تأريخ تسرب الأفكار العَلمانية إلى كُردستان/ج7

تأريخ تسرب الأفكار العَلمانية إلى كُردستان/ج7

أ.د. فرست مرعي
بعد نجاح ثورة 14 تموز 1958 صدر قرار العفو عن الثوار الكرد، الذين ناضلوا من أجل الحقوق القومية الكردية، ورجع ملا مصطفى البارزاني مع مقاتليه البارزانيين إلى الوطن.
وبالرغم من أن ثورة 14 تموز دعمت مركز الملا مصطفى البارزاني والبارزانيين، إلا أنها عززت أيضاً مركز البارتي، بالرغم من أن عبدالكريم قاسم أيد الملا مصطفى وليست قيادة البارتي ومع ذلك، فإن البارتي مثله مثل سائر سائر الاحزاب السياسية بعد الثورة، بدأ يعمل بحرية بوجه عام قبل اجازته فعلياً في عام 1960م. وقد قبل في جبهة الاتحاد الوطني المعاد تنظيمها بعد الثورة.
وعندما عاد الملا مصطفى البارزاني الى العراق تولى قيادة الحزب. ومع ذلك فإن الحزب لم يصر على مطالب آنية، وكان زعيمه خاضعاً لتوجهات قاسم، الذي وجد في كل من حزب البارتي وزعيمه أدوات مفيدة لكبح التيار الصاعد لنزعة القومية العربية، وفيما بعد لنفوذ الشيوعيين المتزايد.
وفي غيابه كرئيس للحزب عقد الحزب الديمقراطي الكردستاني الموحد ثلاث مؤتمرات: الأول عقد في 16 آب /اغسطس عام1946 وقد حضرهُ 32 مندوباً في منزل السيد سعيد فهيم في بغداد، والثاني عقد في شهر آذار / مارس 1951 في منزل السيد علي حمدي في بغداد بمشاركة قرابة (30) ممثلاً عن الفروع ولجان مناطق البارتي، والمؤتمر الثالث عقد في 26 كانون الثاني/يناير عام1953م في مدينة كركوك وبمشاركة قرابة (35-40) ممثلاً.
وغني عن القول ، بدأ حزب البارتي بالانشطار بصورة تدريجية في أواخر الخمسينات الى جزئين: الأول برئاسة ابراهيم احمد يمثل الاغلبية، في حين كان الثاني يتألف من أربعة أعضاء جميعهم من الشيوعيين القدامى، ويقفون ضد مجموعة ابراهيم احمد، ولكنهم لا يملكون إلا سنداً ضئيلاً داخل الحزب. وبعد عودة الملا مصطفى الى العراق وترأسه للحزب، بدأت مجموعة الاربعة بالتقرب منه ودفعه لاتخاذ اجراءات مضادة لابراهيم احمد، وبالفعل اتخذ الملا مصطفى قراراً يقضي باعادة السكرتير العام القديم للبارتي (حمرة عبدالله) الى الحزب.. إن عودة هذين الشخصين المهمين (ملامصطفى البارزاني وحمزة عبدالله) الى الحزب دعم المجموعة المضادة لابراهيم احمد، حيث أصبح الوضع ينطوي على تهديد جدي لمركزه. بدأت المجموعة المعارضة لأبراهيم احمد بالهجوم عليه منتقدة كثرة لقاءاته مع بعض القوميين العرب والبعثيين في العراق.. ومن الواضح أن لقاءات ابراهيم احمد هذه كانت مبنية على إعتقاده بأن القومية العربية ستكون القوة المهيمنة في العراق وأن الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة تحت قيادة الرئيس جمال عبدالناصر واقعة لا محال. وإن التعاون مع القوميين العرب والبعثيين سيحقق فوائد كبيرة للكرد، ومما شجع اعتقاد ابراهيم احمد هذا هو تأسيس الرئيس عبدالناصر لاذاعة كردية في بداية عام1958م وكذلك لقاءه معه في القاهرة في تشرين الاول عام1958م عند عودته برفقة الملا مصطفى البارزاني والوفد المرافق له قادمين من تشيكوسلوفاكيا.
ومن جهة أخرى يبدو أن حمزة عبدالله كان له رأياً آخر حيث اعتقد أن الشيوعية ستكون القوة المهيمنة في السياسة العراقية، وأن التعاون مع الحزب الشيوعي سيكون له مردود أكبر للكرد.
وعلى كل حال، فاستناداً الى قول ابراهيم أحمد فإنَ إقدام الملا مصطفى على الانحياز التام لحمزة عبدالله وجماعته جاء نصيحة من عبدالكريم قاسم.
وعندما فشل دعاة الوحدة السريعة مع الجمهورية العربية المتحدة في تحقيق هدفهم، تزعزع مركز ابراهيم أحمد واشتد الانتقاد لسياسته، وحتى عندما حاول انقاذ الموقف بالتعاون مع الحزب الشيوعي الذي أبرم معه ميثاقاً للتعاون، اتهمه نقاده بالاتفاق على شروط غير متساوية. في تلك اللحظات شعرت مجموعة حمزة عبدالله بقوتها أكثر من أي وقت مضى، فشجعت الملا مصطفىى على تقديم استقالته وعدم سحبها إلا في حالة خروج إبراهيم أحمد وجلال الطالباني عضوا المكتب السياسي من الحزب.
وفي كانون الثاني عام1959م نجح الانقلاب الحزبي الداخلي واستعاد حمزة عبدالله منصبه القديم كسكرتير عام للحزب بمباركة الملا مصطفى البارزاني.
ويذكر الدكتور (عبد الستار طاهر شريف، في كتابه (الجمعيات والمنظمات والأحزاب الكردية في نصف قرن 1908 – 1958 ) الصفحة 158):” إن الحزب الديمقراطي الكوردستاني قد طعم ببذور التناقض والإنشقاق منذ الوهلة الأولى لميلاده”. وبخصوص موقف أعضاء البارتي من منهاج الحزب التي كانت تتغير مواده الرئيسية من مؤتمر لآخر، يضيف” إن منهاج الحزب الذي كان يقرر خلال المؤتمرات كانت من ضمن الأسباب التي أدت إلى تلك الإنشقاقات وظهور التناقضات”.
ويبدو أن الصراع بين الأستاذين أبراهيم أحمد وحمزة عبد الله في تلك الحقبة كان سيد الساحة، فعلى حد قول أحد الباحثين (مير عقراوي):” أن الصراع لم يكن من أجل أختلاف في أفكارهما أو ميولهما، لأن الحزب أصلاً سلك الأتجاه اليساري بعد المؤتمر الثالث(=1953م)، ولكن يبدو أن الصراع بينهما كان من أجل محاولة كلٌ منهما الفوز بكرسي زعامة الحزب وفرض آرائه ليس إلا!، خاصة حينها لم يكن هناك أي بصيص من الأمل في عودة زعيم الحزب الملا مصطفى من المنفى في ظل حكم الحكومة الملكية.ولكن بعودته وقوة شخصيته استطاع لملة صراعات الحزب وانقسماته الى حدٍ كبير.
ومن جانب آخر يذكر الباحث المسيحي الكلداني والقيادي في حزب البارتي جرجيس فتح الله(1920-2006م) في كتابه ( زيارة للماضي القريب ،الصفحة 19) حول محاولة الحزب الشيوعي العراقي احتواء حزب البارتي بالقول:” حاول الحزب الشيوعي الذي أعاد تنظيم نفسه من البداية أستغلال تفوقه النظري في بؤس كردستان ووضعها المتردي للتغلغل في جسم الحزب الديمقراطي الكردستاني تمهيداً لأزدراده، لكن الحزب كان يملك منذ تكوينه كتلة المناهضة وذراع المقاومة القوي فتأصل في جذور الحركة الوطنية وحافظ على شخصيته المتميزة بأعضاء ومؤازرين جاؤا من أوسع رقعة للمجتمع الكوردي وأحتضن وهضم الفلاح الأمي الفطري إلى جانب التاجر والطبيب والمقاول والأستاذ الجامعي ولم يشكوا عسر هظم مطلقاً لقد حقق الحزب تألفاً منقطع النظير ووفق بين طموح الطبقة البورجوازية الكردية اليافعة وبين أماني الفلاح المعدم الذي يقف في آخر سلم التدرج الطبقي”.
ويضيف جرجيس فتح الله: “كان الحزب الشيوعي العراقي السري الذي يتعرض لأشد أنواع الملاحقة والتنكيل يتردد في منح الشرعية له، فهذا الحزب الأممي الذي لا يقر بالتعصب القومي ظل متذبذباً في الأعتراف بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره وتأسيس الدولة الخاصة به وكان يروغ عن الجواب الصريح ويلف ويداور حتى عام 1952 عندما كان (باسم) سكرتيره العام وهو كردي(وهو الأسم المستعار لبهاء الدين نوري) وقد تراجع عن الأعتراف بعد ذلك متردداً بين التصريح بهذا المبدأ المقرر ماركسياً لكل الشعوب وبين التريث والأهمال والإنكار رضوخاً أو تجاوباً مع رأي البرجوازية العربية وخوفاً منها، وفي عين الوقت بقي يهاجم الحزب الديمقراطي الكردستاني زاعماً أنه إذا كان الحزب ثورياً وتقدمياً (يؤمن بالماركسية اللينينية) فعليه أن يندمج بالحزب الشيوعي العراقي، وإن لم يكن كذلك فعليه أن يترك شعاراته الأشتراكية ويعمل كحزب أشتراكي وطني، وبغير ذلك ينظر إليه الحزب الشيوعي نظرته إلى حزب مخرب يعمل على شق صفوف الطبقة العاملة والفلاحية ويضر بالحركة الوطنية العراقية ثم يعود الحزب الشيوعي بعدها لينكر على الكرد حقهم في تأسيس حزب (ماركسي) خاص بهم في العراق مادام فيه حزب ماركسي هو الحزب الشيوعي العراقي، وأقام شيوعيو العراق الدنيا وأقعدوها على (ب. د. ك)لأنه يصر على أعتبار الشعب الكردي أمة، في حين لا تنطبق عليه الشروط الواردة بكتاب (ستالين)في تعريف الأمة (الأعتراف المبدئي بحقوق الشعب الكردي، بما في ذلك حق تقرير مصيره بنفسه”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here