محطة رقم 3 الفرزة الخامسة

ومـن ذكـريـاتي في هـذا المـنـزل أن والـدي أقـام ولـيـمـةً الـى بعض معـارفـه الـقـدامى مِن عـشـيرة المكاصيص تـراوح

عــددهـم الـعـشـرة أشـخـاص وبعـد أن أكـلـوا مـا طـاب من الطـعـام جـاء دور الـفـاكهـة فـأكـلـوا منهـا الـى أن انـتـهـوا مـنهـا

عـنـدها نـاداني أبـي لـنـقـل الـمـواعـيـن الـفـارغـة الى الـداخـل وبـدأتُ أنـقـل الـمـواعـيـن دفـعـةً بعـد أخـرى الى أن وصلتُ

الى رجـلٍ بـطـيـنٍ يأكلُ الـمـشـمـش أكل الـناقـمـين عـليه فـانـحـنـيتُ لـرفع الـمـاعـون من أمامـه وفـيه مشمشات واذا

بـه يـزجـرني زجـرةً إهـتَـزّ لها بـدنـي وسـحبَ الـمـاعونَ الى حـضنـه ولـم يـتـركْـهُ إلّا خـالـيـاً وهنا تـذكـرتُ الـسـيـد أبـو

اقْــران وتـصـرفَـه الـغـريـب مـعي حين أبطأتُ بـمـلي الابـريـق وتـصرف الغريب .

وأتذكـرُ أنْ زارنـا إبـن عـمي نـاصـر مـسـاء أحـد الايـام وبـقي الى فـتـرة العـشـاء وبعـد أن خـرج أخـذتُ مَـقعـدَهُ المطروح

في الارض وأسندتُ رأسـي الى الـحائط ولأنّ والـدتي كـثـيـرةُ الـحـذر وشـديدةُ الانـتـبـاه لكل شـيءٍ غـريـبٍ يـظهـرُ

أمـامـهـا عـنـد الـمـسـاء وهو الوقت المناسب لخروج الهوام واخطرها العـقـارب و الحـيّات التي تـجـدهُ وقـتًا مـنـاسـبًا

وبعد مُدّةٍ لا تتجاوز يضع دقائق انـتـبـهتُ الـى أمـّي وهي تُـحـدّقُ في وجـهـي فـسـألـتُـها فـقالـتْ إرفـعْ رأسـكَ بهدوئ

عن الجـدار وإذا بــعُـقْــرُبان أسـود لـدغـتُـهُ والـقـبـرُ كما يُقال بـاسـطًا ذَنَـبَـهُ وسـاكنًا لايتحـرك لكونِ رأسـي عـلـيـه ومـا

أن رفعـتُ رأسـي حتى أخذ بالتـحـرك فـبـادرتهُ والـدتي بـضربـةٍ لا ثانية لها حيث أصبح بعدها خَـبـرًا .

وهذه هي المرة الثانية التي أنجو بفضل الله من لدغة العقرب حيث كانت الاولى في إحـدى الزيارات مع والـدتي

ووالـدي في الـنجـف أو في كـربلاء لا أدري بالضبط حيث نـمـنـا لـيـلـتَنـا بإحـدى الحُـجـر الـمخصصة للـزائـريـن وفي

الـصـباح بـدأنـا بِـلَــمِّ الـفـراش وجـمـعـهِ وإذا بعُـقْـربانٍ أسـودٍ مُـرعـبٍ يخرج من تحت مِخَـدّتي عـاجـلـتْـهُ والـدتي بـضربـةٍ

جـاءَ بـها أجـلُـهُ .

كان بيت أم إبراهيم كـثـيرَ الهـوامِ وكانت أمّـي في كل مـسـاء تـأخـذ الـفـانـوس وتـدور بـين أركان الـمنـزل وفـي زوايـاه

وكـثـيـراً مـا كانـتْ تعـثـر عـلى العـقـارب وغـيرهـا من الهـوام الـمـؤذيـة والـحـيـات وصادف فـي عـصـر يـومٍ صـيـفـيٍّ وأنـا

نـازلٌ من الـسطح شـاهـدتُ حـيّـةً وكان اليوم يـومَ جُـمـعـةٍ وهـو الـمخصص والمحبب للـذهاب مع أمّـي الى الـسـيـنما

أخـبـرتُـها عـن الـحـيّـةِ فـجاءتْ مُـسـرعـةً ومعـها خـشـبـةٌ صغـيرةٌ وحـاولـتْ إخـراجـها مـن شـقـوقِ حـائـطِ الـسُـلّـمِ كي

يُـتـاحَ لأُمّـي ضربـها إلّا أنّ الـحـيّـةَ كانـتْ صعـبةَ الـمـنالِ حتى أسـقـطـتـها على عَـتَـبَـةِ الـسـلّـم فـتـهيـأت الـفرصةُ للـحـيّـةِ

بـدخـول ثـقـب قريب من حـوض الـماء الصغـيـر الـمسـتـخـدم لغـسـل الايـدي والاواني خـافـت والـدتي تـرك الـحـيّـةِ

دون أن تـضـع نهـايـةً لـهـا وقـد أوشـكَ وقـت الـذهــاب للـسـيـنما يقــترب حـيـثُ ذهـبـتْ جـمـيع الـمـحاولات لـقـتـلها

هـبـاءًا ودخـلـت الـحـيّـةُ ثـقـبـاً آخـراً قـريـبـاً مِـن الاول فـكـانـتْ تُـخـرجُ رأسَـهـا مِـن الاول فـتـبـادرهـا أمّـي بـضربـةٍ لا تـؤثـر

فـيهـا ويـبـقـى أثـرُهـا فـي الـطـيـن ثـم تـخـتـفي ثم تُـخـرجه مـن الـثُـقـب الاخر وكأنها تـسـخـر مـن مـحـاولات قـتـلـها

وتـتحـدّى والـدتي بحـيـثُ ضـاعت جهود محـاولـة قـتــلـها سُدى بعد مضي أكـثـرَ مـن ســاعـةٍ إلّا أنّ أمـي لم تـيـأس

فاهـتـدتْ الى طـريـقـةٍ لِإخـراجها وهي أن تَـغـلي مـاءًا وتـسـكُبـهُ في الـثـقـبـيـن وكـنـتُ واقـفًـا ســاعـتـها قـرب الـحـنفـيـةِ

وأمـامـي حــوض الـغـسـيـل الـذي يـرتـفع عـن الارض قـلـيـلاً ومـا أن سُـكِـبَ الـمـاءُ الـمغـلي في الـثـقـب الاول وفي الـثـانـي

حـتّـى إنـطـلـقـتْ وكأنـهـا سـهـمٌ خـــارق مُـصوبـةً هـدفـهـا نـحـوي فـتـلـقّــاهـا جـدار الحـوض ولقوة الاندفاع أحدثت

ثـقـبـاً بجداره ولـولا عـنـايـة الله لكـنـتُ فـي عِـداد الامـوات وهـذه هي الـمَـرّةُ الــخـامـسـةُ التي انجو فيها من موت

محقق وبمجرد أن سـقـطتْ الـحـيّـةُ بالـحـوض انـتـهى فـلـمُـها فاطمأنت أمي وخـرجـنـا لـنـسـتـمـتع بـالـفـلـم الـعـربي

وكان اسمه [ بدر لامه / بطولة سراج منير وتحيه كاريوكا ] في سـيـنـما إبـراهـيـم عـطـروزي الوحيدة في الكوت .

وفي عـصر إحـدى الجُـمـعِ الـصـيـفـيـةِ أيضًا أرسـلـتْني والـدتي لكيِّ عـباءتَها عـنـد المكوجي زغـيـر لكـونه يُـتـقـنُ العـمـلَ

وبسعرٍ أقل ، حـملـتُ العباءة كـما أوصتـني وسـلّـمـتُـها لـهُ فقـال لي تـعـالَ بعـد سـاعـةٍ ، رجـعـتُ وأخبـرتُ والـدتي بـما

قـال وما أن إنـتهـت الـسـاعـة طـلـبـت والـدتي الـعــودةَ للإتـيـان بـهـا ، عُـدتُ الـيـه مُـسـرعًا وسـلّـمـني الـعـبـاءَةَ وحـذرني

مـن إســقـاطها فـصـرتُ أكـثـر حــذراً وســيـري أكـثـرَ هـدوئً وصلـتُ الـى مُـفـتـرقَ الـطُـرقِ وهو الدوار او الفلكة

لـسـوق الـمـديـنةِ وهـي ســاحـة مــا زالـتْ مـوجـودةً وإذا بـأربعـة صـبـيان بـعُـمـري يُـحـيـطـون بـي قـاصـديـن الـعِـراكَ

وهـنـا لا بُـدّ من إسـتـلهام خُـطـةٍ سريعة أتـخـلّـصُ بهـا منهم فالمعركة بالنسبة لي خاسرة لا مُحالة والعباءة يقينًا

ستكون تحت الاقدام فألهمني الله الخِطّةَ فـقـلتُ لـمـتـزعـمهـم … آني مـسـتعـد لـلعــراك ولـكـن أخــاف على

الـعـــباءة أن تــقــعَ عـلـى الارض فـدعــوني أُوصـلـهـا للـمـنـزل ثم أعـودُ لـكـم فكّر متزعـمـهـم قليلاً ثم وافق على

طلبي إلّا أنّ مُـسـاعـدَه شكك بعودتي ورفـض الـفـكـرةَ وحـذّرَ زعـيـمَهُ مـن هـروبي فـلم يـلـتـفـت اليه وعززتُ قولي

وتأكيده فقلتُ لهم حتى تتيـقنوا من عودتي خـطّـوا حولي خِـطّـة العباس كي تـكون التزامًا مني لكن المـسـاعـدُ

وقف مشككًا ومعارضًا وبقي يؤكد لرئيسه على هروبي فـنـاشـدتُ زعـيـمهـم على تأكيد العودة بخـطـة الـعـباس

التي لا يُـمكـنـني الخـروج منها ، اقـتـنع الزعيم وطـلـب مـنهـم أن يـخِـطّـوا حـولي الخِـطّـة وتَــمّ لي مـرادي فسارعتُ

وأسـرعـتُ الـخُطى غيـرَ مُصـدّقٍ فـنـادانـي مُـسـاعـدُ الـزعـيـم مـو تِـشـرد فـأجـبـتُـهُ مُـسـرعـاً لا هسه راجـع إلـكُـمْ وما أن

وصلتُ مَـدخـلَ الـزُقـاقِ حـتّى أطلـقـتُ سـاقَـيَّ للـريـح ووصلـتُ الـمـنـزلَ لاهــثًـا فسـألـتـني أمي عن السبب فأخبـرتُـها

بـكلِّ ما حـصل معي وقبل حلـول مـوعـدِ السينما خـرجـتُ وامي معي فلم أجـدْ مـنـهـمْ أحــداً ، إلّا أنّـي غَـيّـرتُ طـريـقي

لـلـذهــــابِ الى الـمـدرسـة من حـيـثُ جـهـة مـقـبـرة الانكلـيـز مرورًا بـبـيـت جـدّي ومـنـهُ الى الـمـدرسـة ومنه عودتي لكنّي

لـم أنـسَ صورهـم وأشـخاصهـم الى أن جاء الـعـاشــر من محرم يوم عاشوراء وفيه يتجمع الناس لـسماع قـراءة

الـمـقـتل عـند باب الحاج حسون محمد الناصر ولأكـل الـطعام الـذي يُعدّهُ للمُـناسـبـةِ وكُـنـتُ يـومـها فـي سـطح

داره مع ابن خالتي نصـرت فـإذا بـيَ أرى واحــداً مـنهـم فنزلتُ اليه وأمـسـكتُ بـه وأخـذتُ أضربه ضرباتِ إهـانةٍ

وأطلب مـنه العـراك فـيـتخاذل ثم أطلبُ منه أن يأخذني الى زعـيمهم وعملتُ معه مثلما عَمِلتُ مع صاحبه

بالاهانات ويـنـتهي الامـر بالـمُـصالحة وعـدم الـتعرض لي وبهـذا أكون قـد حققتُ نجاحًا بالعـودة الى طريقي

المعهود للمدرسة وكفى الله المؤمنين الـقـتـال .

بـقـينا في منزل أم إبراهيم حوالي عاماً أو أكثر بقليل بعدها إنـتـقـلنا الى بيت الـعـلويه مـيّـاسـه حـيثُ الـمسَـكَـن الاول

لـوالـدي والـذي يـقـع فـي محـلة الـشـرقـيه كان ذلكَ أواخـر عام 1951 حيثُ كنتُ قـد أنهـيتُ الصف الثاني

الابتدائي ناجحاً الى الصف الثالث ، انتهتْ المحطة الثالثة من حياتي وقبل أن أنتقل الى المحطة الرابعة

أذكرُ حادثةً وهي أن ابن خالتي نصر اقترح عليَّ أن ننام في وسط جادة الشارع وكان مبلطًا حتى تَـمُرُّ من

فـوقنا احـدى السيارات التي نراها مناسبةً وافقتُهُ واشترط أن أكون بالمقدمة ويكون هو بعدي

مرّتْ عـدّة سـيارات لم أتفق معه عليها لكونها قريبة الى الارض حتى جاءت سيارة ذات حمولة كبيرة وعالية

عن الارض فاستلقيتُ في منتصف الجادة على ظهري وفعل نصرت ابن خالتي مثلي بالاستلقاء خلفي وبعد

ان وصلت السيارة اغمضتُ عيني فمَـرّتْ في ثوانٍ فوق رأسي وهي تئـزُ في أذني أزيزًا مرعبًا جمّدتْ له مفاصلي

وحبستُ انفاسي وبعد أن اجتازتْني سمعتُ نصرت يضحك على الرصيف ولما سألتُه عن سبب الضحك قال

بأنه قام قبل وصول السيارة وتركني وحدي مُغامرًا وهي المرة السادسة التي أنجو فيها من الموت المُحَقّق

وهنا أتساءل مع نفسي لتفسير هذا الموقف كيف فعل السائق هذا هل كان فعلُهُ عامدًا أم كان غير منتبّـهٍ

الى وجودي الى الان لا استطيعُ الاجابةَ عليه وأترك علمها عند الله جلّ وعلى ؟!

*******************************************************

الدنمارك / كوبنهاجن الثلاثاء في 25 / شباط / 2020

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here