عندما تضيق الرؤيا و تموت الأمكنة

بقلم مهدي قاسم

تعابير و أقوال متوهجة أخذت تنزوي جانبا ، مستريحة في ركن منسي ربما مؤقتا
، ولكنها

لازالت تومض بشعريتها الوهاجة سطعت ذات يوم في ذاكرتنا عندما كنا فتيانا
حديثي الحدث بالقراءة وكتابة النصوص ، من حيث تحولت إلى قناديل من شعاع وامض ينير خطونا الفتي آنذاك نحو اقانيم من مجاهيل خلابة وساحرة ذات تلويحات مثيرة و مغرية و غاوية و أحيانا نحو دروب الحتوف كمتمردين رومانسيين ومتحمسين لحد معانقة الموت براحة صدر و فروسية
!!، فطالما كنا نردد مثلا :

ــ ” كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة أظن ــ أنها للنفري ولكن بعضا منا
سرعان ما تطورها إلى العبارة التالية” كلما ضاق خطوي اتسعت رؤيتي ” ” وكذلك من قبيل ” إذا خربتَ حياتك في مكان ما فهي مخربة في كل مكان ” ــ لقسطنين كفافيس أو ” إّذا ولدتَ وحيدا ستبقى هكذا إلى إلى الأبد ” لماريا ريلكة ــ أم ” آه تعبت من المحبة و الإفلاس ” لسركون
بولص ” والخ ، أو غيرها من أبيات شعرية أو حكم وتعابير ذات حمولات رؤيوية نفاذة ومثيرة ومهيجة للذاكرة والمخيلة في آن ، فكم كنا شغوفين ومولعين بها نرددها بطقسية خاصة ، كأنما نريد أن نقدح رؤيتنا وفنارات حياتنا بهذا القوت الروحي الإضافي ، لنضفي على حياتنا معنى
أكثر عمقا واتساعا و مدى بل و جدارة بعيش ذات سمو نبيل ..

تذكرتُ كل هذا و أنا أشعر و أحس كم أصبحت بعض الكلمات والتعابير المتداولة
حاليا في هذا العصر و كأنها غدت من بلاستيك بارد و اجوف مصّنع باستعجال و افتعال ، و لم تعد لها ذات تأثيرها السابق والمتغلغل في الذاكرة والمتحول إلى أشبه بأغنية محببة يدندن بها المرء تعبيرا عن فرحة أو بهجة غامضة مثلما قديما ، كل هذا في الوقت الذي يبدو كثير
من الناس وهم في بحبوبة من العيش ، ولكن بكأبة وقلق وعزلة و استغراق ذاهل يعصف في دواخلهم المضطربة بخفاء ، و قد سبق ذلك موت الأمكنة الأليفة والدافئة والحميمية فيما مضى ، ويا ما أمضينا فيها ردحا طويلا من أوقاتنا ونحن متوهجين برؤيتنا وتجلياتنا و اشتعالاتنا اليومية
، محترقين بكل طيبة خاطر لكي يخرج من ركام رمادنا قصيدة جميلة أو قصة مدهشة أم لوحة تشكيلية ، و الآن ليس فقط ضاقت الرؤيا بل و الأرض أيضا بينما خطونا أضحى متأرجحا ، متخبطا في تيهه المجهول ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here