الجذور التاريخية للعقائد البارزانية….عرض ونقد

أ.د. فرست مرعي

لقد كانت مبادرة شجاعة من لدن السيد فريد أسَسَرد القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني ومدير مركز كردستان للدراسات الإستراتيجية في السليمانية، عندما فتح ملف (الجذور التاريخية لأصول العقائد البارزانية)، فالعقيدة في الأديان السماوية كما في الإسلام هي الركن الأساسي الأول فيها، وبدونها فان الإنسان يفقد كينونته وهويته.

ولما كان الموضوع يخص عشائر الاتحاد البارزاني التي تتكون من ائتلاف سبعة عشائر وهي: بروزي ، وشيرواني، ومزوري، ودولمري، ونزارى، وكه ردي، وهركى بنه جه، فأنهم ينضوون تحت مسمى أهل السنة والجماعة – مذهب الإمام الشافعي تحديدا- وأراد السيد أسسرد في طرح هذا العنوان الضخم (أصول العقائد البارزانية) الذي يشي بأشياء كثيرة منها على اقل تقدير – الفصل بين هذه القبائل البارزانية وبين الإسلام- أي بعبارة أخرى إن البارزانيين أصحاب اتجاه باطني لهم تفسيرهم الخاص للإسلام على غرار الفرق الباطنية التي عمت بلاد المسلمين خلال حقب التاريخ الإسلامي المختلفة: كالنصيرية (العلوية) في سوريا ولبنان وتركيا، والدرزية في سوريا ولبنان، والإسماعيلية بشتى أطيافها (الآغاخانية والسليمانية والداودية) في سوريا والهند واليمن، والبكتاشية في تركيا، والعلي إلهية(= اليارسان) في كردستان إيران، والكاكائية (أهل الحق والصارلية)، والحقه في كردستان العراق… الخ.

الواقع أن مؤرِّخي الفِرَق مختلفون في أصل فرقة الباطنية ومصدرها؛ فمنهم مَن يُرجِعها إلى المجوس، ومنهم مَن ينسبها إلى صابئة حران، إلاَّ أن هذا الاختلاف يزول عندما نعرف أن الأصول التي يعتمد عليها الباطنية بكلِّ فِرَقِها وطوائفها نابعةٌ من الفلسفة اليونانية التي غزت بأفكارها الكثير من الفرق.

والفلسفة اليونانية الأكثر تأثيرًا هي فلسفة أفلوطين الإشراقية الغنوصية، وفيثاغورس بفلسفته العددية، ويمكن القول بأن منظومة عبدالله بن سبأ هي منظومة غنوصية باطنية، ويرى المؤرِّخون أن (التصوف الإسلامي الحلولي) المتطرِّف ذو طابع غنوصي باطني، كما يُصنَّف بعض غلاة الشيعة ضمن الغنوصيين، ويُصنَّف العلويون (النصيريون) باعتبارهم جماعة إسلامية ذات توجُّه غنوصي.

وتُصَنَّف عقيدة الدروز والبهائية ضمن أشكال الغنوص، ولا تزال هناك فرقة دينية في العراق وإيران تُسمَّى المندائيين، وهي فرقة غنوصية يبلغ عدد أفرادها خمسة عشر ألفًا، و(مندائي) هي الكلمة الآرامية لـ(غنوص)، فالمندائي هو العارف؛ وهي مشتقَّة من كلمة (منداء) أو (منداع) بمعنى (معرفة)، وتتضمَّن عقيدتهم التطهُّر في المياه الجارية وشعائر جنائزية مركَّبة، فحينما يموت المندائي يقوم الكاهن بالشعائر اللازمة لإعادة الروح لمسكنها الإلهي، ليتوحَّد الميت مرَّة أخرى مع آدم السري (الإنسان الأزلي)، أو المجد، جسد الإله المقدَّس.

هذا عن أصل الأفكار، أمَّا أصل الدعوة ورأسها فكان من زمرة الشيعة، فالباطنية ظاهرة شاعَتْ بين الطوائف الفارسية الشيعية: “… نشَأَت محاولة هدم الإسلام من الداخل؛ عن طريق ابتداع مناهج الباطنية في تأويل الشريعة على نحوٍ يؤدِّي إلى نسخها، والاستعاضة عنها بخليطٍ عجيب من الحكمة، يجمع بين خرافات الفرس، ووثنية الإغريق، وعقائد اليهود الذين حرَّفوا دينهم من قبل، فظهرت بصيغة إسلامية خادعة: كفكرة النور المحمدي، وعصمة الأئمَّة، ومعجزاتهم، والغيبة، والرجعة، والحلول، والتجسيم، والتأويل والتشبيه، وغير ذلك من الأفكار والعقائد.

وعلى مَن يفرك فكر الباطنية أن يلمَّ بنشأة الشيعة الغالية؛ إذ التشيُّع كان ثوبًا يتستَّر وراءه كلُّ مَن يبغي بذر الفتن ضدَّ المسلمين، ومأوى يلجأ إليه كلُّ مَن رام هدم عُرَى الإسلام؛ بحَشْوِ البِدَع بآراء آبائه وأجداده من يهودية ونصرانية وهندوسية وفيثاغورسية وأفلاطونية وأفلوطينية حديثة.

فقد ظهر بعد عبدالله بن سبأ اليهودي اليمني بأفكاره الحلولية أبو هاشم عبدالله بن محمد ابن الحنفية زعيم الغلاة الشيعة، فقال بالظاهر والباطن، وبعده بيان بن سمعان الذي أعلن ألوهية علي

بن أبي طالب – رضِي الله عنه – وقال بتناسخ الأرواح، ونسخ الشريعة المحمدية، ثم ظهر المغيرة بن سعيد العجلي الذي اشتهَر بعلوم وأسرار العدد، ثم أبو منصور العجلي الذي رفع الأئمَّة الشيعة إلى مصافِّ الألوهية، ثم جاء أبو الخطاب الأسدي شيخ الخطَّابية ومنبت الإسماعيلية وادَّعى الإمامة ثم النبوَّة، ثم أسقط التكاليف الشرعية، وتخرَّج على يديه زعماء الباطنية وأهمهم: محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق رأس الإسماعيلية ومنهم المباركية، وميمون القدَّاح رأس الميمونية والتي توالَد منها القرامطة والعبيدية والنزارية والحشاشون والدروز.

وتلامذة أبي الخطاب بعد هلاكه توجَّهوا لوجهتين؛ فميمون القدَّاح وابنه عبدالله اتبعَا المبارك – مولى لإسماعيل بن جعفر – في القول بإمامة محمد بن إسماعيل، وأسسَا بناءً على ذلك الطائفة الإسماعيلية أو المباركية، أمَّا المفضل الجعفي فقد تظاهَر بالعودة لفرقة موسى الكاظم الاثني عشرية، وبثَّ فيها أفكار الخطابية، لتفرز النصيرية.

ولم يظهر النشاط السياسي للباطنية بشكلٍ منظَّم ومرسوم إلاَّ على يد ميمون القدَّاح، الذي أجمعت كل كتب الفِرَق والملل على أن هذا الرجل هو المؤسس الحقيقي لهذه الطائفة، وليس معنى هذا أن مبادئ الباطنية لم تكن معروفة من قبلُ، وإنما يرجع إلى ميمون القدَّاح دور تنظيم هذه الفرقة، وتكوين وتعليم دعاتها، وإرسالهم إلى الأقطار المختلفة لينشروا مبادئهم وتعاليمهم بين الناس.

وفي العصر الحديث برزت كيانات سياسية من هذه الفرق كالنصيرية والدروز، مكَّن لها الاستعمار الغربي واستعملها كوسيلة لإضعاف كيان الإسلام من الداخل، وعرقلة جهود المسلمين في الوحدة والبناء والتنمية. وعندما نمعن النظر في أسلوب عمل هذه الفرق جميعاً، نلاحظ أن القواسم المشتركة بينها كثيرة، ومقاطع الاتفاق بينها جلية، كأنها تسير على منهاج واحد.

وعلى أية حال فإن كتاب السيد (فريد أسَسَرد) بعنوان (أصول العقائد البارزانية)، يتكون من مقدمة وستة فصول وملاحق، كل فصل منها يشتمل على مبحثين ماعدا الرابع والخامس فإنهما يضمان ثلاثة مباحث.

الفصل الأول: الاصول، ويتعلقان بالبحث عن أصول هذه العقائد البارزانية التي تظهر في الاصول الاسماعيلية (= الشيعة الغلاة)، والاصول الصوفية (= النقشبندية وما لحقها من تصوف فلسفي).

الفصل الثاني: التستر والمكاشفة، أي التقية (= دور الستر)، ومرحلة المكاشفة (= دور الظهور).

الفصل الثالث: البنيات الاجتماعية، وتتعلق ب(سوسيولوجيا العلاقات) ومفهوم الملة (= مصطلح خاص بالبارزانيين يعني الاتباع).

الفصل الرابع: الرموز وعوامل التماسك، ويشتملان على : نظام الطاعة، والعمامة الحمراء التي يعتمرها البارزانيون دون غيرهم من الاكراد، وخدان وهو مصطلح له مفهوم خاص.

الفصل الخامس: السنوات العصيبة، وهو فصل تاريخي يتناول سنوات النفي (= أي نفي قادة البارزانيين الى وسط وجنوب العراق في سنوات الثلاثينيات وبداية اربعينيات القرن العشرين)، والسنوات الاخيرة (= من عمر الشيخ احمد البارزاني)، المدرسة الخورشيدية (= المدرسة التي ورثت تراث الشيخ احمد البارزاني).

الفصل السادس: بارزان وسلالة الشيوخ (= البحث عن جغرافية وتاريخ قرية بارزان، وأصول سلالة شيوخ بارزان).

تحديد المفاهيم

في المقدمة تناول فريد اسسرد تحديد مفهوم البارزانيين كمدخل الى الدراسة. فالبارزانيون كما هو سائد عنهم لا يشكلون قبيلة بحد ذاتها، ولم يعرف نظامهم الاقتصادي أي نوع من الاقطاع، فهم يشكلون اتحاداً قبلياً ظهر الى عالم الوجود في العقد الاول من القرن العشرين حينما إنقسمت قبيلة الزيبار الى قسمين إثر النزاع الذي حدث بين اغوات الزيبار وشيوخ بارزان، وتحول الى صراع دموي كان النصر فيه حليف شيوخ بارزان، مما ادى الى تشعب الزيباريين الى قسمين : قسم بقي خاضعاً للاغوات وهؤلاء استقروا في المنطقة الواقعة غرب نهر الزاب الكبير وكانوا موالين للحكومات التي تعاقبت على حكم العراق، والقسم الاخر انتصروا لشيوخ بارزان وهم المعروفون بالبروزيين (= مقابل الشمس) الساكنين اصلاً شرق نهر الزاب الكبير، وانضم اليهم قبل وبعد ذلك عشائر اخرى مجاورة بتأثير الدعوة الصوفية النقشبندية كالشيروانيين والمزوريين والدولمريين وغيرهم.

ويبدو ان تاريخ بارزان يبدأ منذ العقد الثالث من القرن التاسع عشر حينما سلم الشيخ طه النهري خلافة الطريقة النقشبندية الى الشيخ تاج الدين(عبد الرحمن بن ملا عبدالله البارزاني) في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي رأس عائلة الشيوخ في بارزان.

ويذكر الكاتب بأن تراكم الثروة في مشيخات نهري(= الواقعة في كردستان تركيا قرب الحدود العراقية) وسورجي (= شرق الموصل)، وبرادوست (= شمال شرق بارزان قرب الحدود الايرانية)، أدى الى تحول زعاماتها الدينية الى ارستقراطية دينية – زراعية، في حين لم تظهر بين البارزانيين حتى زوال مشيختهم في عام1389هـ/ 1969م بوفاة الشيخ احمد البارزاني أية زعامة ارستقراطية دينية – زراعية.

ويشير الكاتب بأن حدثان ساهما في تفعيل العقائد البارزانية وتعاظم دور التكية النقشبندية في الحياة العامة للبارزانيين وهما : الهزيمة التي مني بها البارزانيون في صراعم ضد القبيلة البروارية وحلفائهم من المسيحيين الجبليين (= التياريين) في زمن يقع مابين 1820م و1830م، ونجم عنها ابادة ممثلي الارستقراطية الزراعية (= آغوات بارزان) الاوائل، الامر الذي مهد لتولي شيوخ الطريقة النقشبندية زمام الامور، أما الحدث الثاني فهو الهزيمة التي لحقت بالشيخ عبيدالله النهري في حربه ضد الدولة القاجارية (= ايران) عام 1299هـ/1880م، مما الى توتر االعلاقات بين الدولتين العثمانية والقاجارية، وكان من نتائج ذلك ان نفت السلطات العثمانية الشيخ عبيدالله واسرته الى الحجاز باعتباره من رعاياها حيث وافته المنية سنة1302هـ/1883م. وبسبب هذا الفراغ الذي حصل بانهيار سلطة مشيخة نهري تطلعت مشيخة بارزان في عهد الشيخ محمد المتوفى سنة1321هـ/1902م (= والد الشيخ احمد وملا مصطفى) الى ممارسة دور اكبر في الحياة اعتبارا من عام1314هـ/1895م.

الأصول الإسماعيلية والصوفية الغالية للعقائد البارزانية

افترض الكاتب منذ البداية بأن هناك اصلين محتملين للعقائد والافكار البارزانية : اصل اسماعيلي واصل تصوفي. والافتراض الاخر هو انه حدث إندماج بين هذين الاصلين مما كان له تأثيركبيرعلى البنية الايديولوجية للعقائد البارزانية.

من البداية حاول الكاتب ادخال البارزانيين ضمن منظومة من الافكار والعقائد التي تخالف – منهج اهل السنة والجماعة – مذهب الغالبية العظمى من الكرد، أي بعبارة اخرى اعتبرهم فرقة

باطنية على غرار الفرق الباطنية الاخرى: كالاسماعيلية والدروز والنصيرية (العلويين)، لان عنوان الكتاب اصلاً يشي بهذه الفكرة.

ويعترف الكاتب بان ثمة تاريخ طويل يفصل بين ظهور الاسماعيليين والبارزانيين، ولكنهم أي الاسماعيليون تركوا اثار واضحة على البنيات الدينية – والفلسفية للفرق التي جاءت بعدهم، لان تحليل المناخات الفكرية للعقائد البارزانية تكشف عن وجود نواة اسماعيلية واضحة فيها.

نظرية رفع التكاليف

عند بحث الكاتب تصورات ورؤى الاسماعيلية عن ذات الله سبحانه وتعالى، يرى بأنهم تبنوا نظرية الفيض الافلاطونية التي رتبت الوجود ترتيباً يقف في أوله المبدأ الاول (الله سبحانه وتعالى) ثم العقل الكلي، ثم النفس الكلية، ثم المادة، وذهبوا الى ان العلاقة بين هذه الموجودات وبين الله سبحانه وتعالى، ليست علاقة خلق أو إيجاد من الله بل علاقة فيض أو صدور، بمعنى ان المبدأ الاول فاض منه العقل الكلي، ومن العقل الكلي صدرت النفس الكلية، ثم العالم المادي من النفس الكلية. وكان هذا مدعاة لقولهم بانكار صفات الله، رغم قولهم بوجود الله تعالى ولكنهم جردوه من كل صفة ونعت(= التعطيل)، وبالتالي روجوا لما معناه انه غير قابل للادراك، وان العقل البشري عاجز عن ادراك كنهه، ووصل بهم الامر الى الحد الذي قدموا فيه تبريراً لالغاء الشعائر الاسلامية (رفع التكاليف) : من صلاة وصوم وحج وغيرها – لانه طالما كان الله غير قابل للادراك فان هذه الشعائر تؤدي لا لله الذي لا يدرك انما لمظاهره الخارجية!.

نعم قد تلتقي العقائد الاسماعيلية والعقائد البارزانية في مسألة رفع التكاليف، لانها محاولة لتوفير متطلبات معرفة الله (= الغنوصية) والاتصال به دون المرور بمحطة الشريعة.

وبعد ان يجري الكاتب مقارنة بين عقائد بعض الفرق الباطنية كالدولة الاسماعيلية(النزارية- الحشاشون) التي أقامها (حسن الصباح) في جبال آلموت جنوب شرق بحر قزوين في سنة 483ه/1090م، والعقائد البارزانية سيصل الى نتيجة مفادها أن مرحلة – المكاشفة عند البارزانيين – تقابل – دور الظهور عند الاسماعيليين- كما أن العقائد البارزانية تطرح نفسها كعقائد بلا طقوس، أي أن اتباعها غير ملزمين بأداء أية تكاليف شرعية.

وما لم يذكره الكاتب أسسرد، فان الصحفي الامريكي (جوناثان راندل) أشار في كتابه (أمة في شقاق) الصفحة 452، بقوله :” في الثلاثينيات (من القرن العشرين) أتهم البريطانيون والاكراد المعادون للبرزانيين، الشيخ احمد بأنه اوجد طائفة تبيح حرية العلاقات الجنسية، وأكل لحم

الخنزير، وعدم أداء الصلوات الخمس يوميا. وربما يكون هدف هذه التهم، تشويه صورة الشيخ احمد وطروحاته القومية في أعين الاكراد المتدينين، لكن جبال الشرق الاوسط، شكلت على مر العصور ملجأ للطوائف والاقليات الدينية المختلفة مثل العلويين، واليزيديين، والدروز، فضلاً عن سائر المذاهب المسيحية. وقد روى لي عبالسلام البرزاني، ان أحد اتباع الشيخ احمد قال له ذات مرة، ان الناس ينتقدونه لانه لايصوم ولا يصلي يومياً. فرد عليه (هذا كل ما يقولونه) ؟ ورداً على سؤال عما اذا كان الشيخ احمد قد أسس فعلاً طائفة خاصة، أجابني عبد السلام البرزاني بحذر قائلاً (قد لا يخلو هذا القول من الصحة) ثم استشهد بآية قرآنية “يا ايها الذين امنوا صلوا علكم تذكرون” ( لاحظ ركاكة التعبير القرآني )، وقال : ” نحن نشدد على التذكُر فقط، وليس على الصلاة. فبعض الناس يؤكدون ان على الانسان أن يصلي خمس مرات يومياً، وثلاث مرات فقط في بعض الايام. لكن اذا كنت تتذكر الله، فستذكره وانت نائم، وعندما تعمل، وعندما تمشي، وفي كل ما تفعله”.

ففي العقائد الاسماعيلية يقترن الغاء الفرائض بعقيدة – يوم القيامة – وقد طور الميثاق الاجتماعي الاسماعيلي عقائد تنبؤية تتعلق بيوم القيامة. واذا كان قد تم الاعلان عن الغاء الفرائض، فذاك لأنه بعد توصل الاسماعيليين الى المعاني المستورة للنصوص المقدسة لم يعد لأداء الفرائض أي معنى. وفي سوريا تولى الزعيم الاسماعيلي النزاري- زعيم الجبل (راشد الدين سنان) إعلان طور القيامة في النصف الثاني من القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي.

ومن شأن التمعن في التصور الدرزي لالغاء الفرائض ان يوضح البنيات الاخلاقية في عصر إنتفت فيه الحاجة الى الغاء التكاليف. اعتبر الدروز ان التكاليف سقطت عنهم لأنهم تجاوزوها ولم تعد لهم بها حاجة، ورأوا ان كل فريضة في كفة الميزان تعادل معنى اخلاقياً في الكفة الاخرى.

وبشأن التكتم الذي تبديه العقائد البارزانية فانه من الصعوبة بمكان التوصل الى معرفة الاسلوب الذي أعلنت فيه التكية البارزانية إسقاط التكاليف الشرعية. هذا التخلي الارادي عن التكاليف بقدر ما خفف من صرامة الالتزام الميكانيكي بالتكاليف، فرض بالقدر نفسه الالتزام الاشد صرامة بالمعايير الاخلاقية. حيث يصل الكاتب الى القول ” يمكن النظر الى ذلك باعتباره ميلاً الى التحرر من القيود التي تعيق تدفق التجربة الروحية دون الخروج من الاطار العام للاسلام”.

وعلى النقيض من كثير من العقائد الباطنية المشابهة، لاتحتوي البنية العقائدية البارزانية على أدبيات دينية. لقد قدمت مشيخة بارزان لاتباعها عقائد بسيطة خالية من الاداب المكتوبة والطقوس المتبعة، ولم تنبثق عن هذه العقائد بنية فلسفية متكاملة، لكن مشيخة بارزان حققت توازناً بين

التخلي عن الشعائر الاسلامية المتبعة من صلاة وصوم وحج(= سقوط التكاليف الشرعية)، وبين الحفاظ على البنيات الاخلاقية الصارمة. هذا النجاح الذي يستحق الثناء حسب – تعبير الكاتب – حققه الدروز قبلهم بمئات السنين.

نظرية وحدة الوجود

يحاول الكاتب جاهداً ربط منظومة الافكار البارزانية بنظرية وحدة الوجود المبنية اصلاً على فكرة نظرية الفيض الافلاطونية التي صاغها الصوفي المشهور (ابن عربي المتوفى سنة638هـ/1240م)، وفي وحدة الوجود ليس العالم آتياً من العدم او بالصدفة، بل هو مظهر من مظاهر التجلي الالهي. هذه الفكرة بنفس المضمون موجودة في عقائد (المدرسة الخورشيدية)، وهي مدرسة وضع أسسها الشيخ احمد البارزاني في منتصف الستينيات من القرن العشرين واكتسبت اسمها من اسم زعيمهم (خورشيد) ابن اخت الشيخ احمد الذي كان يفترض ان يتولى قيادة مشيخة بارزان بعد رحيل الشيخ احمد في عام1389هـ/1969م

وعلى السياق نفسه فان المدرسة الخورشيدية تعبر عن هذه الفكرة العريقة بنص قريب جداً من النص المستخدم في نظرية وحدة الوجود، يقول: ” لا شيء يأتي من العدم لأن العدم يعني العدم”.

وهناك نقطة مهمة ان نظام التربية الروحية لفريق المصطَفَين الذي تشكل في ستينيات القرن العشرين على يد الشيخ احمد البارزاني، إعتمد على مجموعة من أدبيات التراث الصوفي بينها أدبيات الصوفي الحلولي (الحلاج المقتول سنة309هـ/921م).

ومن جانب آخر فإن مصطلح (خُدان) الذي فسره الكاتب على انه يعبر عن خصوصية تفرد بها بعض زعماء المشيخة كالشيخ عبد السلام الثاني واخيه الشيخ احمد، واجه معارضة من قبل خصوم البارزانيين حسب الكاتب، الذين استغلوا تعدد المعاني اللغوية للقب للطعن في صحة البنيات الايديولوجية للعقائد البارزانية واعتباره رمزاً من رموز الالوهية، أسبغه البارزانيون على شيوخهم، لأنك كلمة (خُدا) تعني (الله) في اللغة الكردية.

و بهذا الصدد يذكر المستشرق البريطاني (سبنسر ترمنجهام) في كتابه (الفرق الصوفية في الاسلام) الصفحة 198-199: ” كانت دعاية الشيخ خالد(= الجاف النقشبندي) ناجحة في جعل أعضاء العائلات القادرية الهامة في كردستان تتحول الى النقشبندية، مع تأثير ملموس على التاريخ اللاحق للقومية الكردية، أما عبدالله بن الملا صالح الشهير بعد أن أصبح نقشبنديا جعل نهري هي مركزه وجاءت عائلة حيث سيطرت على السلطة الدينية، خاصة في ظل (الشيخ) عبيد

الله (1870-1883م) الذي فرض سلطته على منطقة واسعة، وقد كان على عداء مع عائلة اخرى هي عائلة البارزاني، وقام احد خلفاء خالد والمدعو تاج الدين بتوطيد نفسه في برزان وهي منطقة كردية في شمال عراق، واصبح فرعه عاملا في القومية الكردية، وقد كسب ابن تاج الدين، عبدالسلام وحفيده محمد مكانة روحية سامية بين القرويين في الجبال شمال نهر الزاب، الذين تخلو عن الولاء القادري، وجاءوا لتكوين تجمع قبلي جديد هو البرزاني- المستقل فعلا عن السلطة العثمانية.وفي سنة1346هـ/1927م لصقت الفرقة سمعة سيئة خاصة حين أعلن أحد تلاميذ شيخها الخامس(= ملا جوج) أن شيخه أو سيده هو تجسيد لله، وانه هو نبيه وقد عاش هذا النبي عدة شهور فقط ومات الدين الجديد معه، وكذلك فان التأريخ اللاحق للبرزانيين لم يكن لهم مكان في تأريخ الفرق الدينية “.

مبدأ التناسخ

يذكر الكاتب بناءً على معلومات مستقاة من البارزانيين الى ان الشيخ احمد البارزاني حث المتعلمين من أتباعه على مطالعة آداب تتصل بالفلسفة، وحدد على نوع واضح مطاليبه فشدد على قراءة مؤلفات ثلاثة من أصحاب التصوف الفلسفي أو العارفين حسب الكاتب وهم : الحلاج، وابن عربي، وجلال الدين الرومي المتوفى سنة762هـ/1361م. إن تحديد الاسماء بهذه الدقة من شأنه ان يسلط الضوء على المنحى الفلسفي لأنشطة الشيخ المعرفية . وبالتالي فان اطلاع الشيخ احمد على مؤلفات الثلاثة المذكورين يعطينا فرصة لافتراض انه حاز على درجة عالية من الثقافة الفلسفية المتمثلة في طروحات هؤلاء المتمثلة بالفناء في الله، ووحدة الوجود أي إتحاد الانسان بالله، أي وحدة اللاهوت والناسوت. وفي الحقيقة فان افكار هؤلاء الثلاثة كانت مزيجاً من العقائد الهندية (=التناسخ )، واليونانية (=نظرية الفيض الافلاطونية )، والمجوسية الزرادشتية (=المخلص- المنقذ- الانسان الكامل) التي سادت الحقبة السابقة لظهورهم، وهذا ما ألقى بظلاله على العقائد البارزانية، ولكن مع ذلك فانه من الصعوبة بمكان تحديد رؤية العقائد البارزانية لمفهوم التناسخ أو مفهوم تجدد الحياة بعد الموت، فضلاً عن العلاقة بين الروح والجسد ومآل الروح بعد الموت. ويمكن للمتعمن في أصول العقائد البارزانية ان يوفر مادة مناسبة لأيجاد صلة بينها وبين عقائد سابقة كما ذكرنا أدعت حصولها على معرفة بالغة القيمة بمآل الروح بعد الموت. وفي الوقت نفسه لايمكن إهمال جاذبية الدلالات التي تشير الى مفاهيم بدائية قد تكون من بقايا عقيدة التناسخ أو قريبة جداً منها. وفي كل الاحوال فانه لم يتم رصد نشاط من شأنه ان يوحي بأن

المشيخة جهدت للترويج لمفاهيم واضحة المعالم حول التناسخ، وفي عهد الشيخ احمد جرى التكتم بشكل كبير على هذا الموضوع . وبحسب الكاتب أسسرد فأن هناك نقطة مهمة من غير الممكن التهاون بشأنها وهي أن – الحركة الخورشيدية – وهي حركة قامت بشكل أساسي برعاية الشيخ وإستمرت بعده ولا زالت، روجت لمفاهيم ليس صعباً تصنيفها كمفاهيم لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بموضوع تجدد الحياة بعد الموت وإنتقال الروح من جسد الى آخر (= عقيدة التناسخ ) .

المدرسة الخورشيدية

خلال الفترة الاخيرة من حياة الشيخ احمد لم ينفك عن التفكير في الاسلوب الذي يضمن انتقالاً سلمياً للسلطة الى الشيخ المقبل، وبحسب عملية الاستخلاف التي جرت في الماضي، يبدو جلياً ان المشيخة لم تعتمد على نقل السلطة الى الشيخ المقبل إلا بناء على توصية، تكون على الاغلب شفاهية صادرة من الشيخ السابق. وتعود جذور هذه الطريقة في الاستخلاف الى الاسلوب الذي اتبعته كل الطرق الصوفية قبل ان يتحول حق الاستخلاف الى حق وراثي.

ويبدو أن الشيخ احمد لم يكن مصمماً على إستخلاف أي من أولاده: عثمان، ومحمد خالد، ونذير، أو ابن أخيه سليمان بن الشيخ عبد السلام، ان الاسباب التي جعلته يستبعد هؤلاء جميعاً تتعلق على الاغلب باعتقاده حسب الكاتب أسَسَرد، أن بين أتباعه من هو أصلح منهم لتولي المسؤولية. هناك على الاقل اشارتان ضمنيتان في الفترة من منتصف الستينيات حتى أوائل عام1969م تحملان على الظن أن الشيخ احمد كان يفكر في تعيين – خورشيد- خلفاً له .

لم يكن خورشيد سليل اسرة ارستقراطية دينية، كانت أمه هي السيدة مريم أخت الشيخ احمد، ويبدو ان علاقة الشيخ مع اخته كانت حميمة، وهذا ما حثه على رعاية خورشيد، ويرى الكاتب ان السلوك اليومي لخورشيد وإختلاطه مع افراد اسرة الشيوخ قد ترك آثاراً إيجابية في هوى الشيخ جعله يفكر في إعداده للمستقبل.

والاشارتان الاساسيتان اللتين يمكن عدهما جديرتين بالتمعن واللتين تفصحان عن نية الشيخ احمد، يمكن تلمسهما من حادثتين مخطط لهما في عام 1968م، في ربيع ذلك العام بعد أن جاء الشيخ الى تكية بارزان، طلب من أتباعه أن يذهبوا الى حيث خورشيد في قرية (شري) الواقعة على الضفة الجنوبية (الغربية) لنهر الزاب الكبير، هكذا نظم أهالي بارزان مسيرة حاشدة تاركين قريتهم متجهين نحو شري، حيث استقبلهم خورشيد وخطب فيهم خطبة عادية تتعلق بضرورة

الالتزام بوصايا الشيخ احمد، تكمن أهمية هذا الحدث في انه اول اشارة واصحة الى ان الشيخ احمد كان يخطط لتهيئة خورشيد للظهور بمظهر الزعيم المقبل للمشيخة.

وفي صيف العام نفسه أرسل الشيخ احمد في طلب خورشيد، وعندما اقترب خورشيد من بارزان، خرج الشيخ بنفسه لاستقباله ولم يعيقه عن ذلك المرض الذي ألم به. لقد فهم الاتباع ان الشيخ احمد قد صمم على إستخلاف خورشيد.

بعد رحيل الشيخ احمد في عام 1969م اعتبر الشيخ عثمان بن الشيخ احمد الابن الثاني للشيخ، أنه أحق بخلافة والده، وقد تصرف بالفعل كشيخ معترف به، وإتخذ من التكية مركزاً له ومارس طقوس المشيخة، وحاز على اعتراف جمهور غفير من البارزانيين، أما خورشيد فانه لم يعلن مشيخته على الاطلاق، لعوامل عديدة منها الخوف من حدوث شق في صفوف البارزانيين، فضلاً انه لم يكن راغباً أو بالاحرى قادرا ًفي تشكيل قوة مسلحة لمواجهة الشيخ عثمان، رغم ان عدداً من البارزانيين اعتبروه الشيخ الشرعي لمشيخة بارزان، وهؤلاء الاتباع عرفوا باسم (الخورشيديين )، وهذه التسمية هي مجرد إشارة تعريفية أكثر من كونها دلالة على خط فكري جديد أو مختلف عن الخط الفكري السابق أو السائد لدى البارزانيين، إن التعبير الذي يفضله ايوب بارزاني( ابن عم السيد مسعود البارزاني) استخدامه هو ( جماعة شرى)، نسبةً الى القرية التي صارت مركز الخورشيديين ابتداءً من عام 1969م والواقعة جنوب شرق بارزان، وان اتباع خورشيد لا يزالون يعتبرون ان المشيخة قد تم إغتصابها بسبب عامل القوة والامر الواقع الذي فرضه الشيخ عثمان أكثر من إعتماده على الشرعية التي كان الشيخ احمد قد اسبغها على ابن اخته، وإن لم يعلنها صراحة .

لقد أثارت هذه القضية جدلاً واسعاً بين البارزانيين تشبه الى حدٍ ما ( مع الفارق ) وهي ان حجة الخورشيديين تشبه حجة الشيعة الذين يرون ان النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نص صراحة على تعيين الامام علي خلفاً له وذلك في خطبة غدير خم، كذلك إعتبر الخورشيديون ان الاشارات التي عبر عنها الشيخ احمد تشكل دليلاً واضحاً على رغبته في ان يخلفه خورشيد.

هكذا وجدت المشيخة نفسها تواجه وضعاً لم تألفه من قبل، فلاول مرة في تاريخها تظهر مشكلة الزعامة الدينية، إن أي من الفريقين لم يستطع ان يقنع جميع البارزانيين بشرعيته، ذلك لان كليهما الشيخ عثمان وخورشيد كانا بحاجة الى تفويض واضح جلي من الشيخ احمد بأحقيته في المشيخة، لذا فحسب الكاتب أسَسَرد تعرضت المشيخة البارزانية الى أزمة شرعية القيادة . هكذا فانه من الناحية العملية انتهت مشيخة بارزان في عام 1969م برحيل الشيخ احمد البارزاني.

ولتعزيز سلطته فقد اعتقل الشيخ عثمان (خورشيد) ونفاه الى منطقة نائية مانعاً أتباعه من الاتصال به، وقد استمر ذلك النفي حتى عام 1974م. وفي إعتقاد الكاتب ان سياسة الشيخ عثمان لم تكن ترتكز على تفادي الازمات، فبعد عامين من إعلان نفسه زعيماً دينياً للبارزانيين( سنة 1971م)، تفجرت الخلافات بينه وبين عمه ملا مصطفى البارزاني زعيم الثورة الكردية، لاحقاً ضمن الشيخ عثمان دعم الحكومة العراقية له. وينقل الكاتب عن مذكرات (شكيب عقراوي) رئيس جهاز مخابرات الحزب الديمقراطي الكردستاني(= الباراستن) سابقاً التي نشرها أخيراً، والتي تشير الى خطط كان يفترض أن تؤدي في النهاية الى سيطرة الجيش العراقي على قصبة بارزان، لكن إعتراض الشيخ (محمد خالد بن الشيخ احمد البارزاني) أخ الشيخ عثمان على التعاون مع الحكومة العراقية أحبط تلك الخطط، وعلى إثرها التحق الشيخ عثمان مع عدة مئات من أتباعه بالحكومة العراقية في شهر أيار/مايس عام 1974م. وابتداءً من ذلك حاز الشيخ محمد خالد ثقة عمه ملا مصطفى، وهذا ما ولد الانطباع بأن عمه يقبل به زعيماً دينياً للبارزانيين.

ومهما يكن من أمر، يرى الخورشيديون(= أتباع خورشيد) أن مشيخة بارزان استمرت حتى عام1405هـ/1983م، وانها انتهت باعدام خورشيد وعدة آلاف من البارزانيين على يد نظام الرئيس السابق صدام حسين بسبب ما أشيع عن تعاون الحركة الكردية بقيادة الاخوين ادريس ومسعود نجلي مصطفى البارزاني مع الحكومة الايرانية إبان حرب الثماني سنوات(= حرب الخليج الاولى).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here