قول في – نجاسة الكفار والمشركين

 
قول في – نجاسة الكفار والمشركين –
 
نستهل  الكلام  بقوله تعالى   : – [ .. إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا  ، وإن خفتم عيلة يُغنيكم الله من فضله .. ]  – التوبة 28  ،   ونقول  :  –  أن ما يقوله  فقهاء  المسلمين  حول  –  نجاسة  الكفار و المشركين  –  لا  معنى له  ولا دليل عليه ،  بل هو  قول  واهن  ضعيف  وغير صحيح   ،  وهذا  ما يدل عليه  الكتاب المجيد  و صريح العقل وصحيح النقل    .
  والفرق كبير بين  لفظ  –  نجس –  الوارد في الكتاب المجيد  ومعنى –  نجس –  عند  الفقهاء   ،    ويعتمد  الفقهاء في أقوالهم  وفتاويهم  في هذا الشأن على  مجموعة أخبار وروايات   مبتورة السند  ساقطة  الدلالة  ، ولا تصمد أمام النقد  والبرهان والتحليل   ،  ولتداخل  اللفظ  بالمعنى  الدارج  كان  لا بد لنا من وقفة  تحليلية  موضوعية  من أجل البيان  والتوضيح   ،  وذلك لأهمية الأمر   وحساسيته   ،  ونقول    :
أولاً  :   يجب  رد  دعوا الإجماع والاتفاق  في ذلك ، و التي يقول   بها  بعض  الفقهاء   ،  وكذا  رد  دعوا  أهل التقليد  من الفقهاء والمتكلمين       .
وثانياً  :   التأكيد  على ان  ( الأصل  في الأشياء الطهارة )   ، ومن ذلك  طهارة  بني آدم  القطعية       .
وثالثاً :  التأكيد  على  أن  ( النجاسة هي عرض زائل )    .
  وهذا القول  يسري حكما  على   جميع  الناس  مؤمنين  كانوا  أم كفاراً  ومشركين  وغيرهم    ،  ذلك    :   – [   ان دعوى   الإجماع  في هذا الشأن  ليست دليلاً مستقلاً بحد ذاته   ،  حتى يمكننا الاعتماد عليها  في تقرير  هذا الأمر وغيره   ]  ،  و التقليد  في هذا الأمر من  الفقهاء  والمتكلمين  وغيرهم   ،  غير جائز   قطعاً    ،    والأحوط    تركه  مطلقاً ،    (  لأن  التقليد  من حيث  هو  تحجير للعقل  وإلغاء للاجتهاد ومعناه )   ،  ودائماً  يكون على نحو  المطلقة السالبة  التي نبذها الله في قوله   : – (  هذا ما وجدنا عليه أباءنا .. ) – لقمان 21  ،  وكذلك  قوله تعالى    : –  ( ..  بل  نتبع  ما ألفينا عليه أباءنا .. )  – البقرة  17   ،  والقول الصحيح  :   (  إن فساد  التقليد  على نحو عام )  ،  يكون باعتبار :  (  التقليد  قائم  في الأصل  قائما  على خبر  ساقط  سنداً و دلالة   )   ،  قال العلامة الحلي  وكذا السيد  الخوئي  (   والخبر  جاءنا  برواية  سهل الديباجي عن أبيه  بأحاديث  من هذه المناكير ) –  التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري  .. 
والصحيح    –  ان الأصل في الأشياء الطهارة   –  حكماً  ومنه    ( طهارة الآدمين جميعاً   )  ولا استثناء  في ذلك  ولا تخصيص   ولا تقييد   ،  والشيء  نفسه  يُقال  عن النجاسة بعنوانها  العام :  (    وفي كونها  عرض  زائل   ،   تزول بزوال سببها   )  ،  وهذا ما عليه  عامة الفقهاء والأصوليين    ،  وأما  :  – [  ما  ذهب إليه بعض الإمامية  في هذا الشأن  فليس عندنا بشيء ]  ، وعدم  صحة  دعوى الإجماع في ذلك فلأنها    
أولاً  :   مخالفتها  لظاهر الكتاب  وعمومه   ، كما  في قوله تعالى –  (  ولقد كرمنا بني آدم  )  – الإسراء 70 ،  والتكريم صفة إطلاق وعموم  ، ومنها  رفعة  المقام والقدر ،  ولا يصح  التكريم  مع النجاسة   ،  وكقوله  تعالى : (  إني جاعل في الأرض خليفة )  – البقرة 30  ، ولا تصح الخلافة  مع نجاسة المستخلف  مطلقاً  .
وثانياً  :  معارضتها  للأخبار الصحيحة المروية عن النبي الأكرم ، ومنها  قوله  : ( .. كلكم لأدم وأدم من تراب … )   .
وثالثاً  :   ضعف ما يستند عليه الإجماع في الأصل    .
   وأما حكم  المسألة  لدى   – أئمة المذاهب الأربعة  –  وفقهائهم  فالمشهور عندهم  القول   : –  بطهارة أبدان الكفار والمشركين   مطلقاً  –   ،  وأما نجاستهم  فهي  عرض زائل  ،  أي إن النجاسة لا تسري للذوات من الأبدان   . 
وإن قلتم   :  وإنما المُراد  من  –  نجاسة الكفار والمشركين  –   فلاعتقاداتهم الباطلة  وأفعالهم المحرمة  .
قلنا   :   إن هذا القول  في أصله  باطل  ،  لأنه  يفتقد  للدليل  المحكم  الذي يعضده  ، والقول المظنون ليس حكما  وهو  لا يغني من الحق شيئا ،   والاعتقاد  من حيث هو   ( عمل فكري  مباح )   ، ولا ضير  في مخالفته  للمشهور في ذلك  ،  قال تعالى  : ( لا إكراه في الدين ) – البقرة 256   ،  وقال  كذلك   : ( أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )  – يونس 99 ،  وأما  نسبة  النجاسة  فلما يقومون به من فعل محرم  ،  وهذه  كذلك  نسبة باطلة   : –  لأن  طبيعة النجاسة وماهيتها كما قلنا ( هي عرض زائل مفارق )  ، وزوالها  مرتبط بزوال سببها  –  ،   :  وليس من خواص النجاسة  الالتصاق وعدم المفارقة بالأبدان أو الذوات  ،   قال  تعالى : (  إن الحسنات يذهبن السيئات  .. )  – هود  114  ، وعلى ذلك  إتفاق العقلاء وسيرتهم   .
   طبيعة الفقه  الإسلامي :
يُناكف البعض فيدَعي    :   (  ان الفقه الإسلامي  – جامع مانع  و غني بأحكامه  وموضوعاته –    ) !!!!!!   ،  وهذه  الدعوى ليست صحيحة  من وجوه   ،  بل  ولا تصح  في المطلق على الفقه القديم  و  الفقه  الجديد  والمعاصر كذلك   ،  لأن الفقه المتداول   في حقيقته  ليس سوى  إجترارا وتكرارا لمن سبق  ،  وما يُقال  عن الإجتهادات الفقهية والتفريعات  فهي  ليست سوى إعادة إنتاج  لما  هو  قائما  بالفعل  في كتب التاريخ و  التراث     .
وأما طريقة  الإستنباط  فلم  تتحرر  منذ عهد  الشافعي وإلى يومنا هذا ،  لا  في طريقيتها  ولا في  كيفيتها  ولا فيما تقوم عليه  أو تؤسس ،  وأصول الإستنباط  كذلك  هي ذاتها التي قررها الشافعي في رسالته المشهورة  من غير تغيير أو تبديل   ، ولم نسمع أو نقرأ عن محاولات جادة  في تطوير  طرق الإستنباط أو إعادة النظر في اصولها  ومتبنياتها    ،  ونصطدم  دائماً في هذا  المقام   بذلك التطرف  البشع من البعض  ،  وبتلك  المزاعم  من البعض الأخر  .
فيما يخص  مفهوم  الأخبار  المنسوبة إلى الرسول محمد  – ص –  وطبيعتها  وحجيتها  ودلالتها   ،  والتي  غالا  البعض  فيها  فنزلها  منزلة نصوص الكتاب أو أعلى  رتبة منها  ، بل وجاوز   البعض  الحد  منهم   فقال  :-  هي   ناسخة لكتاب الله واحكامه  –  ،  مع  إن هذه الأخبار في أحسن الأحوال  لا تفيد  سوى  الظن في اغلبها  ،  والمعلوم إنها   قد  كُتبت  بظروف غامضة  ونوايا نجهلها      .
ولذلك  فلا يعتد بها  ولا يجوز  إعتبارها  صنو الكتاب  ،  ومن هنا فنحن  ندعوا لإعادة النظر  في أصول الإجتهاد   والإستنباط  وطرقهما   وموضوعاتهما   وقواعدهما   ،  والذي نفهمه  عن  الإجتهاد  السائد  إنه  إجتهاد  تنقصه الكفاءة  والقدرة  على تلبية حاجات  الناس   المعاصرين   ،  ونعلم  كذلك أنه لا يستطيع الإجابة  عن  الكثير من المسائل ذات الصلة   ،  وهذا  المعنى بالذات  دفع  الإمام الخميني للقول  : –  بإن عامة علماء  الدين والروحانيين منهم  لا يدركون  معنى الإجتهاد  ،  ولذلك  جعلوه مقتصراً  على شؤونات  الحيض  والنفاس  ،  مع إنه  في حقيقته  أعمق  وأهم من هذا  بكثير   ،  إنه  ذلك  الفكر أو التفكير  العلمي  الذي يستجيب لتطلعات المجتمع  في الحاضر والمستقبل  ،  ولأهمية  ذلك  يتطلب  تنبيه  العلماء  لبذل  الجهد ومضاعفته  ،  وأعمال النظر في  المسائل الحيوية  التي تهم  إدارة  المجتمع  والمشاركة  الجادة  في تقديم الحلول  لذلك   .. –  صحيفة النور ج21 ص 100  .
    ولكن  هل  الفقه  الإسلامي  غني بالفعل  ؟  كما تقول  المقدمة  !!  ،  أم إن غناه  في اصوله  وقواعده  الموجودة  في الكتاب  المجيد  ؟   ،  وهذا الإستدراك  في السؤال  يقودنا  للقول التالي  أن    : –  الغنى  المقصود   إنما هو  ذلك  الموجود  في  نصوص  الكتاب  المجيد  ،  والنصوص  هي التي تؤسس لتلك القواعد  والأصول  ،  واما الفروع  والتفريعات  من الفقهاء  فقد  غاب عنها  المنهج  الصحيح  ،  وغابت   عنها  الأداة الواقعية أعني ( العقل المؤمن  بالتطور السنني الطبيعي الغالب في الحياة والكون )   ،  وتغييب العقل إخراج  متعمد  للقدرة الذاتية في الكشف الدقيق عن الأحكام  ومناسبتها للموضوعات بحسب   الزمان والمكان  ،  وكذلك  في  قدرته  على المشاركة  في  التخطئة والتصويب لكثير من المسائل والموضوعات والأحكام العامة    –   .
  يقودنا هذا للتعرف على السبب  الحقيقي  في تخلف الفقه الإسلامي  عن  مجاراة  الحياة وتطورها !!    ،  وقد  قيل :  إن السر  يكمن  في عدم إهتمام  الفقهاء  بكتاب الله واحكامه   في الإستنباط   أو في  الإجتهاد  ،  وبدلاً  عنه  يتمسكون  في تحليل الأخبار والروايات وتحليل وعرض أقوال من سبقهم  من الفقهاء   ، وفي تلك  الدورة  يفتون ويحكمون  ومن هنا  تبدو المخاطرة  التي نوهنا إليها  في أكثر من مناسبة    .
   ولا يخفى  أن عجز الفقه  عن  التطور في الحياة  واضح  بيَّن ،  وشاهدنا  على  ذلك   ما نحن فيه  أعني قولهم  القديم الجديد   – [ نجاسة الكفار والمشركين ] –  ،  تلك المقولة التي أثرت على الضمير والوجدان الإنساني وحالت دون التعامل احسن بين الناس  ، ومعلوم أن  تلك المقولة إنما  قامت  وتأسست  على أخبار وظنون ونوايا غير صالحة   ، ومع ذلك  أدعَّوا  عليها  الإتفاق  والإجماع  !!   مع   إن  إجماعهم على ذلك  في أصله باطل  ،  وسبب  بطلانه  ضعف مستنده  الذي يتكئون  عليه  هذا من جهة ، ومن جهة أخرى   وجود  المانع  له  من الكتاب  والعقل   .
   وأما  ما يُحكى عن  تواتر  الأخبار في هذا الشأن فهو  ليس صحيحاً سنداً ودلالة  ،  وقد  مر بنا تكريم الكتاب المجيد لبني آدم  على  نحو مطلق ومن غير تمييز    ،  حين  قال   :  (  ولقد كرمنا بني آدم  )  – الإسراء 70  ،  وفي قوله  كذلك  :  (  يا أيها الناس إنا خلقناكم  من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله  أتقاكم )  الحجرات 13  ، وظاهر  الكلام  في الحجرات عن مطلق  خلق الناس (  الذكر والأنثى )    ،  وما يعزز ذلك الظاهر هو  القيمة المضافة  التي تكون  في اللقاء والتعارف والتجاوب وعدم الخلاف فيما لا ينفع الناس ..
ولكن ما معنى   الكفار  ؟
الكفار جمع  كافر  ،  وأصل اللفظ  من  –  كفر –  بمعنى  رفض  ،  والكافر هو الرافض  وجمعها  الرافضين  أو الرافضون   ،  وقد   أخطأت  المعاجم  حينما  اعتبرت  معنى  الكفر هو  الستر أو الإخفاء والتغطية   ،  وقد أخطأ  أهل الإصطلاح  في معنى الكفر  بقولهم  إنه الإنكار أو الجحود    ،  والصحيح  ما ذهبنا إليه  إذ الأصل  في  اللفظ   يكون  من  اللفظ الثلاثي الصحيح  –  كفر –   و الذي  هو  بمعنى  رفض  –  ،  وليس بمعنى أخفى  أو أنكر  أو جحد     ،  إذ  الرفض  في لغة العرب  أكمل  وأعم  دلالة  من مقولات أهل المعاجم    ،  والكفر مصدرا مادة  تدل على  –  الرفض  –   كذلك  ،  أي الرفض  الفكري  والعقلي  ،  ذلك  بإعتبار  كونها مادة نظرية  بحتة   ،  ولهذا جاءت في سياق الكلام  ، قل  : (  لا أعبد ما تعبدون )  ،  ويكون التذييل  اللاحق   بصيغة  تأكيد  الأمر ،  في قوله : (  لكم دينكم  ولي دين  )  ،  والخطاب في مجمله  يتحدث عن الكفار  لا عن  المشركين  ،  ومعلوم ذلك  الفرق بين الكفر والشرك والذي  لا يخفى على أهله  .
أقول :   ولما كانت  مادة الكفر  تعني  الرفض  ،  إذن  فيصح  القول : – إني أكفر بدين بوذا –  ،  وأنا أعني  به : (  إني أرفض دين بوذا )  على  نحو  ما  تكون  عليه  طريقته   بالتفكير وبطريقة الإيمان  التي يتبعها ،  إذن فقيد  الرفض  هو للطريقية والكيفية   وليس  لطبيعة الوجود والعدم   ، ونفس  الشيء  يُقال   : –  إني أكفر بمذهب إبي حنيفة  –  مثلاً  ، ولا يريد  القائل  معنى  الرفض الوجودي  على نحو (  الإنكار )   ، بل يُريد القول  من ذلك   : (  رفض طريقة ابي حنيفة في الإجتهاد وتحرير المسائل )   ، والكلام  في مجمله  هنا فكري ونظري محض ولا دخل له بالجانب العملي  ،  ونفس الشيء يمكن  أن يُقال عن – الرافضة  – :  وهو الصفة  المشبهة  المرافقة للجماعة التي :  (  رفضت   الطريقة والبيعة  التي تولى بها أبي بكر وعمر الخلافة )  ،  وليس هي بمعنى إنكار خلافة أبي بكر بالفعل  ( فلإنكار  شيء والرفض شيئا أخر )  ، ولا دخل لجدلية    ( الوجود والعدم )  في هذا المقام     ،   وسواء  قلنا  إن  – الرافضة  –  هي أسم  صفة  أو صفة  مشبهة  فالمتبادر  للذهن  من  اللفظ  يعني :  –  تلك الجماعة  التي  كفرت  بخلافة ابي بكر  –  ،   أي رفضتها  ولم تنكروها كواقع موضوعي وتاريخي  ، وهذه غير هذه  كما هو واضح   ، والأمر كله يتعلق بمعنى الرفض   ،  والفرق بينه وبين الإنكار والجحود  .
  وأما  ما ذهب إليه أهل اللغة وما تعارف عليه أهل الشرع في ذلك  فليس صحيحاً  ،   بدلالة معنى  الكفر  الوارد  في لسان  نصوص الكتاب  والتي حصرته  بالرفض دون سواه  .
قال تعالى : (   فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ) – البقرة 89 .
وقال  تعالى : (  فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً ) – الإسراء:99
هذه النصوص وغيرها كثير  تدفعنا :
أولاً  :  لطرد  الفكرة  المتداولة  والسيئة  في أدب المسلمين وفقههم  ، والتي تمزج  بين المعاني  والألفاظ   تبعاً  لمقولة الترادف     .
  وثانياً  :  تدفعنا  للتمييز بين  لفظ –  نجس  –  ولفظ  –  كافر –  ،  فلكل منهما  معناً مغايرا للآخر ، وقد  بينا معنى   – كفر – في اللغة والإصطلاح .
  ..  .
ولكن ما معنى كلمة – نجس – ؟    :
حان  الآن  للتعرف  على معنى  كلمة  – نجس  – في اللغة والإصطلاح   ،  ونقول :  هي لفظ  متشابه  ، فإذا  جاء  في صيغته  المُنكرة   دل  على مطلق عنوان   النجاسة ،  و التي هي  ضد الطهارة ، وجمعها  أنجاس ، وقد خالف في ذلك الفراء   فقال : ( والنجس لا يجمع ولا يؤنث ) ،  وقد أختُلف في معناه  الإصطلاحي   بين الفقهاء إلى أقوال منها   :    
أولاً  :  إنه  لفظ   دال  على  معنى العين النجسة أو الذات النجسة ،  ومثلوا على ذلك   بالمشرك ، فقالوا : هو عين نجسة أو ذات نجسة    .
وثانياً  :  انه   لفظ  دال   على  ما  يتعلق  به   أو بسببه   فيكون نجساً  لذلك  ،   كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير .
وثالثاً  : انه   لفظ  دال   على  لزوم  ومداومة الفعل النجس   وعدم التطهير منه   .
ورابعاً : انه  لفظ  دال  على ما يعتقد  به  المرء  ،  فيكون نجسا بسببه  ، وهذا من قبيل  النجاسة المعنوية !!  .
و قيل   :  انه   لفظ دال  على الفعل النجس  وعدم التحرز منه  .
واما بالنسبة للقول الأول :
فجهة الإستدلال به  تقوم  عندهم  على أساس النص الذي بدأنا  به الكلام أول مرة ، قوله تعالى : (  إنما المشركون نجس )  ، وفي توضيح ذلك  قالوا    :  [ إن  عامة  المشركين  هم  أعيان نجسة أو  ذوات نجسة ]  ! ، وهذا التوضيح  تنقصه الدقة الوثائقية  والدليل وشاهد الإثبات  ، و بحدود علمنا لم نجد ما يوثق  هذا  القول  أو يؤكد  عليه  و يدل  .
وإذا  كان ذلك كذلك  : إذن   فما هو الدليل عليه أو ماهي  العلة  التي  أستند  عليها  الفقهاء في قولهم  بالنجاسة الذاتية     ؟ .
  فإن قلتم  :  إن  الدليل  عندهم  هو النص المتقدم  نفسه :  (  إنما المشركون نجس )      .
قلنا  : إن النص المتقدم لا يبين ذلك  المعنى ولا يدل عليه إنما هو  إشارة  أو نعت  لما فعله المشركين  ،  وليس في ذلك دلالة  تفيدنا  بالقول :   –  أن نجاستهم   ذاتية أو عينية  –   ،  وقولهم على نحو  مطلق  لا  يُفهم  منه المتعين في هذا الشأن ،   :  ( لأنهم  أعتمدوا  في ذلك  على التعريف الإصطلاحي  )  ، و ليس  على  النص الذي  جاء  قبل ذلك بكثير  ،  وتحميل النص  المعنى الإصطلاحي اللاحق  مثلبة  ، وتحميل  للنص ما لا يحتمل من المعاني    .
والعين النجسة  بتعريف  الفقهاء   :  –  هي  تلك  التي  يستحيل طهارتها  ولو بمياه الأرض جميعاً  – ،  ومعلوم  أن اللسان  العربي  قد وسع  دائرة  (معنى النجاسة )  وجعلها   شيئا   مطلقا   ،  أي إنها عنده  أعم وأشمل من الجانب المادي    ، بل جعلها  – صفة متعدية  –   تشمل  حتى القيم  والأخلاق   ، وفي هذا السياق نفهم مقولة الحسن البصري  عن ذلك  الرجل الذي  زنى بإمرأة   ، فقال عنه    : ( هو أنجسها – إذن  –  فهو أحق بها ) – أساس البلاغة  للزمخشري  ص 447  .
ويدخل في هذا الباب كذلك  – نجاسة الشيطان  – والتي هي  مفهوما  ذهنياً  تسالمياً ،   ويطلق  على كل فعل  يفعله  الناس فيه مكر وخداع وتضليل  ويريدونه  يسمونه –  عمل شيطاني  نجس –     ،  وعليه فلا يصح  تخصيص  و حصر  معنى النجاسة بالذاتية  كما   هو مُراد  المعنى الإصطلاحي    .
  كما  ولا يصح  الربط  بين  معنى  النجاسة هذا  ومفهوم  منع  المشركين  من زيارة البيت  الحرام  ،  لا بسبب  ذلك  أو   لمجرد  توارد  سياق  اللفظ  مع قوله :  ( فلا يقربوا المسجد الحرام )  ،    فالذي نفهمه  من سياق  النص  :  إن المنع  من دخول المسجد الحرام  كان  بسبب علة خاصة ، وليس بسبب نجاستهم  الذاتية   ، أي  إن المنع  كان  بسبب ما فعلوه  من نقض  للعهود  والمواثيق  مع رسول الله  (  وهذه  علة طارئة )  ،     كذلك  ولا يصح  الربط  بين مفهوم نجاسة المشركين  ومفهوم الخوف من  النقص المادي ( العيّلة )   ،  على إعتبار  ان  مبنى القول اللاحق وأداة الشرط  الواردة في النص  :  (  وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله )  وردا  في سياق إتمام الحجة  على المعترضين   ،   بدليل  أن النص  إنما  يتحدث  بلسان  حال  ما يمكن قوله  من قبل الأخرين   ،  وليس في  صحة قولهم    .
والملفت  أن  كثيراً  من المفسرين  لا يفرقون  ويخلطون  بين   (  من كفروا من أهل الكتاب  وبين المشركين )   ،   مع  ان  الله قد ميز  وفرق  في كتابه  ذلك  ،  وبنصوص متعددة   ومنها   قوله تعالى :   (  ان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم )  –  البينة 6 ،   ومنها قوله تعالى : (  لم يكن الذين كفروا من اهل الكتاب والمشركين منفكين  )  –  البينة 1  ،  والواو  هنا للمغايرة   قال الكسائي  وللتمييز  بين مختلفين  ،  سواء  في الطبيعة أو في الماهية أو في  الإيمان والتفكير  ،  وليس بين اللفظين وحدة معنى  ومفهوم      .
وأما بالنسبة  للقول الثاني :
فجهة إستدلال  القائلين به  على نحو  :  (  إنما المشركون نجس )  ،  أي بسبب نجاسة ما يأكلون،      وهذا الإستدلال ركيك جداً  ولا يصمد أمام النقد والتمحيص   ،  إذ  لا علاقة  بين نجاسة المأكول والآكل  ،  فالنجاسة بهذه  الحالة  لا تنتقل  بالتبعية  من المأكول  إلى الآكل   ،  وفي وصفنا  للنجاسة  قلنا  : –  ان  من صفاتها عدم  الملاصقة للمتنجس بها  –  ،  لأن  النجاسة في أصلها  عرض  زائل  تزول بزوال سببه  ،   والامتناع عن الأكل النجس سبب كاف في زوال النجاسة    .
  وإذا كان ذلك كذلك :  فيصح  إذن  القول :  (  ان المشركين  اذا  تطهروا  من النجاسة  فلا مانع من  حجهم وزيارتهم  إلى البيت الحرام )   ،  وهذا القول  أو التقرير  يكون بمثابة  نفي  المنع على نحو مطلق .
وأما  بالنسبة للقول الثالث :
 فالاستدلال بالمنع من الحج بسبب الجنابة أو غيرها من النجاسات  ،  إستدلال  ركيك بل متهالك   إذ الجنابة هي عرض زائل  ،  والأعراض  الزائلة  لا يكون المرء  بسببها نجساً  ،  وكل  العوارض من هذا القبيل تزول بالتطهير بالماء وغيره من المطهرات   ، ولهذا لا يكون وجود الجنابة  سبباً كافياً في المنع من الحج والزيارة وعلى نحو مطلق    .
واما بالنسبة للقول الرابع :
 فجهة الإستدلال  بالنص لما يعتقد  به  الناس  لذلك هم محكومون  بقوله   :  (  إنما المشركون نجس )  ،  وهذا الإستدلال  باطل  كذلك  ،  لأن الله أباح  حرية الإعتقاد  وجعل الإيمان  مسألة شخصية  تخضع لضوابط  المعرفة والتدبر  والعلم  ،  ونفى  المولى الإكراه  والعنف  والإبتزاز في ذلك  وكما  قلنا  :  إن  مفهوم الإعتقاد أو الإيمان  يرتبطان بالفكر و بالحرية ، لأنهما من   المسائل التي تخضع للإختيار عبر الدليل والبرهان  ،  و لذلك ترك المولى شأنها  للناس  فقال : – ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) – الكهف 29  .
  والنص مورد  البحث  لم  يربط  مفهوم النجاسة  بالإعتقاد  مطلقاً  ،  بل إعتبر من يكره  الناس على الإيمان ليس مؤمناً   قال تعالى : (  أفانت تكره الناس  حتى يكونوا مؤمنين ) –  يونس 99  ،  معتبراً الإكراه  هذا  بمثابة  –  المطلقة السالبة الملازمة  –  .
إذن فالإستدلال بالنص من جهة الإعتقاد وإعتبار النجاسة من هذا الباب مانعة لهم من دخول المسجد الحرام  ، إستدلال باطل كما قلنا لا يمنع   من دخول المسجد الحرام وزيارته .
وخلاصة  الكلام :
في معنى  قوله  تعالى :  : –  (  إنما  المشركون نجس  )   ،  ظهر لنا  إن هذا القول لا يحمل  معنا عاما ،  أي لا يجوز  تعميمه  على كل أفراد لفظ  المشركين  وعامتهم  ،  كما  ولا يجوز  حصر  معنى المشركين بالمعنى  الإصطلاحي الفقهي  ،  كما  ولا يصح إعتبار النجاسة  شيئا  ذاتيا  أو عينيا    ، ذلك  لأن النجاسة في طبيعتها عرض زائل ولا تكون  ذاتية مطلقاً   .
  وأما  المنع  من دخول المشركين   البيت  الحرام  فلم يكن  منعاً مطلقاً ، كذلك ولم يكن  بسبب ما يعبدون من أصنام  ، ولهذا لا يجوز إعتبار المشركين  نوعا واحدا أو فئة واحدة   ،  إذ المشركين بلسان  النص فئات متنوعة  ، وما عناهم النص المتقدم إنما  هم     ،  [  فئة معينة  خاصة  من المشركين لا جميعهم  ]   ،   وهذه الفئة    :   (  هي  تلك  الجماعة التي نقضت عهدها  مع رسول الله  )   ،  والتي وصفها  الكتاب المجيد  بقوله   :  – ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاَّ ولا ذمة )  – التوبة 8  .
أقول  :  هذه الفئة  من المشركين  هي التي  لا يصح دخولهم المسجد الحرام  على نحو معين وبزمن معين  ،  وصيغة  الخطاب  هذا تدل  على  ذلك  ،   بدليل البيان التالي   :  – (  إلاَّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فاتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم )  –  التوبة 4  ،  ففي هذا البيان نجد  أن نفي  ( تعميم  المنع )  واضح بيَّن    ،  هذا بدليل التقابل  الذي يؤكد  على   أن الفئة  التي حفظت  عهدها  مع رسول  الله  غير مشمولة  بالحكم ،   الذي صدر بحق  تلك الفئة   التي قال عنها الله  –  (  إنما المشركون نجس )   ،  ويؤكد هذا  دعوته  تعالى   للإستقامة  مع تلك الفئة  التي حافظت على عهدها ولم تنقظه  ،  قال  :   (  فما أستقاموا لكم فاستقيموا لهم  )  – التوبة   7 ،  وفعل أستقام يدل على الثبات في الموقف ،  ولهذا  أمتدحه الله بصيغتي  الفعل والصفة :
 قال تعالى  :  –  ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ) – هود 112 .
وقال  تعالى :  (  إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا .. )  – فصلت 30 .
  وقال تعالى : (  إن الذين قالوا ربنا الله ثم أستقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .. )  – الأحقاف 13  .
إن تصحيح  الفكر و الإعتقاد  عملية مهمة  وشاقة ،  ولكي تكون مؤدية للغرض  يجب ان تتكأ  في ذلك على كتاب الله   ، وليس على ذائقة  الفقهاء  وتقليدهم  لمن سبقهم    ،  ولأن هذه المهمة  كذلك تطلب الأمر  رفضا  لترجيح  مقالات الفقهاء  على نصوص الكتاب المجيد   ،  لأن في ذلك  مخالفة  و مغامرة غير محمودة  ،   والمشركون  وفقا  لمنطق الكتاب المجيد  ليسوا  واحدا   ،   وكذلك  هم  في لسان العرب  ليسوا سواء لا في المعنى ولا في الموقف  ،  بل هم فئات متنوعة  والحكم الصادر  بحق البعض منهم لا يشمل  البعض الأخر  ،  ونسبة النجاسة  للبعض منهم  لا تصح  على البعض الأخر  طالما أرتبطت النجاسة    بالسبب   ،  والذي هو  دائماً سببا مفارقا بكل تأكيد   ،  لأنه  سبب جدلي يصدق على كل ما يمكنه ان يكون كذلك      .
تنبيه  1 :
فإن قلتم   :   ماذا  لو كان المُراد  من  نجاسة  المشركين  جميعهم  ؟ .
قلنا  :    لو كان ذلك كذلك  ، لتطلب  الأمر  بطلان  القول بحليَّة  طعامهم  مطلقاً  ! ،  في حين  ان الله  أباح لنا   طعامهم جميعاً ، حيث   قال تعالى :  ( . وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ ..) – لمائدة 5  ، والحليَّة  بصيغتها  المتقدمة  وردت على نحو مطلق  ، والقيد  الوحيد  الذي ورد  فيه  التذكير  ،  هو بالتذكية  أي  ذكر أسم الله عليه  ،  وهذا الشيء يصدق  كذلك  على ما علمتم من الجوارح مكلبين   ،  وبهذا يرتفع الحرج  من النجاسة الظنية  التي يذهب إليها البعض من غير حاجة شرعية ، سوى التكلف والإحتياط الزائد المبالغ فيه .
تنبيه  2 :
فإن قلتم :  وكيف يمكن تبرير قوله تعالى : – (  وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح أبن الله .. ) – التوبة 30  .
قلنا  :  إن هذه الجدلية المثيرة يتبادر منها إلى الذهن  ،  صفة الشرك التي هي ضد التوحيد  ، والحق إن النص لا يعني هذا إنما يُركز على مفهوم أخر ،   ليس له علاقة بالعبادة والتوحيد ، ونفي القول من جهة الله إنما يتناول مفهوم الخصوصية من جهة الرعاية والتعليم والتربية ، مع أهمية عزير النبي وعيسى النبي ،  والكتاب المجيد  لم يقل إن (  عزيرا ولد الله أو المسيح ولد الله )  ،  لأن مفهوم الولد ممتنع على الله  بحسب المنطق التالي  ( لم يلد ولم يولد  )  ،  والذي ورد  على نحو  المطلقة السالبة ،  وبالمقابل رفض  الكتاب فكرة بنوة الله لأحد من البشر على نحو خاص  ،  وكذلك رفضها  بإعتبارها   دعوة  ترسخ المفهوم السلبي لله في ذهن العامة  ، فيظنون ويكأن العزير أو المسيح هم أولاد الله ، من هنا أنطلق الرفض  لذلك قال :  – (  لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .. )  – المائدة 73  ،  ولم يقل  (  لقد  أشرك الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة  !! )  فتدبر ..
آية الله الشيخ إياد الركابي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here