“القوة القاهرة”… في ميزان السيادة الوطنية ما بين رُحى وباء كورونا والسياسات والعقود النفطية؟!

أ. د. جواد كاظم لفته الكعبي

المقدمة:

من ضمن التمنيات الطيبة التي تبادلها العراقيون فيما بينهم مطلع العام 2020، حصولهم على رئيس مجلس وزراء غير خلافي ومحترف مهنيا لتشكيل حكومة جديدة، تخلف الحكومة المستقيلة في تشرين الثاني 2019 بتأثير أزمة الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة النطاق والدامية، التي اجتاحت وسط وجنوب البلاد. بيد أن الرياح العاتية التي حَمَلها الربع الأول من عام 2020 لم تأت بما تشتهي سفن المشلولين والتائهين ببحر السياسة في بلادنا، إذ فضلا عن عدم حصولنا على ربان مُحترف يقود سفينتنا المشلولة الحركة والتائهة نحو شاطئ الأمان، حصلنا بالمقابل على “تسونامي” مُدمر من جبهتين: جبهة عدم قدرتنا السياسية والاقتصادية الفاضحة على مواجهة الانهيار غير المسبوق لأسعار النفط في السوق الدولية (وهي السلعة التي نعتمد عليها كليا تقريبا في تأمين غذاؤنا ودواؤنا ورواتب الموظفين والمتقاعدين منا)، وجبهة عدم قدرتنا المادية والمجتمعية المأساوية على مواجهة انتشار وباء كورونا (وهو الداء الذي ربما سيفتك بنا ويبيدنا عن بكرة أبينا).

يواجه العراق اليوم وعلى مدى السنة الحالية على أقل تقدير، ثلاث محن كبرى: محنة الشلل المؤسساتي الحكومي، ومحنة استشراء وباء كورونا، ومحنة إدارتنا غير المحترفة للنفط. بشأن المحنتين الأولى والثانية، لا أستطيع التكهن بما ستؤول إليه الحال، ولكني غير متفائل بمسارات مواجهتهما، إذ لا يمكن التعويل على وعي الطبقة السياسية الحاكمة لمخاطر الشلل المؤسساتي في إدارة الدولة بسبب فقدانها لهذا الوعي منذ عام 2003 ولغاية اليوم، ولا يمكن التعويل أيضا على الوعي المجتمعي العالي بمخاطر داء فتاك يتكاثر عدد المصابين به بمتوالية هندسية كل بضعة أيام، بسبب عوامل مؤثرة كثيرة، يأتي في مقدمتها عدم قدرة الكاسبين لقوتهم اليومي على الالتزام بالحجر الصحي الذاتي في منازلهم، وتحدي الكثير من الناس للقيود التي يفرضها حظر التجوال على ممارستهم لطقوسهم الدينية وعاداتهم الاجتماعية. أما بشأن المحنة الثالثة، فسنتناولها في هذه الدراسة من زاوية الإمكانات المتاحة للحكومة وشركات عقود جولات التراخيص النفطية في التعامل مع آثار “تسونامي” التخفيض الحاد لعائدات تصدير النفط، سواء بسبب الهبوط الحاد لأسعار النفط أم بسبب التقليص المحتمل للإنتاج والصادرات النفطية الوطنية، بوصفه حالة قوة قاهرة يمكن لطرفي العقد اللجوء إليها لتدارك تلك الآثار الخطيرة.

يعني مصطلح “القوة القاهرة” Force Majeure نشوء حالة أو حالات خارج إرادة أو سيطرة الأطراف المتعاقدة، تمنع أي طرف من أطراف العقد من تنفيذ أو التأخير في تنفيذ التزاماته أو واجباته المنصوص عليها في هذا العقد. ولأغراض هذه الدراسة، سنُقّصر التزامات الطرف الحكومي في العقد على تسديد المستحقات المالية لمقاول العقد النفطي فقط، عند تنفيذ الأخير لالتزاماته بوصول الإنتاج النفطي إلى المستويات المتفق عليها مع الطرف الوطني والمُقررة من قبله.

بموجب أحكام المادة (31) من عقود جولات التراخيص النفطية (مثلا عقد حقل الرميلة النفطي في الجولة الأولى عام 2009، وعقد حقل الحلفاية النفطي في الجولة الثانية عام 2009 أيضا)، جرى تعريف مصطلح “القوة القاهرة” على النحو الآتي: “تعني القوة القاهرة أي سبب أو حدث غير متوقع أو خارج السيطرة المعقولة للطرف المدعي بتأثره بذلك السبب أو الحدث…”. في المادة المذكورة من العقدين، جرى تعداد للأسباب أو الأحداث المُسببة لنشوء حالة القوة القاهرة، وهي: القضاء والقدر، الحروب (المُعلنة أو غير المُعلنة)، العصيان المُسلح والشغب، قوى الطبيعة، والحرائق، وهذه الأسباب أو الأحداث يمكن لطرفي العقد (الطرف الحكومي والطرف الأجنبي) الادعاء بتأثرهما بها. بيد أن كلا العقدين المذكورين، تضمنا سببا أو حدثا آخرا، مُنشئ لحالة القوة القاهرة عند مقاول العقد النفطي فقط، وهذا السبب أو الحدث مرتبط بالتشريعات والأوامر الحكومية، والتي يمكن أن يتأثر بها مقاول العقد النفطي. فضلا عن ذلك، تضمن العقدين المذكورين حُكما ينص على الآتي: “عدم القدرة على دفع الأموال المستحقة يجب أن لا يشكل حالة قوة قاهرة”.

لم يرد في مادة “التعاريف” من العقدين المذكورين، تعريفا للأسباب أو الأحداث المُسببة لنشوء حالة القوة القاهرة بين طرفي العقد، وهو أمر يشي بأن الطرفين يمتلكان فهما مشتركا ومتطابقا لمعاني ودلالات هذه الأسباب أو الأحداث. في العقدين، تم إعطاء تعريف محدد لمصطلحات واردة فيهما من قبيل (غاز مرافق، برميل، شهر تقويمي، سنة تقويمية، نفط خام، دينار، دولار…الخ)، ولم يتم إعطاء تعريف لمصطلحات مادة “القوة القاهرة” المذكورة أعلاه. ربما لا تثير مصطلحات “الغاز المرافق” أو “النفط الخام” أو “السنة التقويمية” مثلا اختلافا كبيرا في تفسيرها لدى طرفي العقد وهم أهل الاختصاص الوظيفي، ومع ذلك أعطوها تعريفا محددا بدقة عالية وحسنا فعلوا، مقارنة بمصطلحات القوة القاهرة التي تم تجاهلها تماما. لست مختصا بالفقه اللغوي أو القانوني لإعطاء تعريفا لمصطلحات القوة القاهرة الواردة في عقود جولات التراخيص النفطية، ولكني كباحث علمي يمكنني تصنيفها مثلا إلى فئتين بمعيار إمكانية/عدم إمكانية نشوء خلاف في تفسيرها بين الطرفين:

· فئة المصطلحات التي تحتاج إلى إعطاءها تعريفا محددا في العقد، وهي: “القضاء والقدر”، و”قوى الطبيعة”. ما هي الأحداث التي يمكن عدّها و/أو لا يمكن عدّها قضاء أو قدرا؟ وأين مكان وقوعها: في “منطقة العقد” أم خارجها؟ وما هي “قوى الطبيعة” المُسببة لنشوء حالة القوة القاهرة، ونطاق فعلها والمدى الزمني لفعلها وأثر فعلها؟ لقد عدّت إحدى شركات عقود جولات التراخيص النفطية وباء كورونا حدثا مُسببا لنشوء القوة القاهرة، الأمر الذي حدا بها لإيقاف الإنتاج من الحقل المسئولة عنه وترحيل كوادرها وموظفيها الأجانب إلى الخارج. ولا ندري ما هو المصطلح الذي أدرجت فيه هذه الشركة الوباء: هل هو القضاء والقدر أو قوى الطبيعة، وهل حدث ذلك في منطقة العقد أم في خارجها، وهل تفسيرها لهذا الأمر يتطابق مع تفسير الطرف الحكومي في العقد له أم لا؟

· فئة المصطلحات التي تحتاج إلى التقرير الدقيق لمكان وقوعها ونطاق فعلها والمدى الزمني لفعلها وأثر فعلها، وهي: الحروب، العصيان المسلح، الشغب، والحرائق. على سبيل المثال، يمكن للحرائق والشغب في “منطقة العقد” (رغم أن نص مادة القوة القاهرة في العقد لا يشير إلى ذلك) أن تكون أسبابا لنشوء حالة القوة القاهرة، ولكن هذه الأسباب إذا حدثت في بلدان الشركة النفطية الأجنبية هل يمكن عدّها منشئة لحالة القوة القاهرة؟ مثال آخر: هل يمكن عدّ الحروب النفطية الحالية التي يشنها البعض من كبار المنتجين في السوق النفطية الدولية أسبابا كافية لنشوء حالة القوة القاهرة بين طرفي العقد النفطي؟

سنحاول الآن تكوين ميزان القوة/الضعف تجاه حالة القوة القاهرة في العلاقة ما بين كفتيه: كفة الحكومة العراقية وكفة الشركات النفطية الأجنبية المتعاقدة في جولات التراخيص. في معادلة كفتي الميزان، سنستخدم ثلاثة أنواع من الأثقال: تكاليف مواجهة انتشار وباء كورونا، والسياسات النفطية، وأحكام العقود النفطية (أولا)، بغرض تقرير الإمكانات المتاحة لكفتي الميزان في مسارات التعامل الآتية مع أحكام عقود جولات التراخيص المُبرمة: مستويات الإنتاج النفطي، وتكاليف الإنتاج النفطي، والمستحقات المالية للشركات (ثانيا). فضلا عن ذلك، سنستكمل تكوين الميزان المذكور بالحالات التي لا تتضمنها الأحداث المُسببة لنشوء القوة القاهرة، ولكن البعض منها مُدرجة في نص هذه المادة من العقود النفطية (ثالثا).

أولا. الحكومة العراقية في ميزان القوة القاهرة:

لأغراض تمويل الموازنة الاتحادية لسنة 2020، البالغة قيمتها (حوالي 137 مليار دولار)، حددت الحكومة حجم الإنتاج النفطي المخصص للتصدير بمقدار (4,0) مليون برميل في اليوم،

وخمنت سعرا لبرميل النفط الواحد المُصدر بمبلغ (56) دولارا، عندما كان سعر برميل النفط أكثر من (60) دولارا في السوق الدولية نهاية العام الماضي. في منتصف شهر آذار من هذه السنة، هبط هذا السعر إلى أقل من (25) دولارا، وحتى نهاية هذه السنة لا يُتوقع ارتفاعه إلى أكثر من (30) دولارا، مع الأخذ بعين الاعتبار الفرق السعري بين السعر الدولي العالي وسعر شركة “سومو” المنخفض عنه بحوالي 3-5 دولارات للبرميل الواحد. في السياق، أوردت وسائل الإعلام المحلية تصريحا لرئيس خلية المتابعة في مكتب رئيس مجلس الوزراء المستقيل، بأن “واردات العراق بعد انخفاض أسعار النفط ستبلغ ملياري دولار فقط في الشهر، يذهب منها مليار دولار لشركات جولات التراخيص ويبقى لخزينة الدولة مليار دولار فقط…” (sotiraq-com/2020/03/29/).

في تقدير لأحد الباحثين (جياد، www.akhbaar.org في 21/3/2020)، “ستنخفض عوائد العراق من صادرات النفط للتسعة أشهر المتبقية من هذا العام بنسبة 44,4% في حالة انخفاض أسعار نفط برنت إلى 30 دولار، وبنسبة 87% إذا انخفضت الأسعار إلى 10 دولار…”، بافتراض الباحث وجود إمكانية أمام العراق لتحقيق أقصى معدلات إنتاج وتصدر النفط. في تقدير باحث آخر (العطار، http://iraqieconomists.ne في25/3/2020)، “نتيجة انهيار أسعار النفط، فإن النقص المتوقع في تمويل مبالغ جزء من الموازنة الجارية (رواتب الموظفين والمتقاعدين) سيكون بحدود (45%-50%)، والذي يعادل بما لا يقل عن (50) تريليون دينار، أو حوالي (40) مليار دولار… (الأمر الذي يعني) عدم تمكن الحكومة العراقية من دفع أكثر من نصف راتب لكل موظف أو متقاعد”. نشير إلى أن الباحثين أعلاه قدما مقترحات عملية قيّمة للحكومة، بغرض مساعدتها في معالجة الأزمة التي ستواجهها الموازنة الاتحادية لهذه السنة، لا مجال لذكرها في دراستنا.

لا تشابه أزمة انخفاض أسعار النفط في السوق الدولية الحالية نظيرتها التي حدث عام 2014، عندما انهارت أسعار النفط من حوالي (150) دولارا إلى أقل من (30) دولارا للبرميل الواحد بفعل عوامل سوق النفط الدولية وقتها. في الأزمة الحالية، تداخلات عوامل غير تقليدية في صنعها، منها الثلاثة الآتية: الركود الاقتصادي العالمي الشامل وانخفاض الطلب على النفط بسبب تفشي وباء كورونا، واستخدام الولايات المتحدة الأميركية لوسائل غير اقتصادية في صراعها مع روسيا حول أسواق مصادر الطاقة (النفط الصخري والغاز المُسال الأميركي، والنفط والغاز الطبيعي الروسي)، وظهور نزعة التفرد في تقرير سياسات الإنتاج والأسعار لدى البعض من كبار المنتجين الأعضاء في منظمة الأوبك (السعودية). وبفعل هذه العوامل، مجتمعة أو فرادى، ستتشكل كفتي ميزان القوة القاهرة في عقود جولات التراخيص النفطية على النحو الموجز الآتي:

· أثقال وباء كورونا: حتى نهاية هذه السنة، وربما لمدى زمني أبعد منها، ستبقى هذه الأثقال ضاغطة على أسعار النفط في السوق الدولية باتجاه الانخفاض، ومن المحتمل أن تضغط على كميات تصدير النفط العراقي باتجاه الانخفاض أيضا، بالتزامن مع حاجة الحكومة المُلحة والمتزايدة لموارد اقتصادية ومالية إضافية كبيرة لمواجهة أعباء انتشار الوباء في البلاد. بيد أن الانخفاض الأخير سيواجه بمقاومة عنيفة من أثقال أحكام العقود النفطية في كفة الشركات الأجنبية من ميزان القوة القاهرة، كما سنرى بعد قليل. ستقود هذه الأثقال إلى اتصاف كفة الحكومة بالضعف المطلق وعدم تأثر القوة المطلقة لكفة الشركات في ميزان القوة القاهرة بين الطرفين.

· أثقال السياسات النفطية في الإنتاج والأسعار: في الوقت الراهن وحتى نهاية هذه السنة، وربما لمدى زمني أبعد منها، سيجري تكوين هذه الأثقال من مصدرين مختلفين في قوة ومدى التأثير على كفة الحكومة من ميزان القوة القاهرة:

– المصدر الأول، سياسات المنتجين الكبار للنفط: ستقود هذه السياسات إلى زيادة المعروض من النفط وتخفيض الأسعار في السوق الدولية، الأمر الذي سيجري بموجبه الضغط على كميات النفط العراقي المُنتج والمُصدر وانخفاض أسعاره. هذا الضغط المزدوج على كفة الحكومة في ميزان القوة القاهرة، مضافا إليه تأثير أثقال تكاليف مواجهة انتشار وباء كورونا، سيؤدي إلى الإضعاف المطلق لكفة الطرف الحكومي، والإضعاف النسبي لكفة الطرف الأجنبي في هذا الميزان.

– المصدر الثاني، السياسات النفطية للحكومة العراقية: لا تمتلك الحكومة أدوات ضغط كافية ومؤثرة، بمثابة سياسات نفطية في الإنتاج والأسعار، يكون بمستطاعها مواجهة سياسات اللاعبين الكبار في سوق النفط الدولية، ولكنها بالمقابل قد تضطر لتقليص الصادرات النفطية بسبب زيادة المعروض منه وتراجع الطلب عليه في السوق النفطية الدولية، ولكن عليها في هذه الحالة دفع أثمانا باهظة لقاء تقليص الإنتاج النفطي حسب أحكام العقود. وبالنتيجة، ستضغط متغيرات المصدر الثاني على كفة الطرف الحكومي في العقد النفطي من ميزان القوة القاهرة، وهو أمر يقود إلى الإضعاف الكبير لكفة الحكومة، والإضعاف النسبي لكفة الشركات النفطية المتعاقدة في هذا الميزان.

· أثقال أحكام العقود النفطية: لقد درجت العادة بعد عام 2016 على أن تقوم الحكومة العراقية بتضمين قوانين الموازنة العامة الاتحادية السنوية مادة تقول فيها: “تلتزم الحكومة

الاتحادية ووزارة النفط بمراجعة عقود جولات التراخيص النفطية المبرمة لتعديل بنود العقود بما يحفظ مصلحة العراق الاقتصادية ويدفع بزيادة الإنتاج النفطي وتخفيض النفقات وإيجاد آلية لاسترداد التكاليف بحيث تتلاءم مع أسعار النفط”. لم تستطع الحكومة الاتحادية ووزارة النفط الإيفاء بالتزاماتهما تجاه مراجعة العقود المُبرمة وتعديلها، ولا التعامل الايجابي والكفء والفعال مع العقد النفطي المُبرم، بكيفية تنظيمية يكون بمقدورها ضمان مصالح العراق، وفي الوقت نفسه، عدم الإخلال بالعمليات النفطية الجارية بموجبه (أنظر تفصيل ذلك في النقطة ثانيا أدناه).

ثانيا. شركات النفط الأجنبية في ميزان القوة القاهرة:

· أثقال وباء كورونا: في منتصف شهر آذار الماضي من هذه السنة، أوقفت شركة النفط الماليزية، المُستثمرة لحقل الغراف النفطي، إنتاج النفط من هذا الحقل بذريعة القوة القاهرة لتفشي الوباء في العراق، وليس من المستبعد أن تلجأ الشركات النفطية الأجنبية الأخرى، المُستثمرة لحقول جولات التراخيص النفطية، إلى هذا الخيار. من المحتمل أن يسبب هذا الخيار ضغطا هائلا على كفة الطرف الحكومي، ويسبب ضغطا كبيرا أيضا على كفة الشركات النفطية في ميزان القوة القاهرة، لأن أرباحها تتوقف على كمية النفط المستخرج من قبلها وبسعر الربحية المُثبت في العقد لكل برميل منها. من الصعب التكهن بدوافع السلوك التنظيمي للشركات والمدى الزمني لتحملها خسائر هذا الخيار، ولكنه في كل الأحوال سيكون خيارا مدمرا لصناعة استخراج النفط في العراق بالمدى القصير (6- 12 شهرا).

· أثقال السياسات النفطية للشركات في الإنتاج والأسعار: بموجب أحكام عقود الخدمة النفطية، لا شأن للشركات بتقرير مستويات مؤشري الإنتاج والأسعار، فهما من مسؤولية الطرف الحكومي في العقد وشركة تسويق النفط الوطنية العراقية (سومو) على التوالي، ولكن تخفيض مستوى الإنتاج المتفق عليه بين الطرف الحكومي ومقاول العقد النفطي، بطلب من الطرف الحكومي، ستترتب عليه ترتيبات تنظيمية لصالح المقاول سنشير إليها بعد قليل. وبما أن أزمة السوق النفطية الدولية الحالية قد سببتها عوامل غير سوقية بالأساس، فليس من المستبعد حينها أن تستخدم شركات عقود التراخيص النفطية من قبل بلدانها الأم (أميركا، بريطانيا، هولندا، روسيا، الصين وغيرها)، بمثابة أدوات لتحقيق سياساتها النفطية الدولية المتضاربة من خلال تقليص أو حتى إيقاف إنتاج النفط العراقي

في الفترة القصيرة بذريعة حالات القوة القاهرة. وبسبب فقدان السيطرة التنظيمية للطرف الحكومي على العمليات النفطية في مختلف أنماط العقود النفطية المُبرمة، يخبرنا التاريخ البعيد والقريب لنشاط الشركات الأميركية والبريطانية والهولندية وغيرها في العراق وبلدان الشرق الأوسط الأخرى، بأنها مارست سياسات نفطية تمييزية وتخريبية في تقرير مستويات الإنتاج وتكاليف العمليات النفطية، أضرت كثيرا بصناعة استخراج النفط منها (الكعبي، http://iraqieconomists.ne في 3/9/2017).

· أثقال أحكام العقود النفطية: تضمنت بنود العقود المُبرمة أحكاما لا تجيز تعديل لها يلحق الضرر بالمصالح المالية لمقاول العقد النفطي (المادة 29 الفقرة 4 من عقدي الرميلة والحلفاية). وكمثال عن ذلك، عندما قرر الطرف الحكومي في عقديّ الرميلة والحلفاية تخفيض مستويات الإنتاج (بسبب ظروف عدم التأكد العالية في سوق النفط الدولية عام 2014)، جرت عملية تنظيمية كبيرة لتعديل العقد النفطي باتجاه تخفيض حصة الشريك الحكومي في العقد (شركة تسويق النفط العراقية وشركة نفط الجنوب على التوالي) من 25% إلى 5%، وإلغاء “معامل الاسترداد R. Factor” في احتساب أجور ربحية الشركات الأجنبية، وتعليق تطبيق “معامل الأداء Performance Factor”، وزيادة مدة العقد خمس سنوات أخرى (الكعبي، http://iraqieconomists.ne في 20/9/2017). وبالنتيجة، ستضغط أحكام عقود الخدمة النفطية المُبرمة بقوة على كفة الحكومة في ميزان القوة القاهرة، وهو أمر يقود لا محالة إلى الضعف المطلق لكفة الحكومة والقوة المطلقة لكفة الشركات الأجنبية في هذا الميزان.

ثالثا. السيادة الوطنية في ميزان القوة القاهرة:

· الشلل المؤسساتي الحكومي: إن حاجة الحكومة لموارد اقتصادية ومالية كبيرة لمواجهة انتشار وباء كورونا والشلل المؤسساتي الحكومي في تعبئة الموارد المطلوبة، ستقود إلى إضعاف المواقع التفاوضية للطرف الحكومي في ميزان القوة القاهرة، واكتساب الطرف الأجنبي فيه قوة نسبية كبيرة.

· التشريع الحكومي: بموجب أحكامه (المادة 37/2: “… ومن المفهوم أن الحقوق والالتزامات بموجب هذا العقد تشكل حقوقا أو التزامات تجارية أكثر منها سيادية…”)، يُعدّ عقد حقل الرميلة النفطي العملاق عقدا تجاريا، وأن تعامل الطرف الحكومي مع هذه الأحكام، لهذا

السبب، لا تدخل ضمن نطاق أعمال السيادة الوطنية، الأمر الذي يُقيّد حرية حركة الطرف الحكومي في التعامل السيادي معه، إلا من خلال اللجوء إلى إجرائيات التسوية الودية أو الخبير المستقل أو التحكيم في غرفة التجارة الدولية (الكعبي، www.akhbaar.org في 5/3/2019). وعلى الرغم من أن أحكام عقد حقل الحلفاية لم تَشّر إلى صفته التجارية وعدم إمكانية شمول تعامل الطرف الحكومي مع أحكامه بنطاق أعمال السيادة الوطنية، إلا أن نص مادة “القوة القاهرة” في العقد (وكذلك في عقد حقل الرميلة) تُدرج التشريعات والأوامر الحكومية، والتي يمكن أن يتأثر بها مقاول العقد النفطي، ضمن الأسباب أو الأحداث المنشئة لحالة القوة القاهرة لدى الطرف الأجنبي في العقد. وبذلك، تصبح كفة الطرف الحكومي ضعيفة جدا، وكفة الطرف الأجنبي قوية جدا في ميزان القوة القاهرة.

· الموقف من دفع المستحقات المالية للشركات النفطية: فضلا عن تضمين مادة “القوة القاهرة” نصا يقول: “عدم القدرة على دفع الأموال المستحقة يجب أن لا يشكل حالة قوة قاهرة” بين طرفي العقد النفطي، فقد تضمنت بنود العقود المُبرمة أحكاما أخرى لا تجيز تعديل لها يلحق الضرر بالمصالح المالية لمقاول العقد النفطي، بما فيها توقيتات وآليات دفع المستحقات المالية له. جاء في المادة (29 الفقرة 4) من عقد الحلفاية (وأيضا عقد الرميلة) ما نصه: “بعد تاريخ النفاذ، إذا تأثرت الحصص المالية للمقاول بشكل سلبي وكبير بتغيير في القانون الذي كان نافذا في جمهورية العراق بتاريخ النفاذ، أو بإلغاء أو تعديل… فعلى الطرفين…الاتفاق على التعديلات اللازمة للأحكام ذات الصلة في هذا العقد لغرض استعادة المصالح المالية للمقاول… إلى وضعها السابق كما كانت مباشرة قبل وقوع التغيير… أو التعديل…”. وبالنتيجة، تصبح كفة الطرف الحكومي ضعيفة جدا، وكفة الطرف الأجنبي قوية جدا في ميزان القوة القاهرة.

الخاتمة:

تخلص هذه الدراسة إلى القول، بأن أحكام مادة “القوة القاهرة” في عقود جولات التراخيص النفطية، وكذلك موادها الأخرى، لا تستجيب لمصالح الطرف الوطني في نشاطه لاستخراج وتصدير النفط إلى سوق دولية، تكتسب بمرور الوقت سمات عدم التأكد والمخاطرة غير السوقية العالية. هذا الأمر يتطلب، وعلى وجه السرعة، التفاوض الماهر مع الطرف الأجنبي في هذه العقود لتعديل أحكامها،

بما فيها تعديل أحكام مادة “القوة القاهرة” نفسها، بمسارات تقرير مستويات الإنتاج النفطي، ومنهجيات احتساب تكاليف العمليات النفطية، وآليات دفع المستحقات المالية للطرف الأجنبي في العقد.

نشير إلى فشل محاولات الحكومة الاتحادية ووزارة النفط، الواردة في الموازنات الاتحادية السنوية الأخيرة، في إيجاد طريقة لتخفيض تكاليف العمليات النفطية وإيجاد آلية أخرى لاسترداد التكاليف النفطية مُغايرة للموجودة في العقود المُبرمة. في الوقت نفسه، جرى التعامل مع موضوعة تكاليف العمليات النفطية في خطة التنمية الوطنية للسنوات 2018-2022، بغرض حل مشكلة “انخفاض صافي الإيرادات النفطية” (خطة التنمية الوطنية، 2018: 151)، من خلال ربط مستوى التكاليف النفطية في عقود جولات التراخيص بتذبذبات أسعار النفط في السوق الدولية، بمعنى تخفيض التكاليف عندما تنخفض أسعار النفط، وزيادة التكاليف عندما تزداد أسعار النفط، ولم تشرّ الخطة إلى الكيفية التنظيمية التي يمكن بموجبها تحقيق هذا الأمر الغريب والمعطوب اقتصاديا وتنظيميا.

لا يمكننا التكهن بمدى استطاعة الطرف الحكومي من تعديل العقود المُبرمة، باتجاه ربط مستوى التكاليف النفطية وطريقة استردادها بمستوى أسعار النفط في السوق الدولية، لأن أحكام العقود المُبرمة لا تتضمن أي حُكّم يربط بين مستوى التكاليف ومستوى أسعار النفط في السوق الدولية. ولكن بالمقابل، وجدت أحكام في هذه العقود تؤشر منهجية غير تقليدية في تكوين واحتساب واسترداد التكاليف النفطية والمغالاة الكبيرة في تقدير أقيامها، مغايرة للمنهجيات التقليدية المعمول بها في احتساب المؤشرات الكمية الأساسية للنشاط الاقتصادي للشركات الإنتاجية، بصرف النظر عن ميدان نشاطها الوظيفي وعائدية وجنسية رأسمالها…الخ، ندعو إلى إعادة النظر بها (الكعبي، http://iraqieconomists.ne في 20/9/2017). من المعروف أن نشاط صناعة استخراج النفط والغاز يمتاز بكثافة “الرأسمال” وليس بكثافة “الطعام”: على سبيل المثال، في عام 2014، كانت تكاليف بند “الإطعام” لشركة النفط البريطانية BP المُستثمرة لحقل الرميلة النفطي أكثر من (65) مليون دولار، بينما تكاليف بند “المعدات” كانت بحدود (50) مليون دولار فقط؟!

المصادر:

جياد، أحمد موسى. عوائد الصادرات النفطية ومدى تدهورها في ظل انهيار أسعار النفط. www.akhbaar.org في 21/3/2020.

خطة التنمية الوطنية 2018-2022.

صوت العراق. الحكومة تتخبط لتوفير رواتب الموظفين بعد تهاوي النفط وكورونا. Sotaliraq-com/2020/03/29.

العطار، إحسان إبراهيم. أسعار النفط الخام العراقي وأثرها على الموازنة العراقية 2020. http://iraqieconomists.ne في25/3/2020.

عقد الخدمات الفنية لتطوير حقل الرميلة النفطي (2009)، المبرم بين الحكومة العراقية وائتلاف شركات BP & Petrochina، النص العربي للعقد غير المنشور.

عقد الخدمات الفنية لتطوير حقل الرميلة النفطي (2009)، المبرم بين الحكومة العراقية وائتلاف شركات BP & Petrochina، النص الانجليزي للعقد المنشور على الموقع الاليكتروني لشبكة الاقتصاديين العراقيين http://iraqieconomists.ne.

عقد تطوير وإنتاج حقل الحلفاية النفطي (2009)، المبرم ما بين الحكومة العراقية وائتلاف دولي تقوده شركة Petrochina الصينية، النص العربي للعقد المنشور على الموقع الاليكتروني لشبكة الاقتصاديين العراقيين http://iraqieconomists.ne.

الكعبي، جواد كاظم لفته. طبيعة السيطرة التنظيمية للشريك الحكومي على العمليات الإنتاجية في عقود جولات التراخيص النفطية. http://iraqieconomists.ne في 3/9/2017.

الكعبي، جواد كاظم لفته. جدلية “الخيل” و”الخيالة” في إدارة تكاليف العمليات النفطية بموجب عقود جولات التراخيص. http://iraqieconomists.ne في 20/9/2017.

الكعبي، جواد كاظم لفته. هل بمستطاع قانون شركة النفط الوطنية العراقية إدارة وتعديل عقود جولات التراخيص النفطية؟ www.akhbaar.org في 5/3/2019.

……………………………………………………………………………….

د. جواد الكعبي [email protected]

1 نيسان/أبريل 2020

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here