محطة رقم 4 الفرزة الثالثة

محطة رقم 4 الفرزة الثالثة
في بـدايـة عام 1954 يَـحِـلُّ عـلى العـائـلة مـولـودٌ ذكـرٌ أسـموهُ مـحـمـد رضـا تيـمنًا بـالامـام عـلي الـرضا عـليه الـسـلام
وتـقـول والـدتي أنّـها طلـبـتـه من الإمـام .
وفي هـذا العـام كانـت نـتـيـجـتي للـسـنـة الاولـى في الـصف الـرابـع الابـتـدائـي هي الـرســوب الـذي كـان وراءَهُ شــقـيـق
أبـي وعـديـلهُ العم [ عــبـود ]الـذي زوجّـهُ والدي بآخر مبلغ من الـمال الذي بـقي لـديهِ بـعـد خـسـارتهِ مع
إبن خالتهِ وعـديلهِ الـحـاج حـســون وهـذه الـعـمـلـيـة لـيـسـت الاولـى لـعـمي عـبــود فـقـد ســبـقـتهـا عـمـلـيــتـان
أرسـب فيهـما أخي نـافـع وإبـن عـمنا سـعـيـد في الـرابع والخـامـس إبـتـدائي وهـذا ما عـلمـتُه من والـدتي عندما
رأيتُها تبكي وهي تتكلم مع أبي بطـلب وسـاطـة عمي عبود لمـساعدتهـما فكان جوابه [ أنا طـلبتُ إرسابهما
حتى يتـقويا على الـقراءة ]وقـد ثارت ثـائرة أمّـي حين تـكررت في الصـف الخـامـس وكـررهـا مـعي بطريـقة لا تُـثـيرُ
الـشـبهـة وفي الـصفـيـن الـرابع والخامـس الابـتـدائي أيـضًـا حيث أرسبني بأربعة دروس وليس بثلاثة كما في رسوب
نافع وسعيد ولـو لـم يـنـتـقـل الى قـضـاء الـحي في نـصف الـسـنة الـدراسـية لكان رسـوبي في الـصـف الـسادس أكـيـدًا
بعد أن أخبرني أحد الطلاب بذلك وسـأتـناول ذلك مُـفـصّلاً عـنـد وصولي الى مـحـطّـة الاشـخـاص الـذيـن تـربـطـني
بـهـم صِـلَـةُ رَحِـــم .
كانـتْ أمي كعـادتها لا تهـدأ ولا تـنـام إلّا بـعـد أن تـأخـذ جـولةً حـول فـراشـنـا خـاصةً في أوقـات الـصـيـف كي تـطـمـئـن
مـن خِـلُـوِّ الـسـاحـة مـن الـهوام كالعـقـارب والـحـيّـات الـتي يـحـلـو لـهـا الـخـروج في أول الـلـيـل وتـقــــوم بـهـذه الـدوريّـةِ أول
اللـيـل وقـبـل أن تـنـام وعـنـد صلاة الـفـجـر وقـد رَوتْ لي حِـكايـةً أنّها شـاهـدتْ صِـلاً وهـو فـرخُ الـحـيّـةِ كان هـذا الـصِـلُّ
يـتحرك فـوق سـقـف على الكِـلّـةِ الـمـنـصوبـةِ عـلى سـريـرهم وهـو يـحـاول الـعـبـور إلّا أنّـه لا يـتـمـكّـن لأن سـقـفـها ناعم
ومُـقَـعّـر، تـقولُ والـدتي تـحيـرتُ كـيـف أُلـقي بـه وأنـتُـم نـائـمـون مـن جـانـبيّ الـسـريرِ على الارض وبـقـيـتُ حائرةً أتـأمّـل
كيف اجدُ حَـلّاً مُـنـاسـبـاً للـتـخـلصِ مـنـه دون أن اُوقـظـكم وبعـد الـحَـيـرةِ أتـتْ الـفـكرةُ وهـي أن آخـذ عـوداً من
الـباريـةِ التي هي من قـصب الـبـردي لأحـمـلَهُ بـهـا بعـيـداً عـنكم ثـم أجهز عليه وتقـول : ما أن وضعـتُ عُـودَ الـقـصـبِ
عـلى ظهـر الصِـلِّ حتى غــدا شـلـوًا فحـمـلـتُـهُ بعـيـداً ثـمَّ وضعـتُـه على الارض وأخذتُ بضربه بنقس العود حتى هلك
ومن هـذا تَـبَـيّـنَ لي والقول لأمي أن القصب عدوٌ مميتٌ للأفاعي وبالفعل وجدنا حَـيّـةً كـبـيـرةً تحت الـباريـة
وجـدنـاها مـيّـتَـةً وهذا اكتشاف لِمَن يُريد قتل الحيّات .
وأتـذكرُ أيـضًـا أنْ جـاءتْ لأمي زوجـة الخـال الحاج سـلمان نـجـيـبه سلطان وهـم معنا في الـقـسم الآخـر من دار
الـعـلويـة مـيّاسه ، جـاءتْ صباح يـومٍ صيـفي تطلـب من أمّي أن تأتي معها لـتُـشـاهـد عـقـربـين صغـيرين مـنـبـسـطـين
على فـراش إبـنها عـمـران ، ذهـبـتُ مع أمي وكان الـفـراشُ على سـريـرٍ عـالٍ عـن الارض فـشـاهـدتُـهـما مـثـلما وصفتْ
عـقـربــين صغـيـرين يـضـربُ لـونـهـمـا الـى الـخُـضـرةِ قـد انـبـسـطا فــوق الـمـنـدر لـم يـتحركا الى أن جـاءت أمّـي وقـتـلـتهـما
ومن ذكـريـاتي في هـذه الــدار أنّـي كـنـتُ ذاهـبـاً في لـيـلـةٍ شـتـويّـةٍ الى جـهـة مسـكن الخال الحاج سـلمان ومعي فـانـوس
لطلـب حاجـةٍ مـنهـم وعـنـد وصولي الى الركـن الـقـريـب للـنـخـلـة رأيـتُ أمـامـي رجـلاً مـتـوجـهاً الى حُـجـرةِ الـعـلـويـة
فـتـهـيـأَ لي أنّـهُ إبـنْ خـالـي ســالـم نـاديـتُ عـلـيـه عِـــدّة مـرّات سـالـم سـالـم سـالـم وفـي كـل مَـرّةٍ أرفـع صـوتي أعـلـى إلّا
أنّــهُ لـم يـلـتـفـتْ إلـيَّ ولـم يُـجـبـني ودخــل حـجـرة العـلويـة مـيّـاسـة وهـي مُـغـلـقـة كما أعـرفها مُـغـلـقـةً لـيـلَ نهـارَ ولـمّـا لــم
يُـجـبـني ودلـفَ الـحُـجرةَ المغلقة داخـلـني الـخـوف بـحـيـث عُـدتُ مُـهـرولاً الـى والـدتي وحكـيـتُ لهـا ما حـدث
فطـمـأنـتـني بـكـلـمـاتـهـا الـهـادئـة وقـالتْ لا تَـخَـفْ هـذا مَـلَـكٌ صالحٌ وعلى أثرها لم أقترب من تلك الحجرة .
ومن ذكرياتي أيضاً ما حصل لي في إحـدى اللـيالي الـشـتويـةِ الـمطـيرة وهو أنـنا إحـتجـنا شـراء بعض الحاجات
من تـمـر وبـيض ومـواد أخرى لا أتـذكرها فـإصطـحـبـني أبـي مـعـه الى الـسـوق واشـتـراهـا من الـبـقـال كـاظـم عـبـد
عـلي الـمـلـقـب بـكـاظـم إرديـحـه وبعـدهـا كان عـليَّ أنْ أعـودَ لـوحـدي لأن أبي يُريد قضاء بعض الوقت مع أصحـابـه
في الـمـقـهى ومـا أن وصلـتُ الى مـنـتـصـف الطـريـق حـتى خـرج عَلَيَّ كـلـبـا شـرطي الـخَـيّـالـةِ عـبـد الرضا فكانت
مفاجأةً لـم أسـتـوعـبها إلّا بأن أطلق سـاقيَّ للـريح وزنـبـيـل الـمـواد فـوق رأسـي والارض مـمطـورة والـطـريقُ مـظلِـمـةٌ
نـجـوتُ مـن الـكلـبين وصرتُ قريبًا من المنزل ولـكن وقــع مـا هـو أسـوء حـيث تـكوّمـتُ في حُـفـرةٍ للـماء الآسـن أمام
بـيت مـحـمـد حـويـتـم الـقـريـب من مـدخـل الـزقـاق ويـذهـب الـزنـبـيـل بـما فـيـه بـالـطـين ويتكـسـر الـبـيض دخلتُ
البيتَ بحالـتي الرثةِ فتـلـقـتـني أمّـي وهي بـيـن ألَــمين مـشـهـدي و خـسـارة الـمـواد ولكنها أخـذتْ بـالـتـخـفـيـف عـني
بـكـلامهـا وبقيت هذه الحادثة ذكرى لا تُـنـسى .
وهـنا أقـول عن وضعٍ خـطيـر مـوجـودٌ الى الآن في مـناطـقـنـا الـشـعـبـية هـو وجـود مـثـل هـذه الـحُـفَـرِ أمام بعض
الـبـيـوت للـتـخـلص من مـياه الغـسـيل وهي مـكـشـوفةٌ دون غـطــاء حـيـثُ تـتـسـبـب في كـثـيـر مـن الاحـداث وقـد تُــؤدي
الـى الـمـوت خاصةً في اللـيـل ولا أدري لـماذا يـتـغاضى عنها مـراقـبـوا الـبلـديـةِ دون إتـخاذ إجـراء قـانـوني بحق هــؤلاء
ولو بالـطلب من أصحاب تـلك الـبـيـوت تـغـطـيـةَ حُـفـرِهـم لسلامة الناس .
ومما اتذكره فـي ذلكَ الـبـيـت أني ذهـبـتُ مع عـمـران إبـن خـالي الحاج سلمان الى نهـر دجـلـة الـذي لا يـبـعـد عـن
بـيـتْ العـلـوية مـيّـاسـة أكـثـر من مـئـتـي مـتـر ذهـبـتُ معه الى الـنهـر وأنـا لا أعـرف الـسـباحة أمّـا عـمـران فـكان يـسـبح
بـمـسـتـوى الـواثـق من نـفـسـه نـزلـنـا الـسـدّة الـتـرابـيـة الـمـرصوفـة بـالـحَـجَـر مِـنْ جـهـة الـنـهـر جـلـسـتُ عـلى الـرصيف
الـمـعـمـول مـن الاسـمـنـت لحـمـايـة الـكـتـلِ الـحـجـرية مـن الانـزلاق الـى داخـل الـنهـر فوضع عـمـران ملابـسـه بـجـانـبي
ونـزل الى الـمـاء بـقـيَ يـسـبـح وأنـا أنـظـر إلـيـه ورجـلـيَّ في الـماء والى جانبي مجموعة من القُـفـف والـقُــفّـةُ هي وعـاء
مـصنوع من الـقـصب الملفـوف بإحكام مع بعضها فـتُـشـكلُ شـكلاً كـطـاسـة الـمـاء إلّا أنّ حـاشـيـتَها مـعـقـوفـة الى
داخـلهـا حـتى لا يـدخـل لباطنها الـمـاء وتُـطلى بالـقـار من الـوجهـيـن الـخـارجي و الـداخـلي لـمـنع التـسـرب
أعـود الى عـمـران وهـو يـتـبـاهى بـسـبـاحـتـهِ أمـامـي ثـم خـاطـبـني آنـي أسـتـطيع الـغـوص من تـحـت الـقُـفـف وأخـرج
من طـرفـهـا الآخر فـقُـلتُ لـه أرنـي ؟ فـغـاص في الـمـاء ومضى وقـتٌ لـم يـظهـر فـخالجـني الـخـوفُ عـلـيـه لـطول
الـوقتْ فـدفـعـتُ الـقـفـةَ التي بـقـربي كي تنزاح الـقُـفـفُ الاخرى بـعـيـداً عـسـاهُ يـخـرج وبـالـفـعـل خَـرجَ وهـو بالـنَـفَـسِ
الاخـيـر وقـال لي لـو مـا تـدفـع الـقُـفّـة كـان إغركت وهنا أقول : لا بُدّ أن يكون هذا الدافع الذي حركني هو ايحاء
ربّاني كي ينجو عمران من الموت وهكذا هي الاسباب الربانية .
كما أتذكـرُ يـومًـا أن مجـمـوعةً من نـسـاء جـيـرانـنـا كُـنّ يـأتـيـنَ لـمَـلـئ دوارقـهـن وهي مساخن لـنـقــل الـمــاء مـن حـنـفـيـتـنـا
وكُــنَّ بـيـن الاربــع أو الـخـمـس ، ســألـتـني إحـداهُـنَّ منو إلبينه حـلـوة بـيـنـاتـنـا فـأشـرتُ الى إحداهن إسمها نَـشَــم أو
نشميه فـتـضاحكن وتـكلـمـن فـيـما بـيـنهـن و لـم أتـبـيّـنُ مـا تـهامـسـنَ بـه مـن كـلام ثـم ذهـبـتُ عـنهـنَّ للألـعـب وخـرجـن
بعـد أن أخـذن كـفـايـتَـهُـنَّ مـن الـمـاء كان عُـمُـري آن ذاك أقـل من عـشـر سـنـيـن وبـعـد أيـام طُـرح عـليَّ نـفـس الـسـؤال
ثـم تـكـرر لـعِــدّةِ مَــراتٍ وكان جـوابي أن نَـشَـم أو نـشـمـيـه هـي أحــلاهُـنَّ عـنـد ذلـك إنـقـطعـتْ نَـشَــم عـن أخـذ الـمـاء
ولـم أرهـا الى يـومـنـا هـذا ويـتـبـيّـنُ لـي أن سؤالي هـو امـتحـانٌ لِـمَـداركي الـعـقـلـيـة لـتـحـديـد الـمـوقفِ الـشـرعي .
وعَـلِـمـتُ بعـد سـنـيـن أن جـارتـنـا نَـشــم بـنـت حـطـوط وهي أخـت الـبـنـاء نـوري مـتـزوجـةٌ من شـخص كان
مـسـجـونًـا لا أعـرف سـبب سـجـنـه وأنها عـادت لـهُ بعـد أن خـرجَ مـن الـسـجن ثـم انـتـقـل أخـوهـا نـوري الى بـغـداد
وانتهى علمي بهم .
ومـما أتذكـرُهُ أيــام كُـنّـا في دار الـعـلـويـه أنّـي عُـدتُ قـبـل الـغـروب مـن لَـعِـبي في محلة الـحُـسَـيـنـيّـةِ قُـرب بـيـت جــدي
الـحاج حـمّـادي وهـو مـكاني المفضل فوجـدتُ جـارنـا وهـو أحـد أبـنـاء الـسـيـد هـاشـم يُـدخـلُ الـصـبـيان مِـمَـنْ هـم
بـعـمـري أو أكبـر الى دارهـم ويقـول : أكـو أكـل إدخلوا لبيتنا دخـلـتُ الـبـيت وأنـا مـتـشـوقٌ للأكـل لأني جـائـع وإذا
بـمـجـمـوعـةٍ مـن الـصـبـيـان قـاعــدون عـلى بـاريـةٍ مطـروحـة على الارض يـنـتـظرون الطعام فقـعـدتُ معـهـم وإذا بـشـيخ
في الخمـسـين من الـعُـمُـر يُـخـرجُ رغـيـفاً أو رغـيـفـين من الـخـبز ويـقـرأُ عـلـيهـما مُـتَـمْـتِـمًـا ثـم قــال: بـصـوتٍ جهــوريٍّ
سـأعـطي كـلَّ واحــدٍ مـنـكم قـطـعـةً فــإذا أكـلهـا الـسـارق سـيـغـصُ بـهـا ويقول أنا السارق داخلني الـخوفُ أول
الامـر ثـم قُـلـتُ لـنـفـسي لِـمَ الخـوفُ وأنـا لـم أسـرقْ فوضـعـتُ قـطعـةَ الـخُـبُـزِ في فمـي فضاعت بـيـن أسناني
وأردتُ أن أقـول أعطـوني قـطعـةً أخـرى لكني آثـرتُ الخروج لأسـتـكمل عـشـائي الشهي الـذي يـنـتـظرني من يد
والدتي والـمـشـهـود لها بـنـفـاسـةِ أكلـها .
*********************************************
الدنمارك / كوبنهاجن الجمعة في 24 / نيسان / 2020

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here