فرات المحسن
تلك العقود غير البعيدة من زمن العراق المعاصر، وفي أيام الصيف حيث الشمس لافحة تحرق من يطل برأسه من فتحة باب الدار.في تلك الأيام تظهر الحشرات الطيارة والزاحفة وتبرز عضلاتها بوجه العراقيين. وكانت ولازالت هذه الحشرات تعيش في البرك والمستنقعات المنتشرة في المدن وحولها. هذه الحشرات تكون السبب بنشر الأوبئة والأمراض.
كانت المؤسسات الصحية سابقا تقوم بتسيير سيارات بيك آب تحمل على ظهرها ماكينة رش المبيدات، تأخذ مهمة تعفير الشوارع والأزقة برش مادة الكازويل.والمادة هذه خليط من النفط الأبيض والأسود والكاز الثقيل، ومن خلال أنبوب ضخ يدفع المادة على شكل رذاذ قوي، عندها يرقد المبيد فوق أسطح المستنقعات والبرك والجدران وأرضية الشوارع ليقتل الحشرات ويدرأ الأوبئة.
حين تأتي تلك العجلات لترش المبيد في أزقتنا وشوارعنا، نخرج نحن الأطفال والصبية مهرولين لنلحق السيارة ونتسابق للوصول إلى فتحة المضخة التي تدفع الرذاذ الرشاش، ويحاول القوي والجسور منا السيطرة على رأس المضخة وإدارتها حيث يرغب.وكانت صدورنا تمتلئ بذلك الرذاذ الطيار دون أن يردعنا أحد.
سابقا وفي أيام الصيف، تجتاح العراق العديد من الأوبئة من مثل، الجدري، التيفوس، الحصبة ، التدرن ، الملاريا،الأنفلونزا ، حمى صفراء، الطاعون وغيرها.
في تلك السنة من سنوات الضنك العراقي، أنتشر وباء الكوليرا انتشارا واسعا في مدن العراق جميعها، فضاقت الدنيا على الناس بما وسعت، ولكن للبعض منهم أحوال وأفعال تداولها الألسن.
في سنة الكوليرا التي أطلق عليها العراقيون اسم ( سنة أبو زوعة ) بسبب إن أول أعراض الوباء هو التقيؤ الذي يصيب الإنسان، ليجف جسده من كثرته وتكراره، بعدها يسقط المرء صريعا بسبب ذلك.
في ذلك الوقت كانت هناك فتاة من بنات الهوى، أي مومس، أسمها زهرة العجمية. ما كانت زهرة تهتم لأمر وباء الكوليرا بقدر الاهتمام برغباتها وطيشها. وكانت تملك عربة كار تجرها الخيول وسائق لهذه العربة أسمه شيخان أبو نوريه. هذا الشيخان شاب وسيم ذو شارب طويل ولكنه سفيه لا يخجل من شيء أو أحد، ويعرفه الناس بميزة أشتهر بها هي فعله اليومي بإطلاق زيج أي عفطة طويلة تمتد لدقائق، صارت الناس في بغداد تتندر بها. البرنامج اليومي لشيخان أبو نوريه يبدأ بأخذ المومس زهرة العجمية من أمام دارها الملاصقة لمنطقة الصابونجية صباح كل يوم،.ثم يذهب بصحبتها في جولة طويلة يطوف فيها بين شوارع بغداد، تبدأ من عكَد الصخر ورأس الجسر ثم يمر بشارع الرشيد للوصول حتى باب الشرقي ثم الإياب ظهرا.
تلك الأيام وحين تهم زهرة العجمية الخروج لركوب العربة، تقف أمها قرب الباب تتذلل وتتضرع أليها بالقول.
ــ يمه من فدوة رحتلج زهوري، ابو زوعة مرض وطش بكل الولايات وماتت الناس، ليش أنتي عندج حرز وما تتمرضين.. يمه زهوري أبقي بالبيت، مو أذا تمرضتي منو راح يعيشنه، وإذا متي يا بعد روحي، راح ينكَطع الرزق، وأمج تموت من الجوع، يمه لو جنت أني بذاك الوكت وبذاك الحيل، ما عتبت عليج ومنعتج من الطلعة،بس أمج ركت وصار حيله من حيلج، يمه زهوري الحبيبة، أبقي ولا تطلعين من البيت، بلجي يخلص مرض أبو زوعة بعد جم يوم وترجع أيام الكيف.
ولكن زهرة العجمية ما كانت تهتم لما تتحدث عنه أمها، وتضرب توسلاتها عرض الحائط. لذا أَزرت بعباءتها الموشاة بالدانتيل وخيوط الذهب الرفيعة خصرها ووضعت قدمها مطوقة الكاحل بسلسلة ناعمة من الذهب، فوق دكة العربة ليتلقف شيخان يدها وهو يهز كتفه ثم ردفيه بمرح ونشوة. حينذاك تلتفت زهرة نحو أمها المسمرة قرب عتبة الدار وتبتسم لها بدلال قائلة:
ـــ يمه أندار الوجهج صدقة، تريديني أختنك وأموت بالبيت من الضوجة والحسرة،خاصة بعد ما كَام يطبلنه أحد.. يمه وروح للسيد، وما أحلف بي جذب، أذا أبقه يومين بالبيت، وما أطلع ومحد يأشرلي لو يغازلني لو يغمزلي، راح أنحرف.. تعرفين شنو أنحرف والله أنحرف ..
ثم تطلق ضحكتها الداعرة فيعقبها شيخان أبو نورية بزيج طويل يتردد صداه بين جدران الزقاق الضيق، عندها ينتبه الجيران والمارة لذلك. وكان فيهم من يحاول تقليد ما يشبه عفطة شيخان ولكن هيهات. تلك العفطة أو الزيج كانت أيضا إيعازا اعتادت الخيول سماعه، لذا تنطلق مباشرة في رحلتها اليومية المعتادة.
جلست زهرة العجمية وسط مقعد العربة ذات السقف المفتوح، ووضعت ساق فوق ساق، عندها بانت ربلة ساقها البضة من بين الفتحة الجانبية الطولية لثوبها الوردي المطرز بالكلبدون الفيروزي. ومنذ بداية الرحلة تأخذ زهرة بهز رقبتها هزا خفيفا، وبغنج تعض طرفي شفتيها، وترمش بجفنيها وتحرك حاجبيها بحركات إغراء ودلال وميوعة، وبذات الوقت توجه نظراتها وإشاراتها المبطنة إلى الشباب المتجمهر لمشاهدتها، والضارب عرض الحائط قرار الحكومة بمنع التجول بسبب وباء الكوليرا.
كان الشباب يترقبون صباحا مجيء عربة زهرة العجمية، فيقف عديد منهم عند رؤوس الأزقة وقرب المنعطفات التي تمر بها العربة، لتبدأ رحلة القبل الهوائية وإشارات الغزل والحركات الموحية بالجنس، والطلبات الخاصة المبثوثة بأوراق ملونة صغيرة. وكانت زهرة تفرح كثيرا بالهدايا التي تقدم لها ولا تهتم للتحذير من جراثيم الكوليرا العالقة بتلك العلب الملونة .
كل تلك الأحداث تجري خلال المسيرة اليومية وشيخان أبو نوريه لا يفعل غير هز الأرداف وإطلاق العفاط الطويل بين فينة وأخرى، أو حين يتوقف للإلقام الخيول حفنة علف. وكانت قدرته ظاهرة على افتعال التغاضي عن الذي تتبادله زهرة مع الشباب، ولكنه فجأة يطلق زيج معدل طويل حين ينتبه لفشل أحد الشباب بالحصول على مبتغاه من زهرة العجمية. وأعتاد شيخان أبو نوريه قيادة العربة ساحبا لجام الخيل وهو واقف في مقدمة العربة، يهش على خيوله بسوط طويل يصدر صفيرا حادا حين يلوح به في الهواء.
في أحد الأيام توقفت العربة فجأة وسط شارع الرشيد، وبالتحديد أمام سينما الوطني وطال وقوفها. أخذ شيخان أبو نوريه يصرخ على خيوله بأعلى صوته، ويكرر عفطاته ويضرب بسوطه دون أن يجد من الخيول حركة. ساط الخيل بالقامجي عدة مرات دون فائدة تذكر.فقد حرنت والعياذ بالله وترفض الحركة. نظر شيخان نحو واجهة سينما الوطني وتملى عنوان الفلم ثم أطلق ضحكة مجلجلة، أردفها بزيج طويل كان أطول من سابقاته. فقد قرأ عنوان الفلم ( أولاد الحكومة) للمخرج ( وليتني بتتناتك ليخاطر) وهو مخرج إيراني الأصل مولود في جزر البهاما. والفلم من بطولة مجموعة من ممثلي الصفين الأول والثاني .عندها صرخ شيخان:
ـــ ولكم دي،دي نعله على أبو طاهركم، أتحركو شويه ،تبسمرت رجليكم ، شنو حرنتو مثل هذولاك الربع . شنو عرفتو عنوان فلم اليوم بالسينما، بس لا تنتظرون نطب وياكم للسينما حتى تتفرجون وتشوفون شلون راح يصير تأليف الحكومة وإطلاق سراح الميزانية. دي ولكم دي.
شخصية زهرة العجمية وشيخان أبو نوريه شخصيات حقيقية من تاريخ العراق في العهد الملكي الأول، والقصة مستقاة ومحورة من قبلي عن وقائع من حياتهما .حيث كانت زهرة مومس معروفة في بغداد وشيخان أبو نوريه قوادها وصبيها .
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط