نصيف الناصري راهب الشعر و صائد الرؤية

نصيف الناصري راهب الشعر و صائد الرؤية

بقلم مهدي قاسم

يُعد الشاعر العراقي المعروف نصيف الناصري من الشعراء
العراقيين القلة الذي يتميز بصوته الشعري الخاص به كأنما تفصالا و قياسا وقامة بارزة ، بحيث يمكن معرفة وتمييز قصيدته حتى لو نُشرت سهوا دون أن تحمل اسمه و كأنها ماركة مسجلة باسمه ،( وهو بذلك يشبه الشاعر العراقي المتميز صلاح فائق بفردانية صوته الشعري الخاص
به والذي لا يمكن تقليده قطعا ) بحيث يمكن تمييز قصائد الناصري بين عشرات قصائد ، و هذا التمايز الإبداعي بحد ذاته يعد إنجازا فنيا مهما رائعا ، ربما إضافة تجديدية في وسط كثرة تشابه الأصوات الشعرية بكمياتها الهائلة والباهتة ومناخاتها الشعرية المتقاربة
المتشابهة إلى حد ما !!..

فالشاعر نصيف الناصري قد قرر منذ زمن بعيد أن يكرّس
نفسه و حياته وجل وقته منذورا لإلهة الشعر فقط ، كشيء وحيد وجدير بالعيش من أجل ذلك ، كمحاولة خروج من أسار تفاهة الوجود البشري بسطحيته المقعرة ، ولا شيء آخر عنده يستحق الاهتمام ما عداه ، بل أن يكون ” خادما ” مخلصا ووفيا و قيّما دائما في محرابها الإسطوري
المدهش، بتعبير أدق يمكن اعتبارمصيف الناصري ــ بدون اية مبالغة ــ راهب الشعر الأوحد وحارس الرؤية وصياد أحلام اليقظة في نهارات طويلة وناعمة بتأملات وجودية ذات مسحة فجائعية حينا وانبهارات تحت طقسيات وتجليات روحانية غالبا ما تأتي متحاضنة حينا آخر مع غبطات
ومتع جسدية متواترة وعارمة برغبات متأججة ، تستوي متصاعدة كموجات متشابكة بعنفوان شهوينيتها بفعل عصف جواني بغية إفساح المجال لزخمه الجارف أن يشق مجراه العميق حثيثا لأنطلاقة أعظم ، وهو يبوح بنشيد خافت أيضا ذات إشراقة وضاءة ، بدون أية مواربة أو مهادنة
كاذبة أو تقمص زائف ، عارضا جمهرة رؤيته و تجلياته الروحية و اشتعلات رغباته الجسدية والحسية والعاطفية وحتى خيباته بذلك التعري الكاشف والجلي الساطع كمرايا سطوح البحار النقية لأناه الزاخرة بشعرية متوهجة ، وذلك لعدم وجود ما يخبئه من ماض شائن أو معيب ، وهولا
يتردد في أن يظهر نفسه حتى بملابس العمل دافعا عرابته ككادح مثابرو حريص على كسب لقمة خبزه بعرق جبينه ، دون منة من أحد ، ولا محاولة اختلاق حالة مرض أو جنون لكي يُعفى من التزامات العمل الشريف ، فكأني به يقول :

ــ ها أنذا بكامل حقائقي ومعطياتي وبياناتي الواضحة
أمامكم كوضوح شروق شمس الصباح ! .. و أنتم ؟.. نعم أنتم المختبئين خلف أقنعتكم التنكرية والمزيفة ؟ .. إذ إن اشتغالات نصيف الناصري الإبداعية على الشعر تقوم أصلا على تحويل تفاصيل الحياة اليومية من أطرها العادية و الروتينية المملة والمكررة إلى ما هو شعري
و جمالي آسرين بدهشات وانبهارات ، عبر متع حياة صغيرة و نعمها ، لتكون ذات طقسية مثيرة و تجنحات مذهلة في فضاءات مجهولة ، وهو هنا ــ وبشكل ما ــ يذكرنا بمناخات الفرنسي سان جون بيرس من ناحية تغنيه نشيد الحياة و بجمالية الوجود المفجع بزواله الحتمي ومحاولة
الإمساك بها طويلا و قدر إمكان ضد الزوال والفناء المهددين على طول الخط ، طبعا ليس تقليدا و لا استعارة ، إنما مجرد تقارب مناخات شعرية فحسب ، كمن ينهل من منابع الحياة كل حسب وسائله الخاصة به تفردا وتميزا عن بعضها ، و مقابل ذلك النشيد الملحمي الخافت نجد
عند ناصيف الناصري تدفق مخزون الذاكرة الزاخرة بتراجيديات عريقة ومعتقه من شدة الخيبة و الانخذال والفجيعة العميقة والمقيمة دوما في الذاكرة العارمة لحد الاندياح ، استنفارا دائما ، بمشاهد فقر و خيبات و وحشيات وضراوة حروب طاحنة وقسوة حياة حافلة بمرارتها،
لحد الانصعاق أحيانا ! ، و إحالة كل ذلك بمهارة تلميذ متمرس طويلا في مهنته التي يعشقها لحد العبادة ، لا يمل ولا يتعب من كثرة ارتواء يومي مثير دوما ، نقول إحالة و رفع كل ذلك إلى ما هو غير عادي أو فوق ما هو مألوف بشعرية زاخرة ، مكثفة بجماليتها المبهرة ، أي
إلى ما هو رؤيوي شعري مدهش و استثنائي بجماليته المتوّهجة ألقا دائما يثير الفضول ويغري بالمواصلة والتواصل حتى نهاية المشوار ، عبر لقطات حلمية مثيرة حقا و متقطعة بمهارة ولكن ضمن مشاهد متجانسة ومجنحة في أفقها المذهل ، ربما لإعطاء الفرصة قليلا لنشيد التراجيديا
الأعلى ليأخذ دوره أحيانا أخرى في العزف منفردا ضمن هذه الأوكسترا المتجانسة الأصوات، ولكن في هذه المرة رثاء خافتا لهذا العبث العظيم للوجود البشري المفعم بتلك المرارة الشديدة و بالأخص بخيبة الزوال السريع والفناء المريع ، الذي حتما ولابد من استعداد
لكي لا يباغتنا يوما كضربة صاعقة مفاجئة ، لينفضنا فيما بعد كومة عظام تصفر بين تكسراتها المهشمة رياح غريبة و شرسة ، و هذا يعني أننا سنموت حتما ولكننا لم نعد نخشى من الموت بعد هذا ، ولقدرتنا على مواجهة ضراوة هذا العبث و الخواء والاغتراب الذاتي و صهيل
الفناء والزوال القادم رويدا من بعيد و لو ببطء وتمهل ولكنه سيصل حتما في يوم ما ، بل من عبأ الوجود اليومي نفسه الذي يصبح أحيانا ثقيلا جدا ، محبطا حينا ، باهتا ، خانقا حينا آخر ، فيحاول الناصري أن يضفي على كل ذلك معنى رونقا مزدهرا من أسى شفيف وإخّاذ
كحزن جميل ، وشيئا من جمالية أصيلة مترعة ، بمقاطع مكثفة تبوح و لا تقول ، تلمح ولا تكشف ، نشيدا هامسا بموازاة هذا العبث والشعور الفجائعي وحتمية الزوال ، ليرفع بالأخير تفاصيل الحياة اليومية من سوقيتها المبتذلة و روتينيتها العادية الساحقة ، إلى ما هو
أكثر علوا متجنّحا و تجليا أسمى جمالا و قيمة ، لتُعاش بكل امتلاء و استحقاق و جدارة ، ربما ليقول في نهاية المشوار ، على غرار الشاعر التشيلي بابيلو نيرودا :

ــ أعترف بأنني عشتُ و بجدارة !..

ملحوظة : ما هذه السطور سوى انطباعات قارئ وعلى عجالة
فحسب ، وليست حتى مجود ملاحظات نقدية عابرة ، لأنني لست ناقدا ، ولا أطمح أن أكون كذلك ، وفي نفس الوقت إنها بمثابة تلويحة تحية رشيقة للشاعر ناصيف الناصري الذي لم ينل ما يكفي و يستحق من اهتمام و تقدير وتكريم ، حاله في ذلك حال العديد من المبدعين العراقيين
في مختلف حقول الأدب و الفنون والثقافة الأخرى..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here