كيف الطريق الى سياقات ومحددات ناجعة لمسارات النظام العالمي؟؟؟

كيف الطريق الى سياقات ومحددات ناجعة لمسارات النظام العالمي؟؟؟

أ.د.سلمان لطيف الياسري
من المعروف أن المراحل الانتقالية تحتاج وقتا قد يطول أو يقصر وذلك حسب الظروف وحسب الكيانات المرتبطة بهذه المرحلة، سواء كان هذه الكيانات مجتمعات أو أنظمة أو غير ذلك، فكيف إذا كانت هذه المرحلة الانتقالية عالمية بامتياز، حيث تسعى الولايات المتحدة الأمريكية كي تبقى القائد العالمي الوحيد، بينما تسعى كل من روسيا والصين ومن معهما من حلفاء وأصدقاء لكسر الهيمنة الأمريكية على مصير العالم وعلى القرار العالمي من خلال قيادة قطب آخر في مواجهة البلطجة الأمريكية. لذلك يستنفر الطرفان جميع خططهما ووسائلهما لتحقيق النجاح في هذه المرحلة التي من المؤكد أنها ستغيّر وجه العالم، لدرجة أن تتجاوز سخونة هذه المواجهة كل المستويات السابقة للحروب الباردة، ولكن الشيء المطمئن هو أن كلا الطرفين يسعيان لكي تبقى هذه الحرب بعيدة عن العمل العسكري المباشر، رغم كل التهديدات والاستفزازات المتبادلة.

ولو حاولنا رصد أسلوب عمل الأطراف الفاعلة في هذه المرحلة سنجد أن:-كانت الولايات المتحدة تخطط لبسط سيطرتها المطلقة على منطقة الشرق الأوسط بواسطة ذراعيها الصهيوني بقيادة إسرائيل والإخواني بقيادة تركيا، وذلك من خلال ما سمي “الربيع العربي” الذي كان مُخططاً له أن يصل إلى لبنان للقضاء على حزب الله الذي سيكون مُجبرا على ترك سلاحه وتغيير سياساته، بعد أن يكون قد فقد سنده السوري وبالتالي فقد تواصله مع إيران طبعا لو نجح مخططهم بالسيطرة على سوريا. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية تفاجأت بالصمود السوري وبالدعم القوي والسريع للطرف الآخر بقيادة روسيا، ولذلك دخلت بحالة واضحة من التخبّط، وخاصة في سياستها الخارجية التي بدأ يشوبها التناقض والتردّد، مما أجبر الولايات المتحدة على محاولة قطع الطريق على أطراف المحور الآخر وذلك من خلال العقوبات والحصار، وأيضاً من خلال تشكيل خطّ دفاع يبدأ من الخليج مروراً بباكستان وصولا إلى محيط روسيا الحيوي المتمثّل بدول أوربا الشرقية، كذلك بنشر الصواريخ الأمريكية في معظم دول أوروبا الشرقية. وبرغم كل الحسابات يبدو أن أمريكا فوجئت بأمرين مؤثرين، الأول هو توجه إسرائيل نحو الصين، في محاولة ليكون البديل حاضراً في حال التخلي الأمريكي عن كيانهم، وهذا ما ورد على لسان أكثر من محلّل سياسي إسرائيلي. والثاني هو وباء كورونا الذي أظهر ضعف النظام الأمريكي في التصدي لمثل هذه المفاجآت، بينما تقدمت كلّ من روسيا والصين لتكونان مساعدتين فعّالتين للكثير من الدول، ومنها الدول التي كانت تعولّ على المساعدة الأمريكية عند التعرض لمثل هذه الأخطار، ولذلك رأينا الطائرات الصينية التي تحمل المعونات الطبيّة لمعظم الدول المُتضرّرة كما رأينا الجنود الروس في الشوارع الايطالية، بينما كان الجنود الأمريكيون يسطون على ما تيسير من مساعدات متوجهة لدول تستغيث.-روسيا التي تدخّلت بقوّة في الحرب السورية وساعدت بصمود الدولة السورية وانتصاراها، بدأت تتطلّع لأن تكون لاعباً مهماً في المنطقة إن لم يكن الأهم، ولذلك تسعى لاستقطاب معظم دول المنطقة، وتقدّم نفسها كوسيط لحلّ المشاكل، وقد نجحت في ذلك إلى حدّ بعيد. ويكفي أن نرى مواقف كلّ من السعودية وإسرائيل حتّى نتلمّس الراحة والثقة لكلتيهما في التعامل مع روسيا، بل والتعويل عليها في حلّ الكثير من المشاكل. كما تركيا التي تُعتبر قوّة أطلسية فاعلة ولكنّها تتطلع لتعاون كبير ودائم مع روسيا. بهذا الهدوء تمدّ روسيا جسورها نحو حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة لجذبهم ولو بعد حين، بذات الوقت لا تنفكّ تلوّح في وجه الولايات المتحدة الأمريكية بقوّتها العسكرية وبسلاحها المتطوّر لدرجة التهديد باستخدامه دفاعاً عن نفسها بما في ذلك السلاح النووي. وفي مبادرة لمنع أسقاط حلفائها في الأمريكيتين، تقف روسيا بقوّة وثبات في وجه المخطّطات الأمريكية الهادفة إلى ذلك.-شيئاً فشيئاً تجد الدول الأوربية نفسها خارج الرعاية الأمريكية، ولذلك يتجلّى همّها الأكبر في المحافظة على كياناتها في ظل أوضاع اقتصادية متردّية، وأوضاع أمنية ليست على ما يرام، ولذلك نراها باحثة عن الفتات، وبطبيعة الحال ليس لها ذلك الدور العالمي المؤثر.-مازال موقف الصين لا يعكس حجمها الحقيقي، أو لنقل بأنها تفضّل العمل بعيداً عن الأضواء، ولعلّ همّها الأول هو استكمال البناء الاقتصادي الذي سيحجز لها مكاناً عالمياً متقدّماً، ولذلك نراها قريبة من الحلف الروسي مع محاولة تفادي الغضب الأمريكي، بدليل التزام معظم شركاتها بالعقوبات المفروضة من قبل الأمريكي على أيّة دولة.-استطاعت إيران حجز مكاناً مرموقاً في القطب الجديد المتشكّل، وذلك بفضل قوّتها الذاتية وقوّة محورها المقاوم وبفضل تحالفها الوثيق مع روسيا.-مازالت تركيا تلعب على حبال المحورين مستفيدةً من كليهما في ظلّ حاجة كلّ محور لوجودها إلى جانبه، ولكن قناعتنا هي أن التركي لا يستطيع العيش خارج الحضن الأمريكي وهذا ما يضعه الجميع في حساباتهم ولاسيما روسيا والصين.-تعيش “إسرائيل” حالة رعبٍ ولاسيما أنّ الخطر المقاوم قد أصبح على حدودها، وذلك في ظل الجفاء الروسي وتزايد عدم الثقة بالأمريكي، وما يزيد من حالة الرعب هذه هو اقناع شرائح كبيرة داخل المجتمع الإسرائيلي بأن أفقهم بدولة تملك مقومات البقاء يضيق شيئاً فشيئاً وهذا ما تعكسه الأعداد المتزايدة من الصهاينة الذين بدأوا بهجرة معاكسة.وهنا يُحسب لسوريا وحتى باعتراف أعدائها بأنّها كانت نقطة الارتكاز الأولى والأقوى التي استندت إليها روسيا في انطلاقتها نحو مكانها الطبيعي كقطب عالمي آخر
إذا كانت أمريكا فرضت ما سُمِّي النظام العالمي الجديد على أثر انهيار الاتحاد السوفيتي، فإنها على ما يبدو بصدد تغيير لهذا النظام أو تعديل قواعد لعبة السياسة الدولية. إن صح هذا الزعم، فما هي الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي من المرجح أنها ستشكل منطلق النظام العالمي القادم؟ قبل ذلك، ما هي الاستراتيجية الأمريكية السابقة؟ يمكن إيجازها بمرحلتين: الأولى مرحلة بوش، الممثلة بوثيقة «استراتيجية الأمن الوطني» الأمريكية الصادرة عام 2002 بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، منتقلة من عقيدة الردع أثناء الحرب الباردة إلى عقيدة «الحرب الوقائية» استباقاً للسيطرة على التهديد القادم من الجماعات الإرهابية وتهديدات الدول مثل العراق وإيران، ومواجهة النفوذ الروسي. على هذا الأساس قامت أمريكا بدور شرطي العالم ولم تتوانَ عن التدخل عسكرياً بأسلوب «الصدمة والرعب» ضد من تمرد على النظام العالمي, بينما المرحلة الثانية في عهد أوباما تمثلها وثيقة «استراتيجية الأمن الوطني» لعامي 2010 و2015 أساسهما الأمن الاقتصادي والتراجع عن التدخل العسكري الضخم إلى تدخلات عسكرية خفيفة، والتركيز على استخدام القوى الناعمة: مفاوضات سياسية واقتصادية يتخللها مكافآت أو عقوبات؛ طارحة ما أطلق عليه «الصبر الاستراتيجي» لاحتواء المتمردين على النظام العالمي.قبل معارضة ترامب لاستراتيجية أوباما ظهر الاعتراض بشدة من الجمهوريين وبعض الديمقراطيين، باعتبارها تراجعاً عن الدور القيادي لأمريكا، مما أدَّى لنتائج كارثية في رأي المعارضين، مثل التدخل الروسي في أوكرانيا ثم سوريا، وانهيار نظام الدولة في بعض مناطق الشرق الأوسط، وزيادة التمرد الإيراني المهدد للاستقرار الدولي. فإذا كانت الاستراتيجية الناعمة لأوباما لم تثمر، فكذلك الاستراتيجية الخشنة لبوش! فماذا لدى خطة ترامب؟رغم أن ملامح استراتيجية كل رئيس جديد تأخذ عدة شهور للظهور فإننا شهدنا تلك الملامح خلال الأيَّام الأولى من إدارة ترامب، فيمكن القول، مع بعض التحفظ، إن خطة ترامب تقوم على الدمج بين الاستراتيجيتين السابقتين مع اختلاف في الاتفاقات الدولية. هذا الدمج يعني التدخل العسكري والاحتياط الأمني الصارم من جهة، والإجراءات الاقتصادية الجديدة الحادة من جهة أخرى. لكن إدارة بوش وأوباما لم تمسا الاتفاقات والتحالفات والاتحادات الدولية، أما إدارة ترامب فعازمة على مراجعة العديد منها، معبرة عن انزعاجها بأن أمريكا هي أكبر من يدفع ثمنها، وحان وقت الآخرين لدفع الفواتير. وما هي الإجراءات التنفيذية لإدارة ترامب؟ من الناحية الأمنية، نجد أمثلة كوقف برنامج استقبال اللاجئين وفرض حظر على دخول مواطني البلدان التي من المرجح أنها تؤوي الإرهابيين، ومرسوم بناء جدار الفصل مع المكسيك، ورفض اتفاقية تبادل اللاجئين مع استراليا… الخ.

ومن الناحية العسكرية، فالإدارة الأمريكية حذرت إيران بشكل رسمي دون استثناء التهديد العسكري عقب التجربة الصاروخية الإيرانية والاعتداء على سفينة سعودية ودعم طهران لجماعة الحوثي. وقد خلصت صحيفة لوس أنجلوس تايمز الى أنه إذا كان التهديد «الرسمي» يمثل استراتيجية أمريكية فهل يأتي بنتائج تمهد الطريق إلى الحرب؟ الإجابة غامضة الآن، لكن الملامح واضحة، فالتحذير حازم والإدارة الجديدة أظهرت أنها جادة في تهديداتها؛ ففي واحدة من أحدث تصريحات ترامب نشرها على صفحته الرسمية بتويتر، قال: «إيران تلعب بالنار.. لا يقدِّرون كم كان الرئيس أوباما طيباً معهم. لن أكون هكذا .أما على الصعيد الاقتصادي فالأمثلة كثيرة مثل إنهاء مشاركة أمريكا في مفاوضات اتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادئ التي تفاوضت عليها إدارة الرئيس السابق أوباما مع 11 دولة، وإعادة التفاوض حول اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة، التي تضم الولايات المتحدة والمكسيك وكندا, لاحظ أن كل ما ذكر تم في عشرة أيَّام من بداية رئاسة ترامب! لذلك قال ترامب إن على الكونجرس أن يستعد لأنه سيشغلهم فعلاً! فهل سيتمكن من المضي قدماً في نهجه المثير للجدل؟ على الأرجح: نعم؛ رغم صعوبة التكهن بمصير تنفيذ خططه التي لا يمكن عزوها لنهج سابق سواء كان للجمهوريين أو للديمقراطيين؛ وإن كان الجمهوريون الذين يمثلون الأغلبية في الكونجرس يساندونه نظرياً إلا أن عدداً محدوداً منهم دافع عن قراراته فيما أدانها بعضهم جزئياً أو كليا. التجارب السابقة تشير إلى أن القول الفصل هو للبيت الأبيض في القضايا الخارجية؛ فهذا ما جرى للرئيس السابق من مسانديه الديمقراطيين الذين عارضوه كثيراً، ولم تثنيه عن المضي قدماً بخططه الخارجية. كذلك الرئيس الأسبق الذي عارضه أغلب حلفائه الغربيين لكن خطته مضت كما أراد.

الخلاصة أن العالم يمر بإعادة نظر للعولمة ككل سواء ببداية تفكك الاتحادات الدولية كالاتحاد الأوربي وترهل بعضها أو بالميول الشعبوية والعودة للحدود الوطنية المضادة للعولمة التي نشأ منها أزمات عجزت عن حلها. هذا سيسهل المهمة لإدارة ترامب الذي صرح بأنه سيعمل للأمركة مقابل العولمة وفق قاعدة «اشترِ منتجات أمريكية ووظف مواطنين أمريكيين»، مؤكِّداً عزم إدارته فرض إجراءات حمائية كالضرائب الجمركية على الشركات الأمريكية حال نقل مصانعها خارج البلاد، مما سيعيد هيكلة العولمة الرأسمالية. هذه الهيكلة الاقتصادية الجديدة المنتظرة سيرافقها استراتيجية أمنية أمريكية جديدة تجاه العالم ستشكل النظام العالمي ما بعد الجديد.

بعد عام من الزمن تكون قد مرت عقود ثلاثة على سقوط جدار برلين بين الشرق والغرب وإعلان الكثيرين انتصار نموذج الديمقراطية الليبرالية الغربية بالضربة القاضية وبداية اكتساحها للعالم كنموذج جاذب وحامل للتغيير. ومرَ العالم بلحظة وصفت بالأحادية القطبية الأمريكية سرعان ما انتهت لندخل مرحلة انتقالية مفتوحة مع «عودة» روسيا الاتحادية «وقيام» الصين الشعبية فى النظام العالمى. مرحلة تشهد تغييرات جذرية من حيث سقوط قواعد وأعراف قائمة وبروز أخرى دون أن تستقر بعد كأنماط فى العلاقات الدولية. من اللحظات المؤثرة فى هذه التغييرات الأزمة الاقتصادية المالية العالمية التى حصلت عام 2008. نرى اليوم أن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية فى طريقها إلى الاضمحلال وأن الصين الشعبية فى طريقها لتتبوأ الموقع الأمريكى كأكبر اقتصاد فى العالم. ونرى اليوم أن الاتحاد الأوروبى يعيش أزمة هيكلية بعض أسبابها ناتج عن التوسع السريع الذى قام به «لإنقاذ» الدول الأوروبية المولودة من جديد بعد سقوط الاتحاد السوفيتى. أزمة لا تهدد وجوده ولكنها تهدد تطوره كطرف فاعل على الصعيد الدولى وتخلق كما تساهم فى العديد من الأزمات فى داخله. ونرى أيضا أن روسيا الاتحادية عادت بقوة عبر بوابة الجغرافيا السياسية مقارنة مع عودة الصين الشعبية عبر بوابة الجغرافيا الاقتصادية. إن هذه التطورات وبروز مجموعة «البريكس» (روسيا الاتحادية، الصين الشعبية، البرازيل، الهند وجنوب إفريقيا) التى تشكل قوة ديمغرافية واقتصادية كبيرة، كلها عناصر تؤشر إلى أن الحوكمة العالمية لن تكون أمريكية الهوية كما تصور الكثيرون بل ستكون تشاركية غربية شرقية.
من المفارقات أيضا تبادل الأدوار بين واشنطن وبكين فيما يتعلق بالعولمة التى ولدت أمريكية بشكل خاص وتواجهها واشنطن/ترامب حاليا تحت عنوان أمريكا أولا وإقامة الجدران والحواجز الاقتصادية فيما سياسات بكين تصب فى دعمها تحت عنوان استراتيجى ضخم اسمه «حزام واحد طريق واحد»، إن الهدنة الاقتصادية الأمريكية الصينية التى ولدت فى قمة العشرين فى الأرجنتين لن تؤدى إلى «سلام اقتصادى» بسبب كثرة المطالب الأمريكية وصعوبة تجاوب الصين الشعبية معها، من تخفيف الدعم للصناعات الصينية بغية تقليص قدرتها التنافسية مع الصناعات الأمريكية إلى «وقف سرقة» الملكية الفكرية التى تتهم بها الصين إلى العمل على تقليص الفائض التجارى الصينى بين البلدين. الصين الشعبية تقدم نفسها كنموذج جديد للتنمية لا يمس بالبنية السياسية للسلطة وبالتالى لا يهدد أنظمة قائمة إذا أرادت اعتماد النموذج الاقتصادى الصينى. صدام أمريكى صينى وآخر أمريكى روسى إذ تتهم الأخيرة واشنطن بأنها تريد تعزيز الحاجز الأوكرانى أمام روسيا لمنعها من التحول إلى قوة أوروبية وإبقائها فقط كقوة آسيوية. كما تبدى واشنطن قلقها من تطور العلاقات الروسية التركية باعتبار الأخيرة البوابة الأخرى لروسيا إلى أوروبا. روسيا التى تريد بشكل خاص أن تكون المصدر الرئيسى لأوروبا بالطاقة.
نلاحظ أيضا ازدياد المقاومة للعولمة المتسارعة خاصة عبر «طريق» الليبرالية الاقتصادية والتى لم تؤدِ كما تصور الكثيرون إلى أن تفتح الباب أو أن تعزز الطريق نحو الليبرالية السياسية بل ما يحدث هو ردود فعل سلبية تقوم على الإحياء الهوياتى «القومى» وازدياد المشاعر الشعبوية التى تخاف وتخوف من الآخر المختلف حتى ضمن الوطن ذاته أو فى الإطار الإقليمى التعاونى ذاته. فهنالك تراجع فى قيم الديمقراطية الليبرالية حتى فى «قلاعها» الأساسية الغربية. الديمقراطية الليبرالية التى «تتهم» بأنها بعض أهم مسببات الأزمات الاقتصادية التى تعيشها الدولة المتقدمة. الأزمات التى جاءت بها تلك الليبرالية الاقتصادية. نرى اليوم تراجع مفاهيم وقيم التعاون الإقليمى والدولى فى لحظة، وهنا المفارقة، يبدو العالم بأشد الحاجة إليها لمواجهة تحديثات جديدة ومتجددة. تراجع يعمل لمصلحة بناء الجدران والحواجز بين الدول باسم الهوية القومية أو باسم تفسير خائف على تلك الهوية. ديمقراطية العلاقات الدولية من حيث اندثار القوة وانتشارها لم يؤدِ إلى تعزيز الديمقراطية السياسية ضمن الدول بل زادت هذه التحولات بأبعادها المختلفة من المخاوف الوطنية على الاقتصاد وعلى الهوية. الرئيس الأمريكى يعبر عن تلك المخاوف وعن ذلك القلق فى سياساته ولكنه لم يكن وراء ولادة هذا القلق وتلك المخاوف الموجودة من قبل فى أوروبا وفى الولايات المتحدة لكنه دون شك لإعطائها المزيد من القوة والظهور بسبب حدة خطابه وبسبب الموقع الذى يحتله.
خلاصة القول أننا نشهد اليوم ولادة نظام ثلاثى الأقطاب (أمريكى، روسى، صينى) يعزز قيامه العودة إلى لعبة القوى التقليدية المتحررة لدرجة كبيرة من إرث ومفاهيم وسلوكيات التعاون الدولى التى كانت تفرض قيودا على «لعبة القوى» التقليدية، نظام مثلث الأقطاب لكنه لا يخضع لأى قيود إيديولوجية أو قيود استراتيجية ثابتة كما كنا نشهد خلال عصر الحرب الباردة: نظام يلد فى ظل مناخ من الفوضى الدولية وأمامه تحدى احتواء هذه الفوضى وبلورة قواعد جديدة أو تعزيز أخرى قائمة ليكون نظاما عالميا جديدا مستقرا..

منذ إقامة مجموعة العشرين في عام 1999، جمعت الآلية فقط وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لمدة قرابة عقد، ولم تخدم سوى كمكمل لمجموعة السبع، النادي الحصري للدول الغنية الذي تهيمن عليه القوى الغربية وقد تغير كل ذلك عندما أدركت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية أنها من الصعب أن تصمد وحدها فقط أمام موجات تسونامي الأزمة المالية العالمية عام 2008.

لذلك، تعين عليها الانضمام إلى العالم النامي وتوسيع نطاق الهيئة الاستشارية لتشكل منبرا لقادة البلدان الرئيسية في العالم للتفاوض بشأن طرق التصدي لمحن الأزمة المالية وإضفاء الطابع العقلاني على الإدارة الاقتصادية العالمية وبما أن قمة العشرين هذا العام ستعقد في وقت لاحق من هذا الأسبوع في هامبورغ بألمانيا، فإن تطور القمة خلال السنوات الماضية يعكس حقيقة أن النظام العالمي الذي يقوده الغرب منذ أكثر من 200 عام بحاجة إلى إعادة تشكيل.

عندما انتهت الحرب الباردة، كانت العديد من النخب السياسية والتجارية في الغرب تفترض أن النظام السياسي الديمقراطي على النمط الغربي، جنبا إلى جنب مع اقتصاد السوق الحر، يمكن أن يكون الشكل البشري النهائي للحكم أو على حد تعبير عالم السياسة الأمريكية فرانسيس فوكوياما ” نهاية التاريخ”.

مع ذلك، يبدو أن ما يسمي بـ” النظام العالمي الحر” الذي اُعترف به في فترة ما بعد الحرب يتفكك أمام أعينهم وكتب مارتن وولف كبير المعلقين الاقتصاديين في صحيفة (فاينانشال تايمز)) أن ” آمال عالم جديد جريء من التقدم والتناغم والديمقراطية التي أثارها انفتاح السوق في الثمانينات وانهيار الاتحاد السوفيتي بين عامي 1989 و1991 قد تحولت إلى رماد في أوروبا، ألقى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود المجموعات السياسية اليمينية المتطرفة التي تمثلها شخصيات مثل مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية والهجمات الإرهابية المتكررة بظلاله على نحو متزايد على تعزيز التكامل الأوروبي وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، على الرغم من أن واشنطن تعهدت بأن تظل ملتزمة إزاء التحالف القوي بين الولايات المتحدة وأوروبا، إلا أن الخلافات بينهما حول التجارة وتغيرات المناخ وكذلك العلاقا ت مع روسيا قد أثارت قلق القادة الأوروبيين الذين يترقبون في توتر مدى اهتمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالحفاظ على دوره كـ”زعيم للعالم الحرمع ذلك، فإن النظام العالمي الأنغلو ساكسوني الذي يواجه تحديا عميقا لا يزال يشكل جزءا من مخاوف المؤسسة الغربية. وما يقلقهم أكثر هو نظرية أن تحل صين صاعدة محل الولايات المتحدة وتستبدل مجموعة القواعد القديمة بقواعدها.

وفي الواقع، الغرب سيطر على المشهد العالمي لفترة طويلة ولا يتخيل أن شخصا ما يمكن أن يأخذ مكانه وهذا يمكن أن يفسر سبب قلق العديد في أوروبا والولايات المتحدة من صعود الصين لذلك، لا يريد صانعو السياسات في الغرب سوى كبح جماح أولئك الذين يشتبه في أنهم ” مغتصبون محتملون” والتأكد من التزامهم بقواعد اللعبة التي وضعها الغرب وفي ثمانينات القرن الماضي، استشاطوا غضبا إزاء التوسع الاقتصادي السريع لليابان وروجوا لنظرية تقول إن البلاد لديها خطة سرية للتفوق على الولايات المتحدة. لذلك، لن يكون مفاجئا أن ينظر الغرب إلى الصين، وهي دولة ذات نظام سياسي واقتصادي مختلف، كما لو كانت تمثل تحديا أكبر أو تهديدا.

غير أن هؤلاء المشككين في نوايا الصين بحاجه إلى فهم أمرين هامين.

الأول هو أن الصين عملت على مدى الـ30 عاما الماضية على نحو جاد للاندماج في المجتمع الدولي. وكان ذلك أمرا حيويا للدولة لتحقيق نجاح اقتصادي ضخم خلال نفس الفترة وأصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم وقال سريكانث كوندابالي، الأستاذ بمركز دراسات شرق آسيا بجامعة جواهر لال نهرو الهندية، لوكالة ((شينخوا))، إن الصين مستفيدة كبيرة من النظام الدولي من حيث التمويل والأسواق والتكنولوجيا والسيطرة على الأسلحة ونزع السلاح وكذلك من عضويتها في الأمم المتحدة منذ عام 1971.

الأمر الثاني هو أن الصين ليست لديها نية لإسقاط النظام العالمي الحالي وبناء نظام جديد قائم على مقترحاتها الخاصة وقال روبرت هورماتس، نائب رئيس كيسنيغر اسوشياتيس ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق، إن الصين لا تريد تقويض النظام العالمي الحالي بل تريد ” صوتا أقوى ” و” تصويتا أوسع وقال بوريس فولكهونسكي، العالم السياسي الروسي والمحلل المستقل، إن الصين تلعب ” دورا مهما” في الدفاع عن مصالح الدول النامية في العديد من المنابر الدولية وتشكيل هياكل جديدة من أجل حوكمة عالمية أفضل.

مع ذلك، يتعين على واضعي السياسات الأمريكيين والأوروبيين أن يدركوا أن النظام العالمي الذي يقوده الغرب من بعد الحرب يعاني من عيوب خطيرة ويحتاج الى إصلاح لاستيعاب التغيرات والتحديات، مثل الإرهاب والاحترار العالمي، التي تنشأ مع صعود التعددية والارتباط المتنامي وإحدى المشكلات الرئيسية للقوى الغربية هي إنها تميل إلى الاهتمام أكثر بمصالحها الذاتية على حساب المصالح المشتركة للبشرية جمعاء. ولا تزال تميل إلى إتباع عقلية الحرب الباردة الصفرية في صنع السياسة الخارجية وإنفاذها فتركيب نظام ثاد الدفاعي الصاروخي في كوريا الجنوبية بناء على رغبة الولايات المتحدة وهجمات بعض المتشددين في واشنطن على حقوق الصين السيادية في بحر الصين الجنوبي ليست سوي بعض الأمثلة السيئة السمعة للتحقق من القبلية السياسية الغربية المتغطرسة ومشكلة أخرى هي أن النظام قد فشل في عكس الحقوق المشروعة للدول النامية في التنمية والتحديث وقال غريشون إكيارا، المحاضر البارز في الاقتصادات الدولية بجامعة نيروبي، إن النظام الاقتصادي العالمي القائم يتعرض لانتقادات بسبب تدهور الاختلالات التجارية واتساع فجوة الثروة بين الدول المتقدمة والدول الأقل نموا حيث أن الدول الأقل نموا لا تزال الشركاء الأضعف في العلاقات الدولية.

ويرى كوندابالي الهندي إن الترتيب المؤسساتي في فترة ما بعد الحرب يحتاج إلى إصلاح وقال ” نظام بريتون وودز الذي يسيطر على معظم التمويلات للتنمية ومبادئ التنظيم الاقتصادية للمؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية وغيرها لم يتم إصلاحه أو إعادة تنظيمه لتمثيل المشهد العالمي المتغير”.

وهناك الآن إجماع متزايد في جميع أنحاء العالم على ضرورة تحسين نظام الحوكمة العالمي لكي يخدم جميع الدول وليس القوى الغربية فقطومن أجل المساعدة في رسم عالم أفضل للجميع، اقترح الرئيس الصيني شي جين بينغ مفهوم بناء ” مجتمع ذي مستقبل مشترك” ومبادرة الحزام والطريق لترجمة رؤيته وتهدف المبادرة، جنبا إلى جنب مع تأسيس بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية وبنك التنمية الجديد لكتلة بريكس إلى تحديث البنية التحتية ودفع التجارة للدول على طول طريق الحرير القديم وما وراءه وترى بكين أنه من خلال بناء السكك الحديدية والطرق السريعة والجسور والموانئ يمكن ربط أجزاء مختلفة في العالم بشكل أفضل وبالتالي إمكانية تحقيق تنمية أقوى. وهذا أمر أساسي بالنسبة للبلدان في مناطق مثل الشرق الأوسط وإفريقيا لإصلاح مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية المزمنة وتحقيق فوائد لشعوبها وتسعى الصين إلى الانضمام إلى العالم النامي لإدخال تغييرات معقولة على المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لضمان سماع صوتها وحمايتها من المخاطر الحيوية.

وفي المجال الأمني، تؤكد بكين على أن الحوارات وغيرها من السبل السلمية والتعاونية ينبغي أن تكون السبيل الرئيسي لتهدئة البؤر الساخنة في العالم في حين أن الأمن الجماعي لعدد قليل من البلدان، والذي غالبا ما يتحقق على حساب تقويض الدول الأخرى، هو مصدر أذى للأمن العالمي الشامل.

وتسعى الصين أيضا إلى تحمل حصتها العادلة من المسؤولية كدولة رئيسية. وقد تعهدت بالالتزام باتفاق باريس المناخي وأسهمت كثيرا في الحرب العالمية ضد الأمراض الوبائية مثل الايبولا وتعد ثاني أكبر ممول لعمليات حفظ السلام للأمم المتحدة وهناك الآن بعض الأصوات في أوروبا والولايات المتحدة تحث على ضرورة إنقاذ نظام العالم الحر من الهلاك. وفي الواقع، إن ما يريدون الحفاظ عليه هو استمرار أكثر من 200 سنة من الامتياز الغربي للسيطرة على العلاقات الدولية وكما قال الرئيس الصيني في خطابه في مكتب الأمم المتحدة في جنيف بسويسرا في يناير الماضي ” علينا أن نطور الديمقراطية في العلاقات الدولية ونرفض الهيمنة من قبل أي دولة أو عدة دول وأشار إلى أن ” كافة الدول بحاجة إلى المشاركة في رسم مستقبل العالم وكتابة القواعد الدولية وإدارة الشؤون العالمية وضمان نتائج تنموية يتقاسمها الجميع وبالنسبة لايكيارا من كينيا، فإنه يدرك أن إدخال كافة التغيرات الضرورية على النظام العالمي الراهن “ليست مسألة سهلة ولكن الأهم أن” الأمر يتطلب التزاما حقيقيا من قبل معظم البلدان المتقدمة والنامية بدعم الهياكل والمؤسسات الدولية المناسبة وتقاسم الموارد العالمية من أجل المنفعة المشتركة”، كما قال.

.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here