تاريخ تسرب الأفكار العَلمانية الى كُردستان/ج4

أ.د.فرست مرعي

الحركة الثقافية الكردية في ظل الاستعمار الفرنسي

كانت سوريا واقعة تحت سلطة الاستعمار الفرنسي، لذا استغل غالبية القادة الكُرد الذين هربوا من تركيا إثر ثورة الشيخ سعيد بيران عام1925م، أجواء الحرية التي سادت الساحة السورية بوقوعها تحت سلطة الاحتلال الفرنسية؛ لذا أصدر كبير القياديين في حزب (خويبون- الاستقلال) الأمير جلادت أمين عالي بدرخان (1893-1951م)، والهارب من تركيا لاسباب سياسية، مجلة هاوار (= الصرخة) باللهجة الكرمانجية وبالأحرف اللاتينية في شهر أيار/مايو 1932م في دمشق، وطور الأبجدية اللاتينية على غرار الأبجدية التركية الجديدة بوصفها مناسبة أكثر وفق منطقه للغة هندو – أوروبية كالكردية.

وتجدر الاشارة الى أن الذي ابتكر الابجدية (=الالفباء) اللاتينية في الأصل وطورها لتناسب اللغة التركية العثمانية، هو الطبيب العراقي الموصلي داود الجلبي(1879-1960م) الذي كان قد قدمها كبحث تخرج الى جامعة استنبول عام1909م، وقد استفاد منها مصطفى أتاتورك (1881-1938م)، في سعيه في إجراءاته لتطبيق العلمانية ومحاربة الدين الاسلامي عام1928-1929م بتطبيقها على اللغة التركية الحديثة عوضاً عن اللغة العثمانية التي كانت تكتب بالاحرف العربية.

وفي السياق نفسه قامت المنظمات والأحزاب الكردية في سوريا بفتح دورات سرية في منطقة الجزيرة(= شمال شرق سوريا- كردستان سوريا) لتعليم اللغة الكردية قراءة وكتابة بالحروف اللاتينية أسوة بأكراد تركيا الأكثر ملاءمة مع اللغة الكردية!، يدعم ذلك قول المستشرق والمبشر الفرنسي

الدومنيكاني توماس بوا (1900-1975م): ” إن الكتابة باللاتينية التي تطمح بأن تصبح شاملة، تشجع التبادل الثقافي والتقني والتجاري، كما يصير بإمكان الشرقيين تعلم اللغات الغربية بسهولة، لينضموا إلى ركب العالم المتمدن، وبالمقابل يصير في وسع الغربيين تعلم اللغة الكردية بسهولة “، بينما يقول باحث وضابط استخبارات فرنسي آخر بيير روندو(1904-2000م): “إن واقع اختيار المثقفين الأكراد للأحرف اللاتينية جعلهم يبتعدون عن الأوساط الثقافية العربية والإيرانية… ليتموضعوا بوضوح في حقل علماني”، وبالمقابل دافع بعض مؤيدي آل بدرخان من الملالي والشيوخ المنخرطين في القضية القومية الكردية مثل الشيخ عبدالرحمن عبدالله الكارسي(ت1932م) القيادي وممثل حزب خويبون في الموصل عن (الالفباء اللاتينية المستحدثة) بقوله: ” لم ينزل الله علينا تعاليمه بأحرف وصور بل بالكلام”، فقرر الأخوان جلادت بدرخان وكاميران بدرخان عقب ذلك رغم ميولهما العلمانية؛ ترجمة القرآن الكريم بأحرف لاتينية.

وقد أثارت الألفباء الكردية اللاتينية التي وضعت في سورية؛ ردات فعل متنوعة ليس في العراق وحده، فالقوميون العرب رأوا في مسار اللَتننة اتجاهاً خطيراً، لا سيما تلك التي بدأها العقيد الكردي العراقي والوزير سابقاً توفيق وهبي ( 1891-1984م) في العراق بالتعاون مع المستعمر البريطاني وتحديداً مع المستشار البريطاني في وزارة الداخلية العراقية في العهد الملكي سسيل جون أدموندز(1889-1979م) مؤلف كتاب كرد وعرب وترك)، وقد نشرا معاً بعض البحوث والدراسات، لاشك أن القاموس الانكليزي – الكردي كان من أهمها.

ويبدو أن التعاون والتنسيق بين الشخصيتين الكرديتين جلادت بدرخان وتوفيق وهبي لم يصل الى النتيجة المنشودة، بسبب الخلاف الحاصل حول الالفباء الكردية ما بين اللهجتين الكرمانجية الشمالية(= البهدينانية) والكرمانجية الجنوبية (= السورانية) من جهة، والخلاف بين الدولتين

المستعمرتين فرنسا وبريطانيا حول أجندتهما في هذا المجال من جهة أخرى، ففرنسا كانت تدعم الكرد وباقي الاقليات الدينية والمذهبية في سوريا على أمل تقسيم سوريا الى عدة دول كما هو معلوم، أما بريطانيا فكانت على النقيض من ذلك، فهي التي الحقت ولاية الموصل ذات الغالبية الكردية بالعراق وفق معاهدة 1926م، وكانت تحاول الاستفادة من نفط شمال العراق دعماً لماكنتها الحربية.

وعلى أية حال فإن الفرنسيين داوموا على تشجيع آل بدرخان على اللتننة من خلال دعم المستشرقين والمبشرين الفرنسيين لهذه العملية، وكان المستشرق الفرنسي روجيه ليسكو ( 1914-9751م) صريحاً في هذا الاتجاه من خلال وصفه بأن الكتابة باللاتينة هي مظهر تقدم ومدنية، واستمر الامر على هذا النحو حتى نهاية الانتداب الفرنسي على سوريا في عام 1946م.

وفي الجانب الكردي، رأى المنضوون تحت راية حزب (خويبون) والحلقات القريبة منه في هذه العملية خطوة إلى الأمام على طريق التقدم، في حين أثارت الأوساط الإسلامية المحافظة أحكامها المسبقة ضد هذا التغيير الذي رأته مساساً بالقرآن الكريم وبالدين الإسلامي، وبوحدة المجتمع المسلم.

وفي الوقت الحاضر فإن النخبة الثقافية الكردية وغالبية قيادات وكوادر الأحزاب الكردية العلمانية في جميع أجزاء كردستان يكنون احتراماً وتقديراً لآل بدرخان(= جلادت وأخيه كاميران) على ما بذلوه من جهود حثيثة في خدمة القضية الكردية من النواحي السياسية والثقافية، وبأنهم كانوا الرواد نحو نقل المجتمع الكردي إلى مضمار التقدم والمدنية والحداثة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here