مسرحية بوهج الإنتفاضة

جاسم الحلفي

المشهد الأخير من مسرحية “حنين حار” يجسد الوجع العراقي بتكثيف شديد، يجسد الحياة والموت في آن، ويوجز يوميات المواطن العراقي الذي يبحث عن الامل فيما يعيش الخيبات.. هو المشهد المتكرر الذي يجعل المنكسر يستعذب الموت.

بكلمة أخرى هو وجع كل من يبحث عن موت يليق بالمتطلعين الى عراق السلام والأمان، بعيدا عن الانكسارات والخيبات. هكذا تجد لحظات تشييع الشهيد اقرب الى الزفة المبهجة الممزوجة بألم الفقدان. يفخر ذووه بتضحيته رفضا للذل، وتعبيرا عن الشجاعة النادرة لصناع الامل بالتغيير. هكذا عبّر المشهد الأخير عن (أحلى موته)، رغم السخط على القتلة وعلى جرائم قمعهم الانتفاضة. عبّر عنها بصيحة موجعة: “راحوا ولدنا”. هذه هي المفارقة التي تتكرر في مآسينا ونحن نستعذب الموت، وكأنه محمّل بالجمال. هذا هو واقع حال العراقي في حياته .. إذ يشكل رقما في معادلة صراع المتسلطين على السلطة، وضحية لصراعاتهم وهم يمارسون القهر والاذلال.

هذا المشهد قدم رؤية طبيعية لما يجب ان يكون عليه شارع الرشيد، مثل أي شارع في بلد يعيش حياة طبيعية وتنتشر فيه المسارح والمعارض ودور السينما والناس المبتهجة بحركتها اليومية. ويأتي استحضار التصفيق من طرف جمهور متذوق للفن في صالة تزدحم به. لكن هذا لا وجود واقعيا له، في زمن الفساد واللصوصية والنهب النظم للمال العام، لذلك تحول التصفيق الذي يترجم المسرة، في لحظة خاطفة يصعب الامساك بها، الى زخات رصاص، هي عين تلك الزخات التي اطلقت على الجمهور المنتفض، حامل رايات الامل في رؤية الافراح تعم بلدا خاليا من الظلم والخراب. وفي لقطة مدهشة يتحول تصفيق جمهور المسرح صوتيا إلى زخات رصاص. ولم استغرب، فهكذا يتطلع الفنانون بأمل الى الحياة الجميلة، وهم المشاركون في الانتفاضة ويومياتها، وهم شهود القمع الذي سُلط عليها وسقوط الشهداء.

حين اركز هنا على المشهد الأخير، فحرصا على تسليط الضوء على مشهد الحياة والموت، وضغط الحياة اليومية على الانسان المكافح الذي يمسك بتلابيب الامل، مثل أي عراقي يعيش تحت وطأة سلطة تسلبه الحق في الحياة والعيش الكريم.

وهكذا مشاهد المسرحية جميعا، والتي يصعب عليك حساب فواصلها، فالمشاهد تتوالى بسرعة ولا تعطي عينيك مجالا لأن تزوغ لحظة فلا تتابع العمل المدهش.

لم يكن لنجاح المسرحية المتميز ان يتحقق لولا الأداء اللافت حصيلة المران المثابر، الذي قدمه الفنان الدكتور مناضل داود، تشاركه الفنانة آلاء نجم في الحركة الرشيقة والانسيابية، وفي الحوار الذي ربط الهم العائلي والضغط المعيشي اليومي ومناكفات الحياة الزوجية من جهة، والهم العام والصراع السياسي والاجتماعي من جهة ثانية. الحوار بالعربية الفصحى الذي تدفقت في سياقه كلمات وجمل بالعراقية الدارجة، ما جعل الحبكة في غاية الروعة، زادها جمالا الحضور المتميز للفنان أمين مقداد، الذي كان لموسيقاه وتمثيله حضور جميل حقا، وليس لملء فراغ درامي، علما انه شخصيا صاحب تجربة مريرة في إدامة عزف الموسيقى أيام تسلط داعش وارهابييها في مدينة الموصل.

حينما ادى الفنان مناضل داود دورالرسام التشكيلي جاءت لوحاته بصورة الديكور البسيط غير المكلف، وتجلى التغير في حركات الفنانين، وفي الاضاءة، فكان الجمال حاضرا في لوحات بصرية ممتعة، زادتها جمالا حركة الفنانين، وخفة انتقالاتهم، والعزف الموسيقي الملفت.

ستون دقيقة وعيناك مشدودتان الى الخشبة في مسرح الرافين لا تفارقانها، وانت تتابع مندهشا ومندمجا عطاء جواد والممثلين المبدعين .. يتحكمون بك، وانت منشد وغارق في متعة فريدة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here