاف مواد المؤسسات العامة نفسها (أحكام الدستور والقوانين ذات الصلة) بمثابة حجج مؤسساتية لتبرير موقف كل طرف من موضوع الخلاف، ومع ذلك “اختلفا؟!”، وهما من الناحية الوظيفية صاحبا الاختصاص الدستوري والقانوني المهني الحصري والأعلى في تفسير ورقابة نفاذ أحكام الدستور والقوانين المعنية. لماذا، إذن، اختلف القوم وهم أهل حرفة واحدة ويستخدمون مادة نظر واحدة أيضا في خلافهم؟ وبصرف النظر عن موضوع الخلاف، يبدو ليّ أن سبب الخلاف يكمن في طبيعة “المادة المؤسساتية” (أحكام الدستور والقوانين ذات الصلة) المستخدمة للتعامل مع موضوع الخلاف، وهذه الطبيعة تقرر جودتها مؤشرات كثيرة يأتي في مقدمتها مؤشر شمولية أو عدم شمولية هذه الأحكام لتغطية جميع جوانب وعلاقات وصلات الموضوع أو الحالة التي أُسست من أجل تنظيمها ورعايتها وحمايتها، ومؤشر الصياغات المفاهيمية واللغوية لهذه الأحكام بمقاييس الدقة والوضوح والبساطة وغيرها. إن عدم جودة المادة المؤسساتية المعنية ستفضي لا محالة إلى الاجتهاد المؤسساتي والشخصي الإرادوي والفئوي بهوياتها الفرعية في تفسيرها واستخدامها، وهو أمر يقود منطقيا وعمليا إلى النتائج الآتية لفساد “حُكم المؤسسات”:

· استغلال المادة المؤسساتية لتحقيق منافع ضيقة.

· التلاعب بالمادة المؤسساتية لتبرير سلوك مُناقض للغرض من تكوين هذه المادة.

· استخدام المادة المؤسساتية بمثابة غطاء للتمويه في ظله على نشاط غير دستوري أو غير قانوني أو غير شرعي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

· تحويل المادة المؤسساتية من كونها منفعة مُجتمعية عامة إلى مصدر مؤسساتي أو شخصي أو فئوي لجني الريع من استعمالها.

هذه النتائج، وربما غيرها أيضا، تُكوّن بمجموعها بيئة مؤسساتية فاسدة وحاضنة على الدوام لتقويض “حُكم المؤسسات” وهياكلها التنظيمية والوظيفية، إذ أن هذه البيئة، فضلا عن انتهاكها لقيّم النزاهة والعدالة والإنصاف في إدارة الشؤون العامة، ستزيد من الكُلف السياسية والاقتصادية لهذه الإدارة وستُخفض من مؤشرات كفاءتها وفاعليتها بلا ريب. وبغرض ترجمة هذه الأطروحات النظرية إلى واقع حقيقي ملموس، سنستخدم في التحليل أدناه القرارات العشرة للمحكمة الاتحادية العليا، التي مرت سنة على صدورها بتاريخ 23/1/2019، بشأن الطعون المرفوعة أمامها حول دستورية قانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم (4) لسنة 2018، وهذه القرارات، كما نرى، قد أحدثت انقلابا جوهريا في منظومة “حُكم المؤسسات” المُديرة للموارد النفطية الوطنية (الدستور، قانون الشركة، والشركة نفسها ككيان مؤسساتي تنظيمي). بهذا الصدد، نُشير إلى الملاحظات الثلاث الآتية: الأولى، نشرنا دراسة طويلة عن القرارات الخمسة الأولى منها سنورد مصدرها في نهاية هذه الدراسة لاطلاع القارئ الكريم؛ الثانية، سنتناول القرارات بإيجاز، ولكن من زاويا نظر مختلفة أو موسعة أو مُكملة لما ورد في دراستنا المنشورة عنها؛ الثالثة، سنعرض مضمون قرارات المحكمة ومواد الدستور ومواد قانون الشركة بدلا من إيراد نصوصها الكاملة بغرض الاختصار.

1. القرار الأول:

ترى المحكمة أن المادة (3) من قانون الشركة، ذات الصلة بأهدافها ومجالات نشاطها، غير دستورية، لتعارضها مع أحكام المادتين (112/أولا/ثانيا) و(114) من الدستور، ذلك أن هذه الأهداف والمجالات لا ينبغي للشركة القيام بها بنفسها، وإنما “يلزم أن تكون من الحكومة الاتحادية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط” (نص القرار)، وهو قرار يتطابق مع ما جاءت به أحكام المادة (112) من الدستور. هذا يعني أن المحكمة لا ترى في الشركة كيانا (شخصا) إداريا يمتلك الحق الدستوري في تقرير أهداف ومجالات نشاطه الوظيفي بنفسه، وإنما هذا الحق هو حق حصري للكيانات (للشخوص) الدستورية الثلاثة المذكورة في القرار (الحكومة الاتحادية وحكومات

الأقاليم والمحافظات المنتجة). وبما أن المحكمة لم تُسّم شخصا إداريا بعينه لتولي إدارة الأنشطة الفنية والاقتصادية لحلقتي “المنبع والمصب” في السلسلة التنظيمية/التكنولوجية النفطية (وهو أمر ليس من مسؤوليتها الوظيفية بالطبع)، وأن الشخوص الدستورية الثلاثة المذكورة في القرار غير مؤهلة وظيفيا لأداء ذلك، عندها ستكون عمليات استغلال وتطوير الموارد النفطية الوطنية قد وضعت أمام مأزق مؤسساتي كبير، أوجدتها الصياغات المفاهيمية واللغوية غير الدقيقة والعائمة لنصوص أحكام مؤسستي الدستور وقانون الشركة ذات الصلة.

في الوقت نفسه، سيزداد المأزق المذكور شدة إذا علمنا أن المحكمة لم تحكم بعدم دستورية المادة (2) من قانون الشركة، المُتعلقة بتأسيس الشركة ونيابتها عن الدولة العراقية عند ممارستها أعمالها داخل وخارج العراق، ولم تحكم أصلا بدستورية و/أو عدم دستورية نيابة الشركة للدولة العراقية، وهل كيان “الدولة العراقية” مُطابق و/أو غير مُطابق لكيانات “الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة” فرادا أو مجتمعة الواردة في الدستور وفي قرار المحكمة، وهل هذه النيابة متوافقة و/أو غير متوافقة مع المادة الدستورية (111) المُقررة لملكية الشعب العراقي لثروة النفط والغاز؟! وبدون إجابات قاطعة الدلالة المفهومية واللغوية عن هذه التساؤلات، لا يستقيم عندها “حُكم المؤسسات” المعنية بإدارة مواردنا النفطية.

فضلا عن ذلك، استندت المحكمة في تبرير قرارها الأول بشأن عدم دستورية المادة (3) من قانون الشركة، إلى أحكام المادة (114) من الدستور، المُقررة للاختصاصات السبعة المشتركة بين السلطات الاتحادية وسلطات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم (الكمارك، الكهرباء، البيئة، التنمية والتخطيط، الصحة، التعليم والتربية، المياه الداخلية)، وليس من ضمن هذه الاختصاصات ما له صلة وظيفية مباشرة أو غير مباشرة بأهداف ومجالات نشاط الشركة المعلنة في قانونها. في الوقت نفسه، يتعارض هذا التبرير مع اختصاصات الشخوص الدستورية الثلاثة المذكورة في المادة (112) من الدستور، المُكلفة بإدارة تطوير واستغلال الموارد النفطية، وسيفضي استخدامه إلى ازدواجية الاختصاص المؤسساتي والوظيفي عند تحقيق الاختصاصات السبعة المشتركة وبمعيتها اختصاص إدارة تطوير واستغلال الموارد النفطية، وزيادة الكُلف المؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية وربما السياسية أيضا لهذا التحقيق.

2. القرار الثاني:

عَدّت المحكمة قيام الشركة بعملية تسويق النفط (المادة 4/ثالثا/خامسا من القانون) بعدم الدستورية لتعارضها مع المادة الدستورية (112). هذا يعني أن نشاط تسويق النفط يجب أن

تمارسه الشخوص الدستورية الثلاثة بنفسها، المذكورة في هذه المادة الدستورية (الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة)، ويُحرم على الشركة القيام بذلك. بيد أن المحكمة لم تَرَ في المادة الدستورية (112) الشخوص الثلاثة المذكورة فيها، ولكنها رأت شخصيّ “وزارة النفط والشركة المرتبطة بها”، وهما شخصان لا وجود لهما في هذه المادة الدستورية. لقد “اجتهدت!” المحكمة في قراءة نص المادة (112) من الدستور، فضلا عن ذلك، في هذا القرار لم تجُر تسمية الشركة المرتبطة بوزارة النفط لتولي إدارة عملية تسويق النفط، على غرار تسميتها ب “سومو” في القرار الرابع، وهو أمر آخر مُخّل بصرامة النصوص القانونية، فضلا عن فتح باب الاجتهاد في قراءتها واستخدامها.

وكما كتبنا في دراسة سابقة، فقد اختطت المحكمة لنفسها دور المُشرّع عندما قررت أن “عملية تسويق النفط … من مهام وزارة النفط والشركة المرتبطة بها”، وهي بذلك، كما نرى، قد تجاوزت صلاحياتها الوظيفية في “تقرير دستورية القوانين” باتجاه صلاحيات “تشريع القوانين”، وهو أمر يهز بقوة عرش “حُكم المؤسسات”. لم ترَ المحكمة في اضطلاع الشركة، كشخص إداري مستقل، بإدارة عمليات تسويق النفط “… خيارا تشريعيا لمجلس النواب على وفق صلاحياته المنصوص عليها في المادة (61/أولا) من الدستور”، كما جاء ذلك في الفقرة “ثانيا” من قرار الحُكم، عندما ردت المحكمة بقية الطعون الواردة في الدعاوى الموحدة لعدم تعارضها مع أحكام الدستور. من وجهة نظر علم الإدارة، يؤسس “الخيار التشريعي” لمجلس النواب في قانون الشركة لتكوين هيكل تنظيمي/وظيفي تتولى الشركة فيه بنفسها إدارة عمليات التسويق، بينما “الخيار التشريعي!” للمحكمة في قرار الحُكم ليس فقط يُقوض الهيكل التنظيمي/الوظيفي لخيار مجلس النواب، ولكنه أيضا يؤسس لولادة هيكلا تتولى “وزارة النفط والشركة المرتبطة بها” إدارة هذه العمليات، وقطع الطريق على مجلس النواب مستقبلا في تبني أي خيار تشريعي آخر لإدارة عمليات تسويق النفط في نظام إدارة الموارد النفطية، لا يتوافق مع قرار المحكمة الثاني، وهو أمر كابح لتطور “حُكم المؤسسات”!

3. القرار الثالث:

عَدّت المحكمة صفة الوزير لرئيس الشركة ومواصفاته المهنية وخبراته ووظائفه ومسؤولياته، الواردة في (المادة 7/أولا/1 من قانون الشركة)، غير دستورية بسبب تعارضها مع أحكام المادة (62/ثانيا) من الدستور، وهي المادة المُنظمة لصلاحيات مجلس النواب في إدارة الموازنة الاتحادية العامة (مناقلة أبوابها وفصولها، تخفيض مبالغها، زيادة نفقاتها)، وليس من بين هذه الصلاحيات ما له علاقة مؤسساتية أو تنظيمية أو وظيفية مباشرة أو غير مباشرة بمواصفات

شاغل وظيفة رئيس الشركة. إن إلغاء صفة الوزير عن رئيس الشركة، ستُمكن وزير النفط من الانفراد بطرح ومناقشة شؤون الشركة في اجتماعات مجلس الوزراء. بيد أن ارتباط الشركة التنظيمي بمجلس الوزراء حسب قانونها (المادة 2/ثانيا)، والذي لم تصفه قرارات المحكمة بعدم الدستورية، بدون صفة الوزير عن رئيسها سينتج عنه لا محالة اختلال التوازن الهيكلي والوظيفي في نظام إدارة الموارد النفطية الوطنية ما بين مؤسسات مجلس الوزراء ووزارة النفط الاتحادية ومجلس إدارة الشركة، وإصابة نشاط إدارة أعمال الشركة بحالة الاختلال التنظيمي، وهو أمر ليس فقط سيُخفض من كفاءة وفاعلية هذا النشاط، ولكنه أيضا سيُقوض الهيكل التنظيمي لإدارة الموارد النفطية الوطنية والهيكل التنظيمي لإدارة أعمال الشركة الداخلية، الواردين في قانونها (المادة 2/ثانيا، المادة 6) غير الموصوفتين بعدم الدستورية بموجب قرارات المحكمة.

4. القرار الرابع:

ترى المحكمة أن ارتباط شركة تسويق النفط الوطنية (سومو) بمركز الشركة (البند ح من المادة 7/ثانيا من قانون الشركة) كأحد تشكيلاتها، هو أمر غير دستوري لتعارض هذا الارتباط مع الاختصاصات الحصرية السيادية للسلطات الاتحادية، الواردة في الفقرتين (أولا وثالثا) من المادة الدستورية (110)، حيث تشتمل الفقرة (أولا) على الاختصاصات الحصرية السيادية الخارجية (السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي والتفاوض وإبرام المعاهدات الدولية والسياسة الاقتصادية والتجارية الخارجية السيادية)، بينما تشتمل الفقرة (ثالثا) على الاختصاصات الحصرية السيادية الداخلية (السياسة المالية والكمركية وإصدار العملة، السياسة التجارية عبر حدود الأقاليم والمحافظات، الموازنة العامة للدولة، البنك المركزي).

إن الاختصاصات الحصرية السيادية للسلطات الاتحادية الخارجية والداخلية المذكورة لا تمتلك أية صلات تنظيمية أو سياسية سيادية مباشرة أو غير مباشرة مع الموقع التنظيمي لشركة (سومو) سواء في مركز الشركة أم في وزارة النفط الاتحادية. على سبيل المثال، جرى إبرام عقود جولات التراخيص النفطية الأولى والثانية في عام 2009 (وكذلك الجولات الثالثة والرابعة والخامسة فيما بعد) من قبل شركات النفط الوطنية المحلية بمناطق الاستخراج النفطي (مثلا شركة نفط الجنوب في عقد حقل الرميلة، وشركة نفط ميسان في عقد حقل الحلفاية) مع شركات النفط الأجنبية، وليس من قبل وزارة النفط الاتحادية، ولم يجر إقرارها وتصديقها من قبل السلطات الاتحادية (مجلس الوزراء ومجلس النواب).

فضلا عن ذلك، ومن منظور رسم السياسة الاقتصادية والتجارية الخارجية السيادية على سبيل المثال، لا نرصد هنا أيضا أية صلات مباشرة أو غير مباشرة ما بين ارتباط (سومو) بمركز الشركة وتحقيق السلطات الاتحادية بنفسها لهذه الاختصاصات الحصرية. لو أخذنا على سبيل المثال وظائف تسعير النفط الخام واختيار منافذ التصدير والعملاء، نرى أن بقاء الارتباط التنظيمي لشركة (سومو) بمركز الشركة هو أكثر تحقيقا لأعمال السيادة الاقتصادية والتجارية الخارجية للسلطات الاتحادية من ربطها بوزارة النفط (والتي يُمكن أن تكون حقيبتها من حصة حزب واحد)، لأن الشركة مرتبطة تنظيميا بمجلس الوزراء (حيث تكون الحقائب الوزارية موزعة بين توجهات سياسية كثيرة للأحزاب والكتل الفائزة بالانتخابات البرلمانية)، وهذا الارتباط لم تصفه قرارات المحكمة بعدم الدستورية (المادة 2/أولا). يُمكن لقرار المحكمة المعني، من زاوية نظر مؤسساتية، أن يكون بوابة مُشّرعة لممارسة فساد “حُكم المؤسسات” في نشاط شركة تسويق النفط الوطنية، بينما من زاوية نظر علم إدارة الأعمال المعاصر والتجربة المعاصرة لشركات النفط الدولية والوطنية في الكثير من البلدان المنتجة للنفط، فإن الارتباط المؤسساتي والتنظيمي لنشاط تسويق النفط بمنتج النفط نفسه، سيكون أكثر كفاءة وفاعلية مقارنة باغترابه التنظيمي والوظيفي عن المُنتج.

5. القرار الخامس:

عَدّت المحكمة “غالبية!” مهام مجلس إدارة الشركة، الواردة في المادة (8) من قانونها، غير دستورية استنادا إلى نوعين مختلفين في الموضوع من مواد الدستور: المادتين (78) و(80) والتي موضوعهما “مهام رئيس مجلس الوزراء” و”صلاحيات مجلس الوزراء” على التوالي، والمادة (112) والتي موضوعها إدارة الموارد النفطية. نُشير إلى أن جميع هذه المهام عملياتية (وعددها 19 مهمة)، تؤديها جميع مجالس إدارات الشركات كاختصاصات وظيفية حصرية لها بصرف النظر عن المجال الوظيفي لنشاطها وعائدية ملكيتها للدولة أو للقطاع الخاص، وليس من بينها مهمة إستراتيجية واحدة يتطلب أدائها اتخاذ قرارات من قبل شخوص مؤسساتية سيادية (في مثالنا مجلس الوزراء أو رئيس مجلس الوزراء أو الحكومة الاتحادية أو حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط).

إن الإشكالية الرئيسة في هذا القرار، من وجهة نظر موضوع هذه الدراسة، تتجلى بوضوح كبير في إنتاجه لحالات تناقض مؤسساتي خطير في نظاميّ إدارة الموارد النفطية الواردين في الدستور وفي قانون الشركة، نذكر منها الحالتين الآتيتين: الأولى، التناقض المؤسساتي الناشئ عن اختلاف الصلاحيات والوظائف والقدرات المهنية ما بين الشخوص المذكورة في المواد الدستورية الثلاث (78، 80، 112) على أداء مهام وظيفية عملياتية، وهو أمر يقود إلى فوضى مؤسساتية في تحقيقها أو

تعطيل تحقيقها أو زيادة كُلف تحقيقها أو تخفيض جودة تحقيقها…الخ. الثانية، التناقض المؤسساتي الناشئ عن تعطيل أداء مجلس إدارة الشركة لوظائفه العملياتية (المادة 8 من قانون الشركة)، مع الإبقاء على دستورية الهيكل التنظيمي للشركة (المادتين 6 و7 باستثناء الفقرة أولا/1 منها من قانون الشركة)، والإبقاء على دستورية مهام رئيس الشركة (المادة 9 من القانون). في واقع الأمر، أوجد قانون الشركة تناقضا تنظيميا داخليا كبيرا في تشكيلة مجلس إدارة الشركة (المادة 6) عندما جمع فيه من أصل 11 عضوا: خمسة أعضاء يمتلكون الصفة المؤسساتية (وكيل وزارة النفط الاتحادية، وكيل وزارة الثروات الطبيعية في الإقليم، وثلاثة رؤساء مجالس إدارات الشركات المملوكة للشركة)، وستة أعضاء يمتلكون الصفة الطبيعية (رئيس الشركة، نائبي رئيس الشركة، ثلاثة خبراء)، مع الإشارة إلى أن القرارات المتعلقة بالسياسات والتعاقدات والاستثمار تُتخذ بالأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس الإدارة (المادة 8/ثانيا/4 من قانون الشركة، ولا نعلم هل أن هذه المهمة تقع ضمن غالبية المهام الموصوفة من قبل المحكمة بعدم الدستورية أم لا)، وتعني الأغلبية المطلقة هنا (5+1= 6!). أن شخوص مجلس إدارة الشركة وطريقة اختيارهم وآلية اتخاذهم القرارات، غير الموصوفة بعدم الدستورية من قبل المحكمة، تُفضي إلى نشوء حالة فساد “حُكم المؤسسات” من خلال تكوين هياكل تنظيمية مُختلة للإدارة، ستجري بموجبها تمرير عمليات “خصخصة” غير رسمية (مُموهة أو غير مرئية) لملكية ونشاط إدارة مواردنا النفطية الوطنية من قبل شخوصا طبيعية وتحت مظلة أحكام قانون الشركة.

6. القرار السادس:

بررت المحكمة عدم دستورية قيام الشركة بإدارة المؤشرات الاقتصادية لنشاطها الوظيفي (الكلفة الاستثمارية، الكلفة التشغيلية، معدل الكلفة، الربح) بالاتفاق مع وزارات المالية والنفط والتخطيط وبمصادقة مجلس الوزراء (المادة 11/أولا من قانون الشركة)، بأربع مواد دستورية مختلفة المضمون والشخوص والتأثير المؤسساتي (78، 80، 111، 112).

يطال قرار عدم دستورية المادة (11) من قانون الشركة أربعة أنواع من الأنشطة الاقتصادية والتنظيمية والمحاسبية: الأول، نشاط استقطاع الشركة من قيمة كل برميل من النفط الخام والغاز المُنتج لتغطية تكاليفها مضافا إليه نسبة معينة من الربح؛ الثاني، نشاط تحديد المقدار الكمي للمؤشرات المذكورة بآلية الاتفاق بين الشركة ووزارات المالية والنفط والتخطيط؛ الثالث، نشاط مُصادقة مجلس الوزراء على الاتفاق المعني؛ وأخيرا الرابع، نشاط تسوية الحسابات بين الشركة ووزارة المالية وبمُصادقة ديوان الرقابة المالية (المادة 11/ثانيا). من زاوية النظر بالأنشطة الأربعة المذكورة هنا، يحمل هذا القرار في ثناياه، بشكل صريح وضمني أيضا، تناقضات مؤسساتية كثيرة ومختلفة مسارات

التأثير على مفهوم “حُكم المؤسسات” الذي نعالجه بالتحليل في هذه الدراسة، منها الثلاثة الأساسية الآتية:

· الأول، أكد قرار المحكمة على الاستقلالية المؤسساتية التنظيمية للشركة في تحديد المؤشرات الاقتصادية لنشاطها بنفسها، وهو بذلك قد أنقذ الشركة كمنظمة أعمال من مواجهة استحقاقات مبادئ وقوانين علميّ الإدارة والاقتصاد المعاصرين التي لم تأخذها بالحسبان مادة قانون الشركة المعنية، وحررها من الضغط البيروقراطي لأجهزة السلطة الحكومية الأخرى (وزارات المالية والنفط والتخطيط) والمناورات السياسية الضيقة والنفعية على استقلاليتها في إدارة نشاطها الاقتصادي، وصان استقلالها المالي والإداري (المنصوص عليه في المادة 2/أولا من قانونها، والذي لم تصفه المحكمة بعدم الدستورية)، وأخيرا منع التدخل المباشر لوزير النفط الاتحادي في قرارات مجلس إدارة الشركة (المنصوص عليه في المادة 10/ثانيا من قانونها، والذي لم تصفه المحكمة بعدم الدستورية).

· الثاني، نَقَلَ قرار المحكمة عمليات تقرير وإدارة مؤشرات النشاط الاقتصادي للشركة من تأثير دائرة التخصص المؤسساتي الواضح (مؤسسات وزارات المالية والنفط والتخطيط)، إلى تأثير دائرة تخصص مؤسساتي عائم، عندما أعاد وضعها التنظيمي في تبعية مباشرة للشخوص الدستورية الواردة في المواد (78، 80، 112) من الدستور، وهو أمر يلحق الضرر الوظيفي البالغ بتقسيم العمل الاجتماعي والتخصص المهني في تحقيق “حُكم المؤسسات”.

· الثالث، أعاد قرار المحكمة الاعتبار المؤسساتي والتنظيمي والوظيفي لمؤسسة “الملكية” وشخصها “الشعب العراقي”، المنصوص عليهما في المادة (111) من الدستور، في إدارة المؤشرات الاقتصادية لنشاط الشركة، وهو بذلك قد وضع الأساس الدستوري المتين للممارسة العادلة لسلطات وصلاحيات تحقيق “حُكم المؤسسات” في التطبيق العملي لها عند إدارة الموارد النفطية الوطنية. وبما أن جميع قرارات المحكمة العشرة لم تَشّر إلى الكيفية المؤسساتية والتنظيمية لاستخدام أحكام المادة الدستورية (111)، وأيضا خلو مواد قانون الشركة غير الموصوفة بعدم الدستورية بموجب هذه القرارات من هذه الكيفية، يتطلب الأمر، إذن، إيجادها لضمان تحقيق “حُكم المؤسسات” في إدارة تطوير واستغلال مواردنا النفطية، وهو أمر سبق لكاتب هذه السطور الاجتهاد فيه بطرح خارطة طريق مؤسساتية لهذه الكيفية، نُشير إلى مصدر نشرها في نهاية هذه المقالة.

7. القرار السابع:

عَدّت المحكمة المادة (12) من قانون الشركة (مصادر الإيرادات المالية، طريقة تكوين الأرباح، نسب واتجاهات توزيع الأرباح، الإشراف على تسوية الحسابات) غير دستورية، مستندة في تبرير ذلك إلى أحكام المواد الدستورية (78، 80/أولا وثانيا، 106، 111، 112). لأغراض هذه الدراسة، يُمكن لتحليل القرار السادس في أعلاه أن يكون كافيا لمقاربة القرار السابع باستثناء حالة نشوء ازدواجية “حُكم المؤسسات” في تحقيق وظائف المُصادقة والمراقبة والإشراف على حسابات الشركة وتسويتها. في قانون الشركة، جرى ذكر مؤسستين لتحقيق هذه الوظائف: الأولى، مؤسسة “ديوان الرقابة المالية الاتحادي” (المادة 12/رابعا)؛ الثانية، مؤسسة “ديوان الرقابة المالية” مجردا من صفة “الاتحادي” (المادة 11/ثانيا). أضاف القرار السابع للمحكمة مؤسسة ثالثة لتحقيق الوظائف المذكورة وهي مؤسسة “الهيئة العامة لمراقبة تخصيص الواردات الاتحادية”، مهمتها الاضطلاع بمسؤوليات التحقق من الاستخدام الأمثل والعدالة والشفافية في توزيع الواردات الاتحادية (المادة 106) من الدستور. إن تعدد مؤسسات تحقيق الوظائف الإدارية في المُصادقة والإشراف والمراقبة على حسابات الشركة، لا يقود بالضرورة إلى تحسين جودة أداء هذه الوظائف، وربما يُفضي إلى زيادة كلفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عندما يجري استخدام المؤسسات المذكورة من قبل البعض لتحقيق أغراضا ضيقة ونفعية، تتعارض مع الغايات العامة التي من أجلها شُرّعت هذه المؤسسات.

8. القرار الثامن:

عَدّت المحكمة المادة (13/ثانيا) من قانون الشركة (استثناء حوافز العاملين في الشركة من أحكام قانون رواتب موظفي الدولة والقطاع العام) غير دستورية، لتعارضها مع أحكام المادة (62/ثانيا) من الدستور (أنظر مضمون هذه المادة الدستورية في القرار الثالث للمحكمة أعلاه). في قرار المحكمة الثامن، تتأتى صفة عدم دستورية مادة القانون المعنية فقط من “الجنبة المالية” التي لم يؤخذ بها رأي مجلس الوزراء، وهو صاحب الاختصاص المؤسساتي في ذلك. قد يكون الأمر كذلك، ولكن “حُكم المؤسسات” لا يستقيم ولا يتطور في بلد تفتقر فيه أحكام هذه المؤسسات لعدالة التطبيق الشامل وفي كل مناحي النشاط، وليس فقط من منظور التقييم المالي لهذا النشاط.

9. القرار التاسع:

عَدّت المحكمة المادة (16) من قانون الشركة (استثناء الشركة والشركات المملوكة لها من أحكام بعض القوانين النافذة) غير دستورية، لتعارضها مع أحكام المادة (5) من الدستور المتعلقة بسيادة القانون، “التي لا تجوز إلغاء قانون ما بنظام أو تعليمات” (الاقتباس من قرار المحكمة التاسع). هذا

القرار يضمن تحقيق مفهوم “حُكم المؤسسات”، باعتبار أن مفهوم “القانون” نفسه ما هو إلا “مؤسسة” Institute يجب الالتزام بأحكامها. في السياق الذي نبحثه، إن استثناء نشاط الشركة وشركاتها المملوكة من فعل القوانين النافذة سيقود إلى نشوء بيئة مؤسساتية فاسدة، من مظاهرها: تشويه فعل مبادئ وقوانين علميّ الإدارة والاقتصاد في النشاط، وتشويه وربما تزييف مؤشرات النشاط التنظيمي والاقتصادي لهذه الشركات، وضياع المسؤولية الشخصية لقادتها عن نتائج نشاطها وإمكانية مساءلتهم أمام الدولة والمجتمع وقطاع الأعمال الوطني والأجنبي الذي تتعامل معه من خلال “مؤسسة السوق”.

10. القرار العاشر:

وصفت المحكمة مساهمة الشركة “في تنمية القطاع الزراعي والصناعي والخدمي…” (المادة 18/سادسا من قانون الشركة) بعدم الدستورية لتعارضها مع صلاحيات “رئيس مجلس الوزراء” (المادة 78 من الدستور) وصلاحيات “مجلس الوزراء” (المادة 80 من الدستور). وعلى الرغم من أن هذا القرار يضمن تحقيق التخصص الوظيفي في “حُكم المؤسسات”، إلا أن انفراد مجلس الوزراء ورئيسه بصلاحيات تنمية القطاع الزراعي والصناعي والخدمي، سيقطع الطريق أمام تكوين مؤسسات وظيفية متخصصة جديدة لهذا الغرض (ذكرنا البعض منها في أبحاثنا المذكورة في مصادر هذه الدراسة)، وهو أمر سيُضيّق كثيرا من فضاء “حُكم المؤسسات” في بلادنا.

وبما أن هذه المقالة تُمثل وجهة نظر كاتبها، ويتحمل وحده مسؤوليتها العلمية والأدبية، إلا أن الدراسة الناجحة والشاملة لموضوعها تتطلب جهدا مؤسساتيا وعلميا كبيرا، يمكن تحقيقه بعقد مؤتمر علمي وطني موسع وعميق المشاركة، وسألبيّ شاكرا دعوة المساهمة في أعماله إذا ما دُعيت لذلك، ويمكن للمؤسسات والشخوص الآتية أن تساهم بأعماله: المحكمة الاتحادية العليا، لجنة النفط والطاقة في مجلس النواب واللجان المماثلة في إقليم كردستان والمحافظات المنتجة للنفط والغاز، وزارة النفط الاتحادية، شركاتنا النفطية الوطنية الكبرى، أصحاب الطعون بقانون الشركة، بعض الأكاديميين المختصين، وغيرهم.

المصادر:

دستور جمهورية العراق (2005).

قانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم (4) لسنة 2018. جريدة الوقائع العراقية رقم (4486) في 9/4/2018.

قرارات المحكمة الاتحادية العليا في 23/1/2019 بشأن دستورية بعض مواد قانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم (4) لسنة 2018. iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2019/01/1

الكعبي، جواد كاظم لفته (2019). في ضوء قرارات المحكمة الاتحادية العليا: ماذا بعد “الإعدام التنظيمي!” لشركة النفط الوطنية العراقية ككيان إداري مستقل؟ www.akhbaar.org في 5 نيسان.

الكعبي، جواد كاظم لفته (2019). تعديل أحكام الدستور النافذ ذات الصلة المباشرة بنظام إدارة الموارد النفطية الوطنية. www.akhbaar.org في 8 كانون الأول/ديسمبر.

الكعبي، جواد كاظم لفته (2020). خارطة طريق مؤسساتية لنظام جديد لإدارة الموارد النفطية بعد تعديل أحكام الدستور النافذ ذات الصلة. www.akhbaar.org في 11 كانون الثاني/يناير.

……………………………………………………………………………………

د. جواد الكعبي/باحث أكاديمي

[email protected]

شباط/فبراير 2020

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here