من الذاكرة ، العيد في الكريعات

في مثل هذه ألايام المباركه التي تسبق يوم العيد كان أهالي الكريعات يتهيأون للعيد فتقوم والدتي وكل نساء الكريعات بعمل ( الكليچه ) وتنظيف البيوت وغسل الزوالي والبطانيات وجلب الملابس الجديده من الخياطه ( والحفيفه ) حيث كانت الحفافات قليلات في ذلك الزمن ، ووضع الحناء ، أما الرجال فيقومون بالتسوق للبيت وسد جميع احتياجاته لانهم سيستقبلون العديد من الزوار في أيام العيد ، وقبل يوم العيد يتجمع الناس لرؤية هلال العيد وكانوا يتجمعون في الأماكن المفتوحه والعاليه وغالباً ماتكون في مقهى ( المرحوم عباس مهدي الدروش) ويصعدون على أسطح المنازل لمراقبة شهر شوال وكان اكثر الناس يشتركون بهذا العمل الموروث الذي لازالت ذكراه في مخيلتي حيث أبائنا وأخواننا الكبار يتجمعون قبل المغرب وهم يراقبون الهلال وقد توشحوا بالأسلحة الناريه والتي سيطلقون منها عياراتهم بمجرد أن يتأكدوا من رؤية الهلال ، وعندما يتم التأكد من رؤية الهلال تبدأ مشاعر الفرح والسرور ويبدأ التكبير بالحسينية الجواديه التي كانت مركز تجمع أهالي الكريعات لانها الوحيدة في الستينات ، ويبدأ المرحوم ( مهدي القصاب ) يردد من مكبرة الصوت في الحسينيه ( الوداع ياشهر رمضان الوداع ) ويتجمع الناس ليلة العيد في الحسينيه حول السيد ( أحمد رضا الهندي ) وكيل المرجعيه في ذلك الوقت لكي تُعطى له زكاة الفطره والتي كان يتكفل بتوزيعها على المحتاجين ، وكانت المرحومة والدتي تقول لنا أن هذه الليله ستتسحرون سحور ( اليتيمة ) بأعتبار ان يوم غد سيكون عيد ويشبه أكل اليتيمة ، كان أهلنا أبائنا الكبار رحمهم الله يجتمعون كما أسلفت في حسينية الجواديه ويخبرون السيد المرحوم أحمد رضا الهندي عن نيتهم بالقيام بدور الوسيط للمصالحه بين بعض العوائل التي كانت متخاصمة ويرحب السيد بذلك وتنتهي كل المشاكل في يوم العيد وكانت المشاكل تكاد لاتذكر لاننا كنّا منطقه واحده وعشيره واحده وقلب واحد قبل أن يدخل علينا الغرباء الذين فرقوا عشيرتنا وديرتنا ومزقوا منطقتنا وجعلوا من أهلها شيع متناحرة ، ثم نتجمع فجراً لآداء صلاة العيد في الحسينيه الجواديه ونحن نرتدي ( الدشاديش ) الجديده ألتي كانت ( المرحومة الحاجه فضيله الحاج جواد ) قد أختاطتها لنا ، وتعتبر الحاجه فضيله من الخياطات القليلات جداً في المنطقة وهي ليس مجرد خياطه بل هي ( أم الجميع ) بأخلاقها وعفتها وشخصيتها المحبوبة والمميزه ، وقبل ذلك كان بعض الناس من أهالي الكريعات يذهبون الى حمام الكاظم كما يسمونه أو حمام السوق والتي كانت تزدحم بالزبائن لأن بيوت ذلك الزمان نادراً ماتكون بها حمامات ، كنّا في ليلة العيد نضع ثيابنا الجديده بالقرب منا وكان البعض منا يضعها تحت الوسادة وننهض مع الطيور منذ الفجر مبكرين لمعايدة اهلنا الطيبين الذين يبادلوننا التهنئه والاحترام ويعطونا النقود ، بعدها نتجمع جماعات – جماعات ونذهب الى الكاظميه للزياره ونعبر في العبره بالزوارق التي كان المرحوم طيب الذكر ( الحاج كريم عبيس ) يستقبلنا بأبتسامته المعهودة ووجهه الجميل البشوش وهو يسلم علينا ويعايدنا ويرفض أن يأخذ منا الأجره ، ونذهب لركوب الخيول والمراجيح ودولاب الهواء ثم نعبر مشياً على الأقدام الى الاعظميه التي كان فيها سينما راقيه ونشاهد احد الأفلام التي كانت تعرض في ذلك الزمن الجميل ، في صباح يوم العيد يبدأ المرحوم حسن چاووش في الكريعات والمرحوم حسن باشا في الزويه يبدؤن بالدوران على محلات المنطقة وهم يجمعون العيديه ونحن نتجمع وندور معاهم وهم ينقرون بطبولهم الجميله ألحان العيد ، خمسين عام أو أكثر مرت على هذه الذكريات الجميله والمؤلمة والتي تركت في نفسي جرح لن يندمل بعد أن فقدت العديد من أخواني وأصدقائي وأولاد عمومتي الذين كانوا يعيشون معي تلك اللحظات والأيام التي أخذنا نتحسر عليها ، اللهم أرحم أهلنا الطيبين في منطقة الكريعات الذين كانوا مثال للاخوه والقرابة والاهل ، وادعوا الجيل الجديد من شباب هذا اليوم أن يحافظوا على تراث وتأريخ الكريعات لأنها الكريعات …..

جبر شلال الجبوري

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here