كورونا… صيام آخر..؟؟..1

د. اكرم هواس

يقال ان كورونا جاء ليبقى و يقال انه جاء ليغير نمط حياة البشر … بكلام اخر انه ليس بالضرورة مصيبة مرض و موت فحسب … انه اصبحايضا مشروعاً لإعادة بلورة النظم المجتمعية … انه عولمة اخرى تؤسس لتغييرات جوهرية في العلاقات بين البشر و المنظومات الفاعلة فيادارة المجتمع… البيئة تحسنت بشكل كبير على المستوى العالمي و مشروع كورونا أزاح و سيزيح الكثير جدا من المعوقات و المنغصاتالاجتماعية و السياسية في اغلب المجتمعات لكنه سيترك آثاراً رهيبة في حياة الملايين من البشر حيث تعطلت العجلة الاقتصادية و اصبحتقضايا التنمية و القضاء على الفقر من أساطير الماضي…. (اذا سمحت لنا الظروف فسأكتب مجموعة مقالات خاصة حول ظاهرة كورونا ومآلاتها في المنظومة الكونية)…

في هذا الوقت دخل المسلمون في العالم في شهر الصيام …و هنا كان لابد ان نحاول قراءة المشهد من خلال مقاربة في مفهوم الصيام ..

اود ان انطلق من بوست كتبته قبل ايام في موقعي على الفيسبوك: (من “كرامات” الكورونا ان الفقر سيزداد في كل المجتمعات و ان اكثر من250 مليون شخص يدخلون في اطار المجاعة الشديدة… الصائمون اذن يقفون امام تحدي تاريخي و اخلاقي في العودة الى القيم الاولىلمعنى الصوم و الوصول الى السابع جار… رمضانكم كريم و سعيد..)

الصوم عمل طوعي و ليس واجبا فرضها الله لكي يجرب إيمان الناس كما يعتقد البعض… تذكروا قول ابو بكر : ” من كان يعبد محمداً فانمحمداً قد مات”… يمكن ان نعمل مقاربة منطقية دون ان نهين القيم العليا … يمكنا تصور ان احدهم في عالم ما بعد كورونا قال : ” من كانيصوم من اجل الفوز بالجنة فان الجنة قد امتلئت… و من كان يفعل ذلك خوفاً من النار فان النار قد أطفأها الله”… هل سيتخلى المسلون عنالصوم … ام ان القيمة الروحية قد رسخت منهجا مجتمعيا في ذاكرة المؤمنين ..؟؟.. سؤال ربما يدق الأجراس في اعماق الكثيرين و يجعلالبعض يصحو على ألم في وعيه و شرخ واسع في ذاكرته عن ذاته وعن الحياة و قيمتها…!!!..

لا شك ان الصوم هو التزام اخلاقي بقيمة العدالة مثلها مثل بقية قول ابو بكر ” و من كان يعبد الله فان الله باق”… و هذا البقاء لله فيوجداننا هو القيمة العليا المرتبطة بالعدالة… لان الله ليس مجسدا أمامنا .. إنما هو رمز للعدالة التي نحتاج اليها لتكون هناك توازن مععلاقاتنا مع بعضنا البعض ..

بكلام اخر …. فان مفهوم الأخرة… بكل ما تحمله من عناصر إيجابية اي الحياة الهانئة و الخمر و االلبن و الحوريات وووو الخ…. او الجانبالسلبي اي العذابات و النار و تغيير الجلود…. الخ…. كل هذا المركبات هي انعكاس للطبيعة غير العادلة في الحياة الدنيا… و بذلك فانصورة الآخرة “بإيجابياتها و سلبياتها” هي محاولة لخلق مفهوم للعدالة في اذهاننا و بالتالي دعوتنا لصنع هذه العدالة من آليات مختلفةاحدها الصوم الى جانب الزكاة و الصدقة و كفالة اليتيم ووو…و طبعًا بالتنسيق مع الجانب الثقافي و هو الدعوة الى الخير و الإيثار ووووو وكذلك الجانب السياسي المتمثل في خلق أنظمة قانونية تحمي المجتمع و هكذا …

لابد ان لا ننسى ان الصوم ليس ظاهرة خاصة بالإسلام و لا حتى بالأديان الإبراهيمية او غيرها… بل هو منهج صحي تستخدمه أغلبالكائنات الحية و منها الانسان منذ وجوده و عبر تطور المراحل المختلفة فان هذا المنهج تحول من تجربة شخصية الى ظاهرة مجتمعية وبأشكال و أنماط مختلفة و بما يتوافق مع المنتجات الفكرية و الثقافية في المجتمع …

المبدأ الأساسي الاول هو الزهد الذي يشكل البنية الأولية لقيام مجتمع لان الزهد هو السلوك العملي للتخلي او الابتعاد عن الأنانية الفرديةلصالح التعاضد مع الآخرين … فالأم تقلل من حصتها من الاكل لكي توفر الطعام لابنائها و الاب يفعل ذلك من اجل عائلته و الفارس يفعلهامن اجل الضعفاء و الجار من اجله جاره و هكذا تتركب اواصر تعاضد و توزيع الطعام و الإمكانات بين أفراد المجموعات و هكذا تتكوناللبنات الاولى للبنية المجتمعية …

لا شك ان هذه الصورة هى صورة نموذجية لنشوء المجتمع… لكن وفق النظريات الانثروبولوجية فان التكوينات الأوليات للمجتمع بدأت وفقهذه المعادلة و ان كان المسار و المراحل و تآلف العناصر و تقاطعاتها مختلفا … اي حتى مجتمعات الصيد و بدايات الزراعة و حتىمجموعات اللصوص و القتلة … كلها ساهمت في البنية المجتمعية الأوسع وفق هذه المعادلة..

كل مجتمع لابد ان يبنى على أساس نوع من التوازن في توزيع الثروات حتى في اسوأ حالات الطبقية و الاستغلال و هكذا … دعنا لا ننسىان الاغنياء هم أغنياء طالما ان هناك فقراء يخدمونهم…لكن هذا الفقير لكي يعيش و يستطيع ان يخدم الغني لابد ان يحتفظ بشيء من قوتهالجسدية و الذهنية و هذا يستدعي حصوله على الطعام و الشراب و السكن و بعض الراحة … هنا يأتي دور “المنحة” التي يحصل عليها مما”يتنازل” عنه الغني له به.. اي ان الغني لابد ان يتنازل عن حصة من “ممتلكاته” لصالح الفقير لكي يؤمن له ديمومة خدمته… هذا التنازلاساسه نفعي لانه في المحصلة النهائية يؤمن خدمته الذاتية بشكل غير مباشر … و لكن رغم هذه الطبيعة النفعية في عملية “التنازل” الا انهذا “التنازل” يخلق علاقات مجتمعية و ان كانت تركيبته غير أخلاقية الا ان المعادلة تعتبر متوازنة من حيث انها تؤمن تواصل طرفيها … ايالاغنياء و الفقراء… باعتبار ان كل منهما بحاجة الى الاخر … و هذه الفكرة ربما هي أساس نظرية التبادلية Interdependency بنمطهاالأولي … كما ان مفهوم التنازل … الغني للفقير… تحول فيما الى نظام الاجارة بعد ان عانى الفقراء من آلاف السنوات من السخرة التي لمتوفر سوى الطعام و السكن لا غير…

بهذا المعنى فانه عند توسع المجتمع فان المبدأ الاخلاقي للزهد تم تطويره و تحويله الى ثقافة عامة يتعلمه الجميع لضمان خلق آليات الحفاظعلى الأمن المجتمعي .. و الاسلام باعتباره اكثر الأديان الإبراهيمية اهتماماً بالفكرة المجتمعية فانه خلق آليات عديدة و منها الصوم و قننه وربطه بشكل مباشر مع البنية المجتمعية و التوازن المجتمعي بين المقتدر و الضعيف … ليس فقط من حيث الجانب الاقتصادي و إنما ايضاالجانب الاجتماعي و الثقافي و السياسي و العلاقة بين الرجل و المرأة و هكذا…

و الصوم … باعتباره … تنازل طوعي عن التمتع بالخيرات… يعتبر آلية مهمة في اعادة بلورة العلاقة بين الانسان و الطبيعة .. و هذه احدىركائز مشروع كورونا… او هكذا يبدو …

في الحلقة القادمة سنحاول ان نبحث في مفهوم العدالة في ظل كورونا …. حبي للجميع

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here