الأمن الدولي والانساني

الأمن الدولي والانساني
د.ماجد احمد الزاملي
مفهوم الأمن الإنساني يعتبر الإنسان هو الموضوع المرجعي للأمن، والدولة هي وسيلة لتحقيق هذه الغاية، وبالتالي الانتقال من المستوى الدولي إلى المستوى الفردي للأمن، وذلك باعتبار أن الدولة تراجعت قدرتها في مواجهة التحديات الجديدة التي أفرزتها مسارات العولمة المتسارعة، إضافة إلى أن الاهتمام بمسألة الأمن الإنساني يرجع إلى تدفقات الهجرة القادمة من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية، وهو ما يؤدي عادة إلى خلق توترات اجتماعية والى تنامي الصدامات داخل الدول والمجتمعات، فتتحول الدولة إلى وسيلة لحماية أمن الأفراد والمؤسسات الحكومية في المناطق المزدهرة من تدفق المناطق الفقيرة. ونعتقد أن الدولة تهتم أكثر بقضايا الأمن الخارجي لذا فهي الوسيلة أما الفرد فهو الهدف والغاية، فيصبح الأمن الإنساني كنجدة للبشر في حالة الانكشاف أمام أنظمة الإقصاء المٌضطهِدة. وحسب هذا التصور الراديكالي فإن الدولة-الأمة تجاوزها الزمن بل أصبحت تمثل عائقا أمام تحرر وانعتاق البشر. منذ نهاية نظام الثنائية القطبية بانهيار المعسكر الاشتراكي، تخلّت الدول عن النمط التقليدي في بناء الأمن الإقليمي والعالمي الذي تشكّل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والمتمثل في المعاهدات والأحلاف العسكرية الإقليمية، لأنها أصبحت وسيلة غير ناجعة الاستعمال بسبب تغير مفهوم الأمن بانتقاله من المستوى التقليدي إلى مستوى أعم وأشمل، ومن مستوى الدولة إلى مستوى المجتمع، فالدول لم تعد مهددة من قبل دول بذاتها بأسلحتها وجيوشها، بل أصبحت مهددة من قبل نمط جديد من الأخطار والتهديدات غير العسكرية ذات الطبيعة العابرة للحدود والأوطان، وهذا ما أدى بها إلى اعتماد ميكانيزمات جديدة من أجل الحفاظ على أمنها تماشيا مع هذه المعطيات الجديدة، ولعل ترتيبات الشراكة الأمنية تأتي في مقدمة هذه الميكانيزمات. وهكذا فإن الدوافع الأمنية الأوروبية تجاه منطقة شرق المتوسط كان لها أبعادها التاريخية والجغرافية، والثقافية، حيث مثلت حرب أكتوبر 1973 في الشرق الأوسط وما نتج عنها من تداعيات خطيرة منعطفا رئيسيا للاهتمامات الأوروبية في المنطقة، لضمان تأمين امدادات البترول، كما تولدت قناعة لدى الطرف الأوروبي بأن الأخطار التي تهدد استقرارها أصبح مصدرها من جنوب المتوسط، ويظهر ذلك جليا من خلال زيادة الهاجس الأمني الأوروبي تجاه ظاهرتي الهجرة والإرهاب، وما تطرحه من امكانيات انتقال التطرف والعنف من الجنوب إلى أعماق القارة الأوروبية، لذا أصبح الاعتماد القوي بسبب القرب الجغرافي والقيود الجيوبوليتيكية يفرضان موقفا مشتركا للتعامل مع مصادر التهديد وعدم الاستقرار، بحكم الحرب الباردة كانت مسألة الأمن في المتوسط محسومة، أما بعد فترة الحرب الباردة الارتباط إما بالكتلة الغربية أو بالكتلة الشرقية والتغييرات التي صاحبتها من انهيار للمنظومة الإشتراكية في أوروبا الشرقية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، وبروز ما يسمى بأطروحة “العدو الجديد”، نتائج حرب الخليج الثانية ومسار السلام في الشرق الأوسط، وغيرها من التحولات التي أثرت على طبيعة المشهد الأمني المتوسطي. إذ بعد زوال الخطر الشيوعي الذي كان بمثابة البوصلة التي توجه العالم الغربي، وتضبط مساراته، وتضمن تماسكه اتجاه الآخر، كان العمل على خلق عدو جديد وهو دول الجنوب، حيث الحركات الإسلامية التي شكلت الهاجس الأمني المقلق للعالم الغربي. بالإضافة إلى مظاهر عدم الاستقرار السياسي، والتدهور الاقتصادي، والنزاعات العرقية والطائفية التي تشكل في مجملها توليفة مشجعة لظاهرة الهجرة غير الشرعية التي تخشاها أوروبا أكثر من غيرها من التحديات الأخرى. هذا التصور للعدو الجديد تشاطرته ضفتي الأطلسي وتم تغذيته بكم هائل من الدراسات والبحوث الغربية عملت على تضخيم هذا الاتجاه الصراعي الجديد وتصادم حضارته.

أن البناء النظري للدراسات الأمنية من منظور واقعي تقليدي، يركز بشكل واضح على “الدولة” كموضوع مرجعي للأمن. بمعنى أن التقليديين المحافظين على المفهوم الضيق للأمن يسعون إلى بناء مفهوم للأمن يمكن من خلاله حماية أمن “حدود” الدولة، الفاعل الرئيس في النظام الواستغالي(اتفاقية وستغاليا عام 1648 التي انهت الحرب الدينية في اوروبا) ذو المرجعية الواقعية. ورغم كل التحولات التي شهدها النظام الدولي في الجانب الأمني الاستراتيجي بعد نهاية الحرب الباردة، إلا أن الواقعيين الكلاسيكيين والجدد المهيمنين على المنظورات التقليدية في الدراسات الأمنية، يرفضون قطعا إعادة صياغة مفهوم آخر للأمن خارج إطاره الضيق، والمرتبط بالقوة العسكرية وبقاء الدولة وسلامة سيادتها. فإن النظريات التفسيرية أو ما يعرف بالعقلانية ركزت بناءها على التفكير الوضعي والنزعة التجريبية، بدءا بالواقعية والتي يقوم تصورها على افتراض أن الأمن يتحقق بواسطة الدولة–الأمة، وبأن ذلك يحول دون نشوب النزاعات بين الدول، ثم جاءت الليبرالية التي ركزت على أشكال الاعتماد المتبادل وأعطت الأولوية للصبغة التعاونية في العلاقات بين الدول، واهتمت بدور الديمقراطية في تعزيز السلام، بالإضافة إلى وظيفة مختلف المؤسسات الدولية -خصوصا الاقتصادية منها- في ربط تلك التفاعلات ذات الطابع التعاوني. لكن بعد الحرب الباردة، احتدم النقاش بين التصورين الواقعي والليبرالي للأمن، وأثارت القضايا الجديدة اشكاليات عديدة بالنسبة لمفهوم الأمن كالكوارث الطبيعية، الأزمات الإقليمية، الفقر، والتلوث البيئي…وهكذا فقد برز توجه جديد لإحلال تهديد الإسلام محل تهديد الشيوعية، وذلك بتوظيف مسألة الهوية/الحضارة والتأكيد على أن الخطر المستقبلي سيكون القطيعة الثقافية بين الشمال والجنوب، بين الشرق والغرب، وبين المسيحية والإسلام. وفي محاولة لمناقشة أطروحة “صدام الحضارات” وتطبيقها على منطقة المتوسط، عقدت ندوة في شباط 1996 ببرلين، تم التأكيد من خلالها على وجود دلائل توحي بأن المواجهات بين المجتمعات المطلة على ضفتي المتوسط لها خواص يمكن إرجاعها إلى صدام بين الحضارات المسيحية اليهودية في الشمال والإسلام في الجنوب، والمأساة في البوسنة وكوسوفو بينت حدة هذا التناقض القائم والذي وصل إلى حد التصفية العرقية. وهو الأمر الذي أدى بدوره إلى تنامي الإحساس بالعداء تجاه دول شمال المتوسط، غذته إفرازات حرب الخليج الثانية، فقد كان لتنامي التيارات الإسلامية وقيام أنظمة إسلامية في الشرق الأوسط، دور في إعطاء مصداقية أكثر لأطروحة صدام الحضارات، واعتبار المتوسط مسرحا لانتشارها، فدول الجنوب المنتمية إلى العالم الإسلامي تجد نفسها في مواجهة الغرب المسيحي، وهو ما يكرس مظاهر القطيعة وتعميق الهوة بين دول وشعوب الضفتين، مما يعقد سبل إيجاد أطر تعاونية وبناء الثقة. لذا ووفقا للعديد من علماء السياسة فإن البحر الأبيض المتوسط أصغر من أن يكون إقليم/منطقة متميزة، وأقرب ما يكون إلى مكان يتسم بديناميات الانقسام وبالمشكلات الضخمة، وبالهويات القوية، وذلك في المناطق الفرعية التي تدور في جنباته. بالإضافة إلى أن الكثير من الكتاب يشبهون البحر المتوسط بأنه مصدر تهديد، أو بحر غير مستقر، أو بحر متاعب، وذلك نتيجة لاعتبارات منها: الانفجار الديمغرافي، الأصولية، الإرهاب، الهجرة غير الشرعية، النزاع العربي-الإسرائيلي، التخلف، نضوب مصادر المياه. وباعتبار أن منطقة حوض المتوسط تشكل تخوم حقيقية بين الشمال والجنوب، برزت حقيقتها بشكل واضح بعد نهاية الحرب الباردة، مما أدى إلى تحول المنطقة إلى خط مواجهة بعد زوال خطر الشيوعية. وقد ساهم خطاب التهديدات القادمة من الجنوب في الغرب- وعلى مدى واسع- في تشكيل وصناعة رأي عام مقتنع بذلك، وبالتالي أصبح حوض المتوسط الخط الفاصل بين الشمال والجنوب في النظام العالمي. وهو – في الحقيقة- أكثر من مجرد حدود فاصلة بل يتعداها إلى انكسار بين منطقة شمالية مكونة من بلدان جنوب أوروبا ترى مستقبلها في الإتحاد الأوروبي، ولا تعرف مشاكل أمن فيما بينها، ما عدا بؤرة التوتر “البلقانية” على الجانب الشمالي، وهي دول متفوقة عسكريا ومنظمة إلى أكبرحلف وهو حلف شمال الاطلسي ومنطقة جنوبية مكونة من بلدان ، عربية منقسمة تخضع لحالة تراجع فوضوي، وهي دول منكشفة وإمكاناتها العسكرية محدودة، وإن امتلكت بعض دولها لترسانة عسكرية معتبرة، فهي موجهة بشكل رئيسي للاستعمال في النزاع المسلح جنوب-جنوب أكثر مما هي موجهة ضد دول الضفة الشمالية. وبهذا يبدو الإتحاد الأوروبي متماسك بشكل بارز بالمقارنة مع البحر الأبيض المتوشط الممزق. ومع ذلك ينظر إلى دول الجنوب كتهديد لدول الشمال. إذن فالمخاطر العسكرية المباشرة تبقى بشكل واسع أفقية البعد أي جنوبية-جنوبية أكثر منها جنوبية- شمالية، لاسيما في غرب المتوسط. ففي هذه المنطقة هناك مشكلة الصحراء الغربية بين الجزائر والمغرب، ومشاكل بين دول أخرى ومخاطر مواجهات عسكرية بينها، في حين أنه باستثناء الأزمات المغربية-الإسبانية حول سبتة ومليلية، يصعب تصور مواجهة عابرة للمتوسط. من جهة أخرى، تبقى مخاطر الصراع -على بحر إيجة- بين اليونان وتركيا قائمة، ونفس الشيء تقريبا بالنسبة للبلقان والبحر الأسود، ويبقى الصراع العربي- الإسرائيلي يلقي بظلاله على المنطقة، ما يعني أن استمرار بؤر التوتر والصراعات المسلحة الكامنة حول المتوسط ليس مجرد مسألة نظرية، مما يؤثر على المناخ الأمني الإقليمي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here