علاوي سينجح.. ولكن عندما يقنِع المحتجين

حميد الكفائي

كاتب وأكاديمي عراقي 

بعد طول انتظار، اتفقت القوى السياسية المسلحة في العراق على تكليف محمد توفيق علاوي بتشكيل الحكومة الانتقالية المقبلة، بعد أربعة أشهر دامية من الاحتجاجات والتظاهرات الصاخبة في مدن العراق ضد فساد النخبة الحاكمة وجرائمها المتلاحقة وفشلها في إدارة الدولة وتبعيتها لإيران.

لكن محمد توفيق علاوي، الرجل الوديع الخلوق، الذي ما كان ليكون ذا شأن لولا انتماؤه إلى عائلة علاوي المتنفذة، وكونُه تابعا لابن عمه، رئيس الوزراء الأسبق، أياد علاوي، الذي جاء به وزيرا ونائبا، لن يستطيع أن ينقذ القوى الفاسدة الموغلة في الجريمة والتبعية لإيران، من المأزق الذي وضعت نفسها والعراق فيه، وهذه ليست مهمته ابتداءً.

لا يوجد خلاف بين العراقيين حول نزاهة محمد علاوي، فالرجل معروف بتدينه العميق وأخلاقه الرفيعة، كما إنه لم يستثمر تدينه في مشروعه السياسي، بل بقي ضمن مشروع ابن عمه العلماني.

لكن الشكوك تدور على حول قدراته السياسية والإدارية وصلاحيته لإدارة مرحلة هي من أخطر المراحل التي يمر بها العراق. أمام علاوي جبلٌ شاهق، ذو سفح حاد شديد الانحدار، من المشاكل المستعصية، أُولاها وأعقدُها مشكلة المليشيات المسلحة التي أصبحت تمسك بعنق البلد وتقتل وتخطف من يقف بوجهها، وكثيرون يعتقدون بأنها المسؤولة عن قتل المحتجين الذين سقطوا في سوح التظاهر خلال الأشهر الأربعة الماضية. هل يمكن علاوي أن يفككها أو يلجمها؟ وإن هو واجهها فعلا، وسيكون هذا عملا بطوليا يسجل له، فهل سيتمكن فعلا من حلها أو على الأقل إخضاعها للقانون؟.

يحتاج علاوي ابتداءَ إلى كسب ثقة المحتجين، وقد سعى إلى ذلك عبر خطابه الأول لهم إذ وعد بمحاسبة قتلة المتظاهرين وجلبهم إلى القضاء كي ينالوا عقابهم العادل، وأن سلاح الدولة لن يُستخدَم ضد الشعب. لكنه، وكل العراقيين، ومعهم العالم، يعلم بأن المليشيات المسلحة، ومن ورائها إيران، هي المسؤولة عن قتل 700 متظاهر على الأقل وجرح 25 الفا آخرين.

هذا اذا تناسينا آلاف المغدورين خلال السنوات السبع عشرة الماضية التي سقط فيها أكاديميون وخبراء وطيارون وضباط كبار ومثقفون وصحفيون ومواطنون أبرياء. كما تسببت المليشيات في دفع ملايين العراقيين، خصوصا من أصحاب الكفاءة والخبرة، إلى الهجرة بعيدا عن وطنهم، والعراق لن يستعيد عافيته إلا بعد أن يعود المهاجرون والمهجّرون كافةً، كي يشاركوا في نهضته والمساهمة في استقرار المنطقة.

هل سيقْدِم علاوي فعلا على مواجهة الجماعات المسلحة التي لا تنتمي إلى العراق، بل تعتاش على ضعفه وقتل أبنائه نيابة عن دولة معادية وبمساعدة منها؟ إن فعل، وهذا ما يشكك به كثيرون، فسوف يواجه مصاعب أمنية وسياسية كثيرة، من أذرعها السياسية والإدارية والعسكرية المنتشرة في مؤسسات الدولة. لكنه في الوقت نفسه سيحظى بدعم معظم العراقيين والمجتمع الدولي، وعليه ألا يتردد في ذلك، فهو رجل مؤمن وعليه أن يحكِّم ضميره وألا يخشى سوى الله. لقد الزم المتظاهرون علاوي بما الزم به نفسه في خطابه الأول، حسب ما قاله أحد زعماء المتظاهرين د.علاء الركابي، فإن التزم، فسوف يؤيدونه، وإن نكث فسوف يناهضونه ويسقطونه كما اسقطوا عادل من قبله.

إن هذه المواجهة المؤجلة مع المليشيات مطلوبة، الآن الآن، لأنه لا يمكن إقامة دولة حقيقية مع بقاء آلاف المسلحين المتمرسين في القتل والخطف والابتزاز والسرقة، يسلطون سيوفهم على رقاب الناس، ويفعلون ما يحلو لهم دون حساب أو عقاب. إن إيران، التي تقف خلف هذه المليشيات وتوفر لها الملاذ الآمن والدعم اللوجستي والسياسي والعسكري (والمالي سابقا)، والتبرير الديني، محاصرة دوليا الآن بسبب سلوك قادتها العدواني المخالف للقانون الدولي، وعلى علاوي ألا يخشى منها لأنها مستعدة لتقديم تنازلات للمجتمع الدولي كي تستعيد بعضا من قوتها، فلتكن هذه التنازلات في العراق، خصوصا مع تنامي الرفض الشعبي العراقي والعربي لنفوذها وتدخلاتها غير المشروعة وغير المبررة في الشأن العراقي والإقليمي. إن حصل ذلك، فسوف يتمكن العراقيون من بناء دولتهم العصرية وتحريرها من عصابات الجريمة والفساد وإقامة المؤسسات العصرية التي يحتاجها البلد.

المَهَمّة الأخرى التي تنتظر حكومة علاوي هي تهيئة البلاد لانتخابات جديدة، تختلف تماما عن الانتخابات الهزلية السابقة، التي تُقرَّر نتائجُها في مفاوضات تجري بين القوى (السياسية) قبل إعلان النتائج، والتي عادة ما تتأخر عدة أسابيع أو أشهر حتى تتمكن الجماعات السياسية من الاتفاق على حصص كل منها في البرلمان والحكومة.

ومما يشير إلى التزوير في الانتخابات هو أن الجماعات (السياسية) الفاسدة، المتشدقة بالدين، وهو منها براء، حصلت على تمثيل دائم في البرلمان وكأنها قدمت إنجازاتٍ عظيمةً للعراق، بل وكأن الشعب العراقي أصبح يعيش في بحبوحة من الرخاء والاستقرار كي يعيد انتخابَها.

لقد ازداد تمثيل الجماعات المسلحة في البرلمان في كل انتخابات أجريت منذ عام 2005، وفي انتخابات عام 2018، التي انتجت حكومة عادل عبد المهدي الكسيحة، أصبحت مليشيا بدر أكبر كتلة في البرلمان العراقي، وأصبح قائدها، هادي العامري، الآمر الناهي في العراق. وقد تبعتها المليشيات المسلحة الأخرى التي تمارس الخطف والقتل والابتزاز باسم الدين، بينما انحسر تمثيل الجماعات غير المسلحة وغير الخاضعة لإيران، وبعضها خرج من البرلمان كليا.

يجب أن تشرف حكومة علاوي على سن قانون جديد للأحزاب يكون تطبيقه صارما بحيث يمنع تأسيس الأحزاب على أسس دينية أو طائفية، وهذا يعني أن أي شخص يرتدي الزي الديني أو يمارس دورا دينيا، لا يحق له المشاركة في الانتخابات، تماما مثلما تُحظر مشاركة القضاة والعسكر حاليا، علما أن كثيرا من القضاة قد انتقل بسرعة البرق من كرسي القضاء إلى كرسي النيابة، دون اكتراث للمادة (98) من الدستور العراقي التي تحظر على القاضي الانتماء إلى أي حزب أو الجمع بين الوظيفة القضائية وأي وظيفة تنفيذية أو تشريعية. هؤلاء القضاة يجب أن يحاسبوا على ازدرائهم للدستور والقانون، فلو كان القاضي مستقلا حقا لما جاءت بيه الجماعات السياسية ليمثلها في البرلمان.

إحدى مشاكل النظام السياسي الحالي هو وجود عشرات الجماعات السياسية، التي تسمى خطأ أحزابا، وهذه الجماعات هي في الحقيقة منظمات أو عصابات متمرسة في السرقة والقتل والخطف والابتزاز تحت غطاء ديني والارتباط بعائلات دينية (تأريخيا)، لكنها تركت الدين وامتهنت السياسة ووظفت تأريخها الديني في خدمة مشاريعها السياسية والتجارية. يجب أن تُحَل هذه الجماعات ويُحاسَب قادتُها وأعضاؤها، وبعضهم يمتلك ما يكفي من الوقاحة ليظهر في وسائل الإعلام ويعلن صراحة ممارسته الخطف. لذلك يجب أن يُصاغ قانون الأحزاب بعناية بحيث يقلِّص من عدد الأحزاب، ويفرض على كل حزب إجراء انتخابات دورية شفافة وعلنية وبإشراف قضائي لقياداته لضمان عدم سيطرة شخص أو عائلة على الحزب.

قانون الانتخابات الذي صوت عليه البرلمان قبل شهرين، اختفى كليا، وعند التحري، اتضح بأنه لم يُرسَل إلى رئاسة الجمهورية كي يصبح قانونا كما تنص المادة (73-ثالثا) من الدستور.

وهذه حيلة جديدة، لجأت إليه قيادة البرلمان لإيهام الشعب بأنها سنت قانونا منصفا للانتخابات، بينما هي لم ترسله للرئاسة وتعلم أنه لن يصبح قانونا. يجب أن يعاد النظر في هذا القانون قبل إرساله إلى الرئاسة للمصادقة عليه. قانون مفوضية الانتخابات أنجز وأصبح أعضاؤها الآن من القضاة، ولكن يجب التأكد من أن القضاة غير منتمين للجماعات السياسية، فما أكثر القضاة الذين رشحتهم تلك الجماعات ليصبحوا قضاة، وهم متحزبون ومنحازون وليس من العدل أن يمارسوا القضاء.

كثيرون يطالبون بإجراء انتخابات مبكرة ولكن مثل هذه الانتخابات لن تنفع حركة الاحتجاج لأن المحتجين غير منضوين حاليا ضمن تجمعات سياسية وهم يحتاجون لأن ينظموا أنفسهم كي يتمكنوا من المنافسة في الانتخابات وكي تتمكن الناس من التصويت لهم.

ما أعلنه د. علاء الركابي بتشكيل تنظيم سياسي يضم المحتجين هو إجراء مناسب كي يستوعب هذه الحركة الجديدة ضمن النشاط السياسي العراقي. ومن هنا، يجب أن تستمر الحكومة الانتقالية لعامين على الأقل كي تسمح للطبقة السياسية الجديدة أن تتبلور وتنظم نفسها، وفي خلاف ذلك سيعود قادة الجماعات المسلحة الحاليون إلى الواجهة إن أجريت انتخابات تسبق انتظام القوى الجديدة في أحزاب تبرز قادتها وتمكنها من وضع برامج سياسية مدروسة كي تستقطب الناخبين.

لقد لجأت الجماعات المسلحة إلى ترشيح محمد علاوي لتشكيل الحكومة الانتقالية بعد أن رفض المحتجون كل مرشحيها السابقين المرتبطين بالفساد والمليشيات.

لكن المستغرب أن الرئيس برهم صالح لم يخرج إلى العراقيين كي يبرر اختياره محمد علاوي لرئاسة الحكومة المقبلة! ما يعني أنه خضع لضغوط سياسية دفعته للقبول بعلاوي على مضض. يأمل قادة الجماعات المسلحة أن علاوي، باعتباره متدينا وعضوا سابقا في حزب ديني، سيكون ضعيفا ومتعاطقا معهم، وبذلك يمكنهم توجيهه والتحكم بقراراته. ولأن علاوي كان جزءا من مشروع ابن عمه أياد، فقد اعتبره كثيرون ضعيفا، سياسيا وإداريا.

لكن وضعه تغير الآن، وبإمكانه أن يكون مستقلا وقويا إن هو سعى بجد لتنفيذ مطالب المحتجين ومن ورائهم الشعب العراقي. يمكنه أن يتخذ قرارات جريئة للقضاء على الفساد وحل المليشيات وتطبيق القانون، خصوصا وأن أجهزة الدولة كلها، من جيش وشرطة ومؤسسات وجهاز إداري، ستكون تحت تصرفه. عليه ألا يخشى المليشيات لأنها ضعيفة أمام قوى الشعب العراقي الضاربة وأجهزة الدولة القوية.

لن يقتنع المحتجون ابتداءً برئاسة محمد علاوي، إلا إذا برهن لهم عمليا بأنه قادر فعلا على محاسبة قتلة المحتجين، وهذا أول إجراء يجب أن يتخذه إن أراد أن يضمن الدعم الشعبي لحكومته. لقد طالب علاوي المحتجين بالبقاء في الساحات حتى تُلبّى مطالبهم كافة لأنه “لن يكون قادرا على تلبية مطالبهم إن بقي وحيدا”.

يبدو أنه يؤدي مهمةً تقترب فرصُ النجاح فيها من الصفر، خصوصا بوجود مسلحين تدعمهم إيران، بينما لا يتمتع هو بأي دعم مؤكد. لكنه سينجح، إن اعتمد على  دعم الشعب، وشكل حكومة من الخبراء المستقلين المؤمنين بمطالب المحتجين، وتمكن من إقناع المجتمع الدولي بدعم حكومته. خلاف ذلك، فإن الاحتجاجات سوف تتواصل وسينتهي به الأمر كما انتهى إليه عادل عبد المهدي، ملاحقا بقتل مئات المتظاهرين السلميين خصوصا إن لم يتمكن من كبح جماح المليشيات.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here