يوم صلينا العيد بملعب مكشوف لـ “خماسي كرة القدم”وبعدها العشاء في محل للقصابة !!

احمد الحاج
تقررهذا العام تعليق صلاة العيد وهي فرض كفاية عند كثير من العلماء لا ينبغي تركها إلا لعذر شرعي، وهي بدورها فرض عين عند بعضهم الآخر أسوة بصلاة الجمعة ويسن للنساء حضورها ، أقول لقد تقرر تعليق صلاة العيد بجميع المساجد في طول العالمين العربي والاسلامي وعرضهما واقتصارها على المنازل من دون خطبة العيد والاكتفاء بسبع تكبيرات في الركعة الاولى وخمس تكبيرات في الركعة الثانية بمعية العائلة الكريمة ..لقد جلست العوائل كلها مرغمة بسبب كورونا في المنزل طيلة رمضان وأيام العيد لتتابع – هراء الدراما العربية والمسلسلات والافلام الاجنبية والمسابقات القمارية وغثائها ورقصها وغنائها وشذوذها ومجونها وانحرافاتها وإغراءاتها – فيما كل الجوامع مغلقة وكل الجمع والجماعات والخطب معلقة – حدث كل ذلك ولادراما تربوية معاكسة ولامسابقات ثقافية هادفة عندنا لنعرضها لجمهورنا الكريم كبديل وقتي عن اغلاق المساجد وتعليق المواعظ والخطب والدروس والمحاضرات على الاقل ، ربما لأننا لانؤمن بالدراما ولا بالمسابقات اصلا ودورها في تشكيل العقول وصياغة الافكار وقلب عالي الحقائق واطيها ..علمت من أحد الأصدقاء بأن صلاة العيد هذا العام ستقام في ملعب مكشوف لخماسي كرة القدم شريطة التقيد بلبس الكمامات والقفازات واستخدام المعقمات وتطبيق التباعد الاجتماعي بحذافيرها خلال الصلاة التي ستقام داخل الملعب المكشوف في الهواء الطلق ..فذهبت !
وما ان وطأت قدمي ارضية الملعب الشعبي حتى انثالت وتزاحمت في ذهني الذكريات بحلوها ومرها يوم كنت حارسا لمرمى احد الفرق الشعبية ، وتذكرت كيف كانت الجماهير تصفق بحرارة وتثني خيرا مع كل صدة موفقة نجحت بحراسة مرماهم من – كرات ومقذوفات – الفريق الخصم ، وكيف كانت ذات الجماهير المحبة تنهال بالشتائم على حارس المرمى وتقذفه بقناني الماء الفارغة من المدرجات مع كل اخفاقة في ذلك ما يضطره الى الهروب من الملعب بسرعة البرق بمجرد اعلان صافرة الحكم عن خسارة الفريق لصالح خصمه والا – اصبحت كتلة الكولجي عمل شعبي – وما زلت اذكر ماحل بحارسي فريق ” أضواء الـ ..” ، وفريق دينامو الـ …” الشعبيين يوم ابرحا ضربا من قبل المشجعين فور خسارة فريقيهما وذلك بعد يومين فقط من حملهما على الاكتاف في المبارتين السابقتين اللتين انتهتا بفوز مستحق لصالحهما …وهذا ديدننا على الدوام ، يا ابيض يا اسود ، ولا وسطية عندنا البتة للتعامل مع مجريات الاحداث وفي جميع الامور !
اقيمت الصلاة حسب الاصول ، وبدأت الخطبة واذا بها من اجمل الخطب التي استمعت لها يوما طوال حياتي..لقد شرق الخطيب – المتقاعد – وغرب في كل شؤون الحياة بجمل متسقة وعبارات جزلة وكلمات منمقة غاية في البلاغة والروعة – حيث لا لحن ولا اخطاء نحوية ولا رفع منصوب ولا جر مفتوح كما يفعل بعض الخطباء الشباب مع الاسف – لقد كان الخطيب ملما بكل مناحي الحياة من حوله ومتابعا لأدق تفاصيلها في بلده ومنطقته ولم يكن غائبا ولا مغيبا عن صغيرها ولا كبيرها قط ..علم الخطيب المفوه المتقاعد الكبير في السن عن بخل الناس وشحهم فتحدث عن فضل الانفاق ..علم عن تقاطع وقطيعة الاقارب فتحدث عن فضيلة صلة الرحم ..علم عن استشراء البطالة فتحدث عن شرف العمل وخطر البطالة الداهم بشقيها الحقيقية والمقنعة ..علم عن فاقة الناس وحاجتهم وفقرهم المدقع في بلد سرق نفطه ونهبت ثرواته فتحدث عن أهمية التكافل الاجتماعي والحد من الفساد المالي والاداري والسياسي ..علم عن جرأة أهل الباطل ومجاهرتهم بالمعاصي والاثام ، مقابل جبن الكثير من أهل الحق فتحدث عن أهمية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ودورهما في رفع البلايا والكوارث والاوبئة والفتن ..علم بتهاون الناس بالعبادات والطاعات وذهولهم عنها جملة وتفصيلا فتحدث عن اهمية الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ..لم يترك شاردة ولا واردة الا وكان له بصمة فيها مختتما خطبته تلك والدموع تنهمر على خديه مدرارا بماقاله النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وبما عرف بالوداع التأريخي ” لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا.. ” خرجنا من الخطبة وفرحة العيد مشوبة بحزن وحذر سرعان ما بددها رؤية جمع من النسوة الفاضلات وهن يصلين جماعة في الحديقة الخلفية المجاروة للملعب المكشوف …لقد اضفت تلكم الصلاة الجماعية الى اجندتي كأول وربما آخر ” صلاة عيد في ملعب لخماسي كرة القدم “، ياااااه ماذا صنعت بنا يا كورونا وماذا تراك صانع بنا اكثر مستقبلا ؟!
كان يوزع الشاي مع أخذ جميع الاحتياطات الطبية والوقائية اللازمة في “جاي خانة ” صغيرة بعد استحصال الموافقة بصفته صانع لدى صاحبها في احدى الاحياء البغدادية الشعبية المغرقة في القدم – لاتسألني وين لطفا ؟!- وعنده في مقهاه يجلس وجهاء المحلة ومخاتيرها وكبارها في السن ليلا فقط ، مررت من هناك لحاجة فجلست لأستريح من التعب ، هنا أذن لصلاة العشاء من دون أن تفتح المساجد القريبة ابوابها احتياطا وامتثالا للتوجيهات الصحية والفتاوى الدينية منذ انتشار جائحة كورونا ، خلع الصانع الشاب صدريته النظيفة وترك المقهى لصاحبه وقال لشخص يطبق التباعد الاجتماعي بكل دقة يجلس عن يميني هلم بنا الى الصلاة ..قلت خذوني معكم يرحمكم الله فلقد اشتقنا ..وعلى مسافة 300 متر واذا بـ محل للقصابة قد خصص فسحة خارجية نظيفة للصلاة فذهبت لأتوضأ فأقيمت الصلاة – احد احبابي وزملائي الاحبة لطالما كان يمزح قائلا ” أحزركم حزورة ..من هو الصحفي الذي وضوءه اطول من صلاته ؟ ” فيأتيه الجواب فورا من الاصدقاء وبصوت واحد – احمد الحاج – لتتبعها ههههه جماعية ، اسعد الله قلوبكم واضحك سنكم دوما – بالمناسبة انا لا أتضايق مطلقا من المزاح البريء وبالاخص اذا ما صدر من اصحاب القلوب الطيبة – ، فرغت من الوضوء واذا بالشاب هو الذي يؤم كل مخاتير المحلة ووجهاءها وكبارها وقبل دقائق كان يقدم لهم الشاي والحامض ويتولى خدمتهم ، وبعد الفراغ عاد الشاب – الامام – ثانية الى عمله وووعادوا … حقا وصدقا ما أعظم الاسلام وما أبدع البسطاء وما أروع المصلين..حيث لافوارق طبقية ولا اجتماعية بل اخوة صادقة ودائمة واحترام كبير وعطف على صغير ..قدموه للامامة بكل محبة وود لأنه احفظهم لكتاب الله واغزرهم علما ولم يقل اي منهم ” اتقدمون صانع المقهى الصغير على كبراء القوم ومخاتيرهم ؟ ” .
بالمناسبة هذه الصلاة تحديدا سأسجلها كسابقتها في اجندتي وسأختزنها في ذاكرتي بإعتبارها اول صلاة جماعة لي طوال حياتي في..محل للقصابة !
وكان المفترض أن ألتقط صورة لهذه الصلاة والتي قبلها الا انني لم أشأ ذلك والا فإنهما فريدتان من نوعهما بحق وتصلحان للاستشهاد بهما مستقبلا تحت عنوان ” عراقيون يؤدون صلاة العشاء جماعة في محل للقصابة واخرى في ملعب مكشوف لكرة القدم في عصر كورونا ” .اودعناكم اغاتي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here