كورونا .. ونهاية العولمة

لم يلق نظاما من التأييد والترحاب ما لا قاه نظام العولمة هذا من شعوب ومنظمات وأحزاب مختلفة ، وكل هذا كان بسبب ما يحمله أو هكذا ظن الناس به من خير للإنسان كدعوته للحريات وللعدالة وللحقوق والمساواة ، وكانت أكثر الشعوب توقاً و رغبة بنظام العولمة هي تلك التي أنكوت بنار الظلم و الدكتاتورية والإستبداد ، وكنا وكنتم شهوداً على سنوات الحرب الباردة وماحملته من تداعيات والألام ومن ظلم وتعسف وضيق أفق ومصادرة للحريات وللحقوق ، فكانت العولمة بمثابة النور الذي يشع أملاً ورجاءا لحياة جديدة و مختلفة ، وكان ذلك هو الدافع وراء ذلك التأييد غير المسبوق .

لقد كانت شعوب أوربا الشرقية أكثر فاعلية وحضوراً وسعياً في ذلك الصراع ولهذا أمدته بكل عناصر القوة والتأثير ، وكان – لكورباتشوف – الزعيم السابق للإتحاد السوفيتي الدور الفاعل في حسم ذلك الصراع لمصلحة الشعوب وبداية عصر العولمة الجديد ، ورأينا كيف نمت وأزدهرت مظاهر الإستقلال والتحرر لدى شعوب مختلفة مؤمنة بحقها في تقرير المصير عبر الآليات الديمقراطية والإنتخاب الحر ، معلنةً في الوقت نفسه عن بداية عصر جديد فكان الربيع الأوربي ذروته مع سقوط الإتحاد السوفيتي وإنهيار جدار برلين .

ويمكن القول : إن سنوات التسعين من القرن الماضي هي البداية لهذا النظام الجديد بفضاءاته المفتوحة وحركة السوق والعمل والنهضة ، كان ذلك ( نهاية للتاريخ هكذا قال فوكوياما ) ، نعم أزدهرت في ظل هذا النظام الجديد حركة السوق والتجارة والنقل وتنامت ثقافة الديمقراطية لدى قطاعات واسعة .

وفي الطرف الأخر كان الشرق يرزح تحت ظل حكومات مستبدة جاهلة ، وكانت شعوبه أكثر شوقاً للتغيير فكانت – عاصفة الصحراء أو ما سُمي بحرب الخليج – تؤدي دورا مزدوجاً في ( الإحتلال والإستقلال ) ، وتنامى في اللاوعي الجمعي مفهوم الشرق الأوسط الكبير ، ضمن مفهومي السياسة والإقتصاد و قد عزز ذلك رغبة مضطردة من شعوب المنطقة التي كانت أكثر حرصاً في تغليب هذا التوجه ، إيماناً منها بالتغيير وفق القيم والآليات الصحيحة ، ولم يكن نمى ذلك الشعور بعد في فك الإرتباط بين مفهومي ( الإحتلال والإستقلال ) لا على الصعيد الفكري ولا على الصعيد الإعلامي والشعبي ، نقول هذا بعدما كان الضخ الإعلامي و الدعاية والإعلام وما يصدر من بعض الأحزاب والتنظيمات يرسخ في الذهن والعقل ذلك الترابط بين تلك الثنائية ، ومن وحي المعانات كان الجميع عن قصد أو بدونه راض ومقتنع بفكرة – القطب الواحد – التي كان يروج لها في الظل من قبل عناصر ومؤوسسات معروفة ، وهذا الواقع هو الذي فرض نوعاً من القيم والثقافة أستسهلت وأستساغت فكرة الإحتلال على فكرة الإستقلال بل وذهب البعض بعيداً في الدفاع عنها وبحجج واهية غير مفهومة لدينا ، وأنكمش دور القوى والأحزاب القومية بل وتلاشى دورها في ظل سيادة هذه النزعة في الثقافة والإعلام ، رافق هذا وذاك سلسلة من الخيبات والإنتكاسات التي عاشها الإنسان المشرقي في ضميره ووجدانه رصدنا ذلك من خلال الشعارات الوهمية والتعبئة الزائفة ، حدث هذا في بلادنا وفي منطقتنا بالذات ، وكانت العقول والضمائر مشدودة إلى هناك وإلى ما يمكن أن تقوم به أمريكا في هذا الشأن ، حتى جاءت لحظة سقوط بغداد كتتويج لمسيرة و لمرحلة ، معلنة عن بداية نوع من الحكم جديد في العراق وفي المنطقة عبر الفوضى الخلاقه التي سماها الإعلام المُخاتل بالربيع العربي .

نعم لم يكن للعقل العربي خيارات عدة في مواجهة تحديات المرحلة الجديدة ، ولم تكن مواجهته في الحكم ناضجة وكل ما لديه عبارة عن حكايات من التاريخ والتراث عن حكم الخلفاء والسلاطين الملوك ، و لهذا فشل في الرهان وفي تأسيس الحكم الديمقراطي الصحيح ، ولا ننسى كيف دخل الدين السياسي ساحة الديمقراطية ليؤوسس له مواطئ قدم هنا وهناك ، فسقط مشروع التغيير أو مشروع الحلم وسادت النزعة الطائفية ونمى الإرهاب وأشتد عوده ، وبرز في ظل ذلك جيل من المنافقين النفعيين والإنتهازيين وكثر النهب والسلب والفساد وسقطت هيبة الدولة والنظام ، وغدى مفهوم الديمقراطية عبارة عن وهم وخيال وهرطقة ، وأنساقت الشعوب من جديد بما في ذلك شعبنا العزيز ، وتنادت تطالب بحريتها وكرامتها وما تبقى من سيادتها وشرفها ، حين خرجت من جديد تعلن عن رغبتها وعزمها على التغيير .

لكن ومع إشتداد الأزمة وسقوط الضحايا خرج إلينا – كرونا – ذلك الفيروس اللعين فارضاً نفسه بحسب الإعلام والدعاية غير المسبوقة على الواقع ، وصارت الإرشادات تأتي تباعاً من كل طرف في وجوب الإلتزام وبكيفية التعامل معه ، حتى ماعادت للساحات ولا التظاهرات ولا المطالبات البريئة مكاناً في ظل هيمنته الإفتراضية ، وصار العزل الإجتماعي هو الصحي في مواجهة هذا الفيروس اللعين ، وبما إن الإستجابة هنا ليست طوعية بل هي في أحيان كثيرة قهرية وإجبارية ولا يستثنى منها أحد ، عندها أحسسنا بأن هذا الفيروس لم يكن صناعة بريئة و لاهو هبة مقدرة ، إنما جاء ليكون الفاصل بين مرحلتين من التاريخ وهو بالنسبة لنا نحن المشرقيين جرس إنذار خطير لما هو قادم ، وبحدود علمنا قد سبق ذلك التحضير و التفكير لبناء عالم جديد ، تتحكم به وبدرجة كبيرة الإقتصاديات الكبرى

والشركات العملاقة ، ولأن حدوث ذلك غير ممكن وفق آليات الواقع كان لا بد من عمل ما ولو تطلب إجراءات وأفعال من نوع صادم ، وتسهيلاً للمهمة دُعيت الجيوش لمسك الأمور وقطعت الصلات بين الشعوب والدول ومنع الطيران وأشيع بين الناس وجوب عدم الإختلاط ، ساهم في هذا ضخ إعلامي مبرمج ودعاية حكومية ورصد أموال طائلة وإن كانت مجرد دعاية ، وما يزيد النفس ريبة ذلك الإدعاء اليومي من الحكام والمسؤولين بأن الطريق لا يزال طويلا في إيجاد صيغة علاج لهذا الفيروس اللعين ، طبعاً مع تذكيرنا بأن لهذه الدول من القدرات والأمكانيات الفائقة والتقنيات العالية ومراكز البحث الرصينة ، ومع ذلك يقولون لازلنا في بداية الطريق !! .

و هذا يقودنا للقول التالي : مادام الأمر كذلك فالحتمية التاريخية تقول إنه لا بد من أن شيئاً ما سيحدث ولأهمية ذلك يتطلب نوعاً من الإلهاء النفسي والمجتمعي إلى حين ترتيب الأولويات ، والتي من ضمنها القبول الشعبي بما سيحدث ، والإلغاء المبرمج للمشاركة العبثية من الشركات الصغيرة الحجم الضيئلة الرأسمال في حركة السوق والإنتاج ، وإعطاء الأولوية للشركات العملاقة التي تعتمد التقنيات عالية الدقة والذكاء الإصطناعي الخارق .

وإلى هذا سينقسم العالم بحسب الحاجة والمصلحة إلى أثنيين أو ثلاث من المحاور الكبيرة ، وبنفس السياق يجري تنظيم سياسي جديد :

يبدأ أولاً بتفكيك الإتحاد الأوربي إلى دويلات صغيرة ، ومن ثم إلحاقها لهذه المحاور الكبيرة تبعاً للمصلحة والحاجة ، وثانياً لم يعد مسموحاً تلك الفوضى التي رافقت العولمة في عالمي المال والإقتصاد ، والخطوة التي أتخذتها بريطانيا في خروجها من الإتحاد الأوربي خطوة عبرت عن آلية نحسة ، في القبول وفي التبعات المالية فكان لا بد

من هزة عميقة ، تفوق تلك التصورات البدائية والمعمول بها في السابق ، وهنا وجد المشرع الغربي نفسه أزاء إستراتيجيات من نوع جديد ، وإن كلف ذلك خسارات تطال حياة الناس وإقتصادياتهم ، لكن ما يفكرون به أعمق من مرحلة زمنية ستعيش الذكرى للأرشيف البشري .

وسنذكركم بما قلناه في مقالنا الأول عن – نهاية سلطة القانون – ، وكنا قاصدين المعنى واللفظ حيث نشير من غير مواربة إلى نهاية عصر السوق المفتوحة والحريات والحقوق الطبيعية للشعوب الضعيفة ، ونعيد التأكيد هنا بأن – نهاية العولمة – ستكون في السياق نفسه مع الإنجرار القهري لعالم جديد تتحكم به القوى الإحتكارية الكبرى ، والتي معها سوف يسود الإستبداد ولكن بنمط جديد ونوع جديد ، هو سيادة عالم التكنولوجيا الذكية والتقنيات فائقة الدقة ، ومعها حتماً لا مجال لمن يعيشون عصر ما قبل نهاية التاريخ ..

آية الله الشيخ إياد الركابي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here