يحيى السماوي .. احلام ثائر ودمعة عشق في محاجر فقير

يحيى السماوي .. احلام ثائر ودمعة عشق في محاجر فقير

حوار : راضي المترفي

· امي .. باعت ” حِجلها الفضة ” ومصوغاتها القليلة كي اطبع ديواني البكر

· انا .. ابن أم قروية وأب بقّال كان يبيع الخضروات على أرصف المدينة

· نحن ـ العراقيين ـ تبدأ شيخوختنا في سن العشرين

· أحب العراق لأن السماوة تقع فيه

· سرق ديوان مخطوط لي شخص لايفرق بين الشعر والشعير

· ما زلت طفلا يحبو على رصيف الشعر

· أنا لست عذريا ـ لكنني في نفس الوقت لست ماجنا

· في العشق أعقد الألفة بين الروح والجسد

· التي ستقتلني ليست شاعرة ، ولا غزالة أنثوية ، إنما : صخرة سيزيف

· العراق الان ليس دولة واحدة ، إنه أرخبيل دويلات هشة

كلما حاولت السير باتجاه يحيى السماوي تشط بي السبل حتى الضياع ولم اتمكن من قص اثره بالطريقة التي ترضي غروري ، لكنه في كل حال يثير غوايتي ويدفعني للوصول اليه .. وبين حلم الشعر وواقعية الثائر تيه بعيد لكنه يتسربل بكليهما بوضوح .. وبين قنوط الفقراء واحلامهم حرب ضروس لكنه تصالح معهما بعجائبية تلفت النظر ، وبين مدينته السماوة وغربته في استراليا حنين لا ينضب لكنه كان يقطعه بتمرد بين حين وحين .. وبين العشق والكتمان قطيعة لم يحتملها جميل فباح باسم ( بثينته ) ولم يعرف احد من هي بثينة السماوي؟ وبين الدمع والعض على النواجذ تصابر صعب ربما خسره يحيى فسال دمعه مدرارا .. وبين الصبر والشكوى جبل شجاعة ارتقاه بعناد وعل .. ومع كل هذه الموانع قررت القفز فوقها ومكاشفة يحيى عما يدور بداخلي علّي احظى منه على ما يبدد ما في داخلي من ضباب ..

• هل بإمكانك رسم صورة قلمية ليحيى كما تراه انت وليس كما تطمح ؟

ج : أنا كما أعرفني : ابن أم قروية وأب بقّال كان يبيع الخضروات على أرصف المدينة قبل أن ينجح باستئجار حانوت صغير في سوق المدينة ، حتى إذا مرّت عقود على فقره الثريّ بالقناعة ، أصاب مالاً وفيراً حلالا ، فلم نعد ننتقل بين بيوت الإيجار الضيّقة ، فابتنى لنا بيوتا رحبة … كان أبا رائعا ، , وأمّا الأم فلم تكن أقلّ روعة ، حتى أنها باعت ” حِجلها الفضة ” ومصوغاتها القليلة كي تساعد أبي في جمع خمسين دينارا لأطبع مجموعتي البكر ” عيناك دنيا ” وأنا وقتذاك طالب في مرحلة الدراسة الثانوية .

• بين لغة الشعر ولغة السيف حلم ودم .. عرفناك حالما فهلا عرفتنا كيف تعاملت مع الدم ؟

ج : أنا بطبيعتي إنسان حالم ، كثيرا ما أشيد في خيالاتي مدناً وبساتين وأشقّ أنهارا أقودها نحو الصحارى ، وأجوب آفاقا بعيدة حتى وأنا منغرس في غرفتي كبقايا شجرة … لازلت أتذكر موقفا طريفا : كنت موقوفاُ في معاونية أمن السماوة ، موقوفا لبضع ليالٍ داخل مرحاض مهجور تسفُّ فيه الفئران والقمل ، وتفوح منه رائحة عفنة ـ ومع ذلك فقد كنت أفتح في خيالي نافذة أطلّ منها على أفقٍ رحب ، بل وكتبت في ذاكرتي قصيدة غزل .. نحن ـ العراقيين ـ تبدأ شيخوختنا في سن العشرين ، أمّا بسبب الفقر ، وأما بسبب القمع الديكتاتوري لذا فالشعراء منا يكتبون قصائدهم بالدمع أو الدم ياصديقي .

• لك مجلس بين الفقراء وامتطاء لصهوات الشعر فما صحة وقوفك في طوابير (الرفحاوين ) لقبض المكاسب ؟

ج : إذا كان مبررا للذين حملوا السلاح ضد النظام الديكتاتوري معرّضين حياتهم للموت ، أن ينالوا حقوقا ومكاسب ، فإنه ليس مبررا أن يتقاضى أطفالهم رواتب ..

أنا شاركت في الإنتفاضة مقاتلا وخطيبا وكُدت أقتل في إحدى المواجهات مع قوات النظام الديكتاتوري ، ونجوت من الموت أكثر من مرة في تلك المواجهات ، وحين هربت من العراق بعد فشل الإنتفاضة ، والتحقت بي عائلتي ، ودخلنا معسكر رفحاء ، فإنني بعد سقوط النظام لم أقدم طلبا بحقوقي ، واستمر عدم تقديمي طلبا سنوات عديدة ، حتى حثّني صديق حميم ـ هو أ . فاضل هاني طاهر ـ على تقديم طلب كمفصول سياسي ، ولم أقدم طلبا باسم بناتي وابني مع أنهم يحملون هوية الأمم المتحدة كلاجئين في معسكر رفحاء ، مما تسببتُ في حرمانهم من مبالغ بمئات ملايين الدنانير !

أنا مع تخصيص رواتب للذين حملوا السلاح وقاتلوا ـ ومثل هذا الحق تمتع به كل مقاتلي حركات التحرر ورفاق السلاح ولنا في رفاق كاسترو ولينين أمثلة … أما منح الأطفال رواتب ، فلا أراه منصفا .

• يقول سماوي اخر هو ناظم : ( ودعت السماوه بليل .. اسافر لاصديج وياي .. بس جدمي نكل حسره ) انت كيف ولماذا ودعت السماوة ؟ وهل كان الوداع بليل او نهار ووداع الليل يعني هروب ؟

ج : دائما أقول : إذا كان العراق أبي ، فإن السماوة أمي !

وأكرر مع نفسي : السماوة هي جنتي وجحيمي … هي جنتي لأنها حقا أجمل عندي من كل مدن الدنيا ..أحيانا يصل بي عشقي السماوة للدرجة التي أشعر فيها أنني أحب العراق لأن السماوة تقع فيه ، فلو كانت السماوة تقع في بلد آخر لأحببت ذلك البلد أكثر من حبي للعراق ..

أما لماذا هي جحيمي ، فذلك لأنني استودعت شخصا من أهل السماوة ـ ظننته صديقا ملاكاً ـ بستاني وبيت أحلامي ومكتبتي ، فخان الأمانة عندما تأكد له أن عودتي الى العراق ستفضي الى إعدامي ، وكان يعتقد أن نظام صدام لن يزول فخان الصداقة والرجولة والشرف كاشفا عن كونه شيطاناً وليس ملاكا كما ظننت ، فإذا بي لم أحصل من بستاني ولو على سعفة واحدة ، ولا من بيتي ولو على طابوقة واحدة ، ولا من مكتبتي التي تجاوز عديدها الثلاثة آلاف كتاب ولو على غلاف كتاب واحد !( الأنكى من ذلك أن ابنه وجد بين كتب مكتبتي ديوانا مخطوطا كنت ضممت فيه بعض قصائدي فانتحلها وراح يقرأ بعضها على شعراء السماوة مثيرا دهشتهم وذهولهم على أنها من شعره ـ وهو الذي لا يعرف الفرق بين الشعر والشعير ولا بين ميزان الشعر وميزان عليوي العطار ـ قبل افتضاح أمره فأضحى مثار تندّر بين شعراء السماوة ) .

• امتاز معاصروك .. الجواهري بالجزالة وعبد الواحد بالإطناب وتميزت بالرقة .. من منكم ستحتفظ له كتب الادب بذكر على مدى ابعد ؟ اتمنى الحقيقة في الجواب وليس التواضع او نكران الذات

ج : أقول صادقا والله : أنا مجرد كلمة ، أحاول أن أكون جملة مفيدة في كتاب الشعر … والله ياصديقي القاص المبدع والإعلامي القدير أبا محمد ، ليس تواضعا بقدر أنها الحقيقة : مازلت طفلا يحبو على رصيف الشعر رغم أنني أمضيت حتى الان أكثر من خمسين سنة في رحلتي مع الشعر .

• لك قرب من جميل واعجاب بأبن ذريح وشطحات مثل مجنون بني عامر وعفة مثل (كثير) وصمت مثل نصيب واعجاب بصاحب بنت المستكفي فهل تعد نفسك من الشعراء العذريين ؟ ومن هي ليلاك ؟

ج : حسنا ياصديقي : أنا لست عذريا ـ لكنني في نفس الوقت لست ماجنا … لست صوفيا ، وأيضا لست حسيّا .. في شعري الغزلي أحاول أسطرة العشق ، بمعنى أن أجعل من العشق الواقعي أسطورة ، ومن العشق الأسطوري حقيقة واقعية على الأرض ، فإينانا التي هي إلهة الجمال والحب والمطر والجنس في الأسطورة السومرية ، تحولت في مجموعاتي الأخيرة ـ وخاصة في مجموعتي ” نهر بثلاث ضفاف ” الى معشوقة تعيش على الأرض وليست في خيال الأساطير .. في العشق أعقد الألفة بين الروح والجسد .. بين هدى الروح ولذة الجسد .. وبشكل أدق : أهبط بالروح من سماواتها ، وأصعد بالجسد من أرضه ، فيلتقي الإثنان في اللامكان واللازمان ليقيما مملكة العشق الممتدة من أقصى الحلم الى أدنى اليقظة ، محاولا قدر استطاعتي نشر ثقافة العشق والمحبة والألفة والسلام كبديل لثقافة العنت والكراهية والحرب ..

• مضمار الشعر واسع لكن جياده تتزاحم فمن يزاحمك ؟ ومن يتقدمك ؟ومن يجري خلفك؟

ج : صدّقني ياصديقي ، ما أؤمن به هو : إنّ الشعراء جميعا بمثابة سلسلة لا متناهية الطول ، كلّ حلقة تُكمِل ما قبلها وتَكتمِل بما بعدها .. فالوردة الواحدة لا تكون بمفردها حديقة ، والعشبة لا تكون بمفردها حقلا .. في الشعر ـ كما في كل حياتي : لي طبع النهر ، حين أسير الى لا ألتفت الى الوراء ، فالأنهار لا تلتفت الى الوراء ، وما من سهم يلتفت الى القوس حين ينطلق منه ..

• الوطن ليس قطعة ارض هكذا يقول البعض ويعرفون الوطن على انه مجموعة علاقات ، وانت عشت في السماوة ردحا وفي بغداد حينا وقطنت استراليا عمرا ..فهلا اخبرتني لمن حنينك عندما تتواجد في السماوة وكذلك عندما تتواجد في استراليا او بغداد ؟

ج : صدقاً : حين أكون في أستراليا ، أحن الى العراق لأن فيه السماوة … وحين أكون في السماوة ، أحنّ الى أستراليا لأن فيها أديلايد ” حيث عائلتي وسِبطي ” حيدر ” ..

أما بغداد فلا أحنّ اليها بسبب كونها قد أصبحت مقرّاً لحيتان الفساد المالي والسياسي ولـ ” مافيا ” نادي المحاصصة .. ها أنا قد مرّ على وجودي في السماوة أكثر من ثلاثة شهور ، ولم أزر بغداد إلآ نصف نهار وليل ياصديقي …

• يوما قال الراحل ( عبد الامير الحصيري ) منوها لشاعرة عراقية معروفة : ( قتلتني كما قتلت السياب من قبلي ) .. من هي التي ستقتلك ؟

ج :التي ستقتلني ليست شاعرة ، ولا غزالة أنثوية ، إنما : صخرة سيزيف ياسيدي ـ أقصد : عدم تحقق أملي وحلمي ومطمحي بولادة عراق جديد يصبح فيه رغيف الفقراء أكبر من الصحن ، والصحن أكبر من المائدة ،والمائدة على سعة الوطن ، لا فرق فيه بين معتمر عقالٍ ومعتمر عمامة ، ولا بين مرتدي دشداشة ومرتدي بدلٍ باريسية ـ ولا بين ” سين ” و ” شين ” أو بين ” أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة ” وبين ” المومى اليه من عامة الشعب ” .. العراق الان ليس دولة واحدة ، إنه أرخبيل دويلات هشة ، كل حزب من أحزاب السلطة هو دويلة ، وكل وزارة إمارة ، وكل ابن مسؤول كبير هو ” وليّ عهد ” ..

• لمن كتبت اجمل قصائدك السرية ؟

ج : كتبتها ضد نظام صدام حسين قبل سقوطه ، وللحزب الشيوعي بالدرجة الأولى حين كانت الكتابة عنه تقود الى أقرب مركز شرطة أمن وتفضي الى حبل مشنقة أو ساحة إعدام بالرصاص .

• ما لذي يجذبك للسماوة بهذه القوة ؟ الماضي او الحاضر وكيف ؟

ج : لي صديق ـ ملاك أرضي ـ اسمه عباس حويجي ، قال قبل أكثر من نصف قرن : الجنة تبدأ من وطني .. أما أنا فأقول : الجنة تبدأ من السماوة .. حقا السماوة مدينة ملائكة .. كل أهلها ملائكة ـ باستثناء شيطان واحد ـ وما يؤاسيني في وجود هذا الشيطان هو أن قطرة قيح واحدة في نهر كبير لن تؤدي الى إفساد نميره العذب . السماوة من شجرتي هي : هي الجذور والجذع والأغصان ، فهي الماضي والحاضر والمستقبل أيضا ، رغم أنني كتبت في وصيتي أن أدفن في النجف الأشرف وليس في السماوة .

• كانت لك رغبات عند نساء وردن من دون مسميات في شعرك وكانت اخر رغبة لك هي طلبك منها ان تتيمم برمادك .. ماهي مواصفاتها ؟ وهل هي التي يكفي قليلها ؟ ومن الذي سيحرقك ويسلمها رمادك ؟

ج : كل النساء اللواتي وردن في شعري ، هنّ امرأة واحدة ـ بمعنى أنّ حبّة القمح في السنبلة تحمل صفات بقية حبوب السنبلة . أعتقد أن كل عاشق حقيقي في الدنيا ، يرى أن القليل من معشوقته ، أحبّ إليه من كثير الأخريات ـ فأنا في مجموعتي ” قليلك لا كثيرهن ” تحدثت عن جميع العشاق ، فالخاص هو عام على صعيد العشق في أسمى تجلّياته .

أما مَنْ سيحرقني ، فهو أنا ياصديقي ، ففي الأساطير ، يوجد طائر خرافي ، ميزته أنه يأكل نفسه كلما يجوع ..

• السؤال الاخير تسأله انت وتجيب عليه ما رايك ؟

: سؤالي هو : كن صريحا وأجبني : كم واحد كسرت ضلوعه بمقالبك أخويا أبو محمد ؟ أذكر لي أسماء تسعة أشخاص فقط .

ما أعذبك !

دمت قاصا مبدعا ، وإعلاميا قديرا ، وصوت حق في زمن الباطل هذا .

· بعد انتظار مضني وصبرا على مزاج شاعر وملل من سلحفاة بطيئة اسمها (الانترنيت ) رجعت وفي شبكتي صيد كثير لكنه لم يرضي غروري اذ لم افلح في جر الشاعر الى مناطق بوحها اكثر خطورة كونه كان حذرا ويقظا ولم يبتلع الا القليل من (الطعم ) لكن مع كل ذلك كنت فرحا مسرورا بوصولي الى مناطق في حياة الشاعر لم يكشف عنها في حوارات سابقة واملا على ان احاصره في قادم الايام في حوار اجبره على البوح عن خفايا كثيرة .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here