أمريكا والثورة !

أمريكا والثورة !

هناك اعتقاد سائد لدى أغلبية مفكري وكتاب العالم ، وكذلك عام الناس ، بأن الثورة في أمريكا مستحيلة ! هذا الاعتقاد ترسخ في الأذهانحتى بات بدهية لا يمكن الجدل فيها . وبما البديهيات لا تبقى حقائق ثابت لا يداخل الشك ، فقد يأتي يوم ، وإذا تلك البدهية تهاوى ،وتتساقط ، كقلعة من الرمال ! فما أكثر الحقائق والبديهات في دنيا البشر تكشفت بعد حين أنها حديث خرافة ! أوليس خلق العالم من عدموفي سبع إيام ، وخلق الإنسان باحسن تقويم ، ومركزية الأرض ودوران الأفلاك حولها ، وغيرها من البديهيات قد تهاوت في طرفة جفن ما ،ما أن أزاح بعض أفراد البشرية المفكرين الضباب عن عقولهم ومخيلتهم ، ليكشفوا إلى أقرانهم سطوة العادة والتقليد والحس العام علىفكرهم ، التي تجعلهم يعيشون إلى الألف السنين يعشون على اعتقادات لا أساس لها ! كأناس أهل الكهف ، الذين لا يرون من الأشياءسوى ظلالها . أذن ، أليس من حقنا من بعد أن نسأل من أين تولد هذا الاعتقاد في استحالة الثورة في أمريكا ؟ هناك العديد من وجهاتالنظر ، التي تقول باستحالة الثورة في أمريكا ، التي علينا مناقشتها هنا بهدوء . وهذا الهدوء ، الذي نطالب به هنا أن لا نجعل مما يدور فيأمريكا حالياً ، حجة ، وبرهان ، على زيف من قالوا في بعد الثورة في أمريكا ولا معقوليتها . فما يحدث ، الآن في أمريكا ليس ثورة ، ولا شبهثورة ، فهو يحتاج لفترة طويلة حتى تنضج معالمه نحو الثورة أو الحرب الأهلية المدمرة ، ولكن هذا الحدث فقط نبهنا على ، لماذا كنا نسلم معبقية الآخرين في استحالة الثورة في أمريكا ! فالأمريكان ، هم ، أيضاً بشر مثل الآخرين ، ولهم ثوراتهم وحروبهم الأهلية ، فما الذي يحولدون قيام الأمريكان بثورة ؟ لنحاول زحزحة تلك البديهات عن أماكنها ، لعلها ما يثوي تحتها !

(١) وفي البدأ علينا ، إذا أردنا أن نناقش الأمور بموضوعية ، أن نعمل على تبديد كثير من الأساطير الحديثة. فقد خلق في نهاية القرنالعشرين كثير من الأساطير ، التي إشاعة الخيبة في نفوس البعض ، والراحة والطمئنية عند البعض الآخر . ولعل من اشهر هذه الأساطير، هي نهاية التاريخ ، التي صدقها الكل فوراً وبلا جدل جدي . فبعد ، أنهيار المنظومة الاشتراكية وإلا تحاد السوفيتي . ذلك القطب ، الذيكان يعود في اكتساح العالم وتحويل الأرض إلى جنة موعودة . فقد فسر هذا السقوط المدوي ، على نهاية لكل أمل ، في بناء عالم يخالف ماهو موجود وما هو راسخ ، وأن الجنة يجب أن تقام من رحم المجتمع الرأسمالي ، الذي يلائم الطبيعة البشرية . فصراع السيد والعبد ، الذيقال به هيجل أنتهى في أبدية سيطرة السيد على العبد ، ونظامه الايبريالي . هذا الأسطورة التي أريد منها وقف عجلة التاريخ عن دوران ،يبدو أنها استغلت فكرة هيجل عن تطور الروح وبلوغها نهايتها في الدولة البروسية سابقاً . فنهاية التناقضات في منطق هيجل كان محتوممنذ البداية ، لان هيجل كان يروي قصة الروح ، التي هي في الحقيقة قصة الله ونهايته أو موته ، والذي من عند هذا النقطة ، تبدأ أيضاًقصة الإنسان وتحرره ، عن طريق التناقضات ، فنفس الديالكتيك هو الذي يحرك كل من الله والإنسان ، ولكن أصحاب نهاية التاريخ روىقصة الله وأهملوا قصة الإنسان التي لم تصل بعد إلى اختتمتها . فتاريخ الإنسان لم يختم بعد ، وهو ما زال حافل في المفاجاءات . فموتالله أو تجليه ، في التاريخ ، كان البداية ، وليس الختام لتاريخ البشرية .

(٢) والأسطورة ، الآخر التي علينا تفكيكها ، وتبين اصلها ، وكيف تكونت ، فهي ، كذلك ، تستمد وحيها من نفس المصدر ، الذي صدر عنهأسطورة نهاية التاريخ ، من هيجل ، وأسطورة بلوغ الروح نهايتها ، وتحول الله إلى إنسان . ولكن ، هؤلاء ، ينسون أن هيجل لم يقل عنالإنسان ، سوى ، أنه ، بنى دولة عقلانية ، تحترم فيها حرية الإنسان وكرامة ، كما نادت الثورة الفرنسية بذلك . فهو لم يقل بأن الإنسان بلغنهاية المشوار ، وإنما فقط بدأ يصنع تاريخه بعيد عن العناية الإلهية . لذا ، فالديالكتيك مازالت مكانته تعمل ، ومن الممكن أن يظهر جديدتحت الشمس . فاسطورة نهاية الثورة أو عهد الثورات ، هي جزء من أيدلوجية نهاية التاريخ ، لأن كما يقول ماركس الايدولوجية السائدة هيأيدلوجية الطبقة السائد ، فالطبقة التي إنتصرت في صراعها مع الفكر الاشتراكي ، هي الطبقة الحاكمة ، في العهد الايبريالي ، منمصلحتها أن تروج لهذه الأسطورة . أي نهاية عصر الثورة ، وعليه نحن نفهم ، مرحلة لانتصار المؤقت ، للرأسمالية ، ليس على أنه ، نهايةالصراع وتوقف التاريخ عن التقدم . ولكن ، على أنه ، كان من سوء حظ الاشتراكية ، تبنى في بلد متخلف ، ولم يبلغ مرحلة النضج ، التيتساعد في نجاح الثورة . فبحسب ماركس أن الثورة الحقيقيته ، لا تحدث إلا متى ، أصبحت علاقات الإنتاج عائق أمام تقدم قوى الإنتاج ،كما حدث مثلاً في المجتمع الإقطاع حينما وقف علاقات الإنتاج بوجه تطور القوى النامية في رحم المجتمع الاقطاعي أمام قوى الحرفينوالمنفكتوريات . فالبروتاريا الروسية لم تطور في تفكيرها وعدتها بمستوى البروتاريا الإنكليزية أو الأمريكية ، المرشحة لثورة ، ولكن غيابالعامل الذاتي حال دون ذلك .

(٣) ويمكننا الآن بعد ، ، فيما يبدو لنا ، فتحنا ثغرة بجدار في نهاية التاريخ ، وقررنا بإن الديالكتيك ، أو التغير ، ما زال ساري ، وأنه النهر التغير لم يتوقف جريانه ، منذ أن قال هيرقليطس بأن الثابت الوحيد في هذا الكون هو التغير . اصبح من حقنا مناقشة أطروحة ، أمكانيكةالثورة في أمريكا ! ولكن علينا أولاً ، أن نظر في هذا الاعتقاد ، الذي جزم في أستحالة الثورة في أمريكا ، ومن أين نبع ولماذا ترسخ بهذهالقوة ، حتى بات من أصلب الحقائق ! فامريكا بلا شك تخضع بنيتها وتركيب نظامها للقوانين الاقتصادية ، وليس فوقها ، ولكن هذا القوانينيمكن تعطل أو يتأخر فعلها ورد فعلها إذا تدخلت عوامل ومعرقلات في مسيرتها ، بيد أن تلك القوانين تعاود تأثيرها وعملها إذا زالت تلكالمعوقات . فهذا القوانين موضوعية وحتمية وليس من صنع أحد ، بمعنى أنها نتيجة أو تعبير عن أرادات متضاربة ومتناقضة لحركة السوق . وأمريكا ، خضعت في حياتها لهذه القوانين ، عبر عنها في الكساد العظيم والأزمات المتتالية التي أصابت البلدة . غير أن الرأسمالية ،بشكل عام ، رالامريكية ، بشكل خاص ، عرفت بالحيوية والإصلاحات الكبيرة والتحسينات ، وكذلك مرت في أطوار من التطور ، ساعدتبشكل كبيرة في دفع عجلتها إلى الإمام ، خصوصاً في المرحلة الإمبريالية أو الاستعمارية . مما ساعد في تهدأت التناقضات الداخلية ،الذي يقال بأنها عرقل لوصولها لمرحلة التفجر . فالرأسمالية مرت في في مراحل من لازدهار والنمو ، عملت على تذويب الحماس الثوري لدىطبقتها العاملة ، وبل وحتى برجزتها . وصلت إلى حد أقامت مجتمع الوفرة والبحبحوة الاقتصادية، وألغت الفقر بشكل المتعارف عليه سابقاً. وتحول مجتمعها كما يصف أحد المفكرين ، هربرت ماركوس ، إلى مجتمع أحادي البعد . وأن طبقتها البروتاريا لم تعد ثورية ، واندمجتفي المجتمع الرأسمالي ، وبذلك فقد هذا المجتمع العامل الذاتي في الثورة . ولم يبق ، حسب ماركوس نفسه ، من يتمتع بالحس الثوري سوىالمهمشين والطلبة وحفنة من المفكرين ذي الأصول البورجوازية . وهذا الوصف الذي قدمنا هنا كان ، يعد من الحقائق الدامغ عن المجتمعالأمريكي ، ولا أمل في أن تتحول قلعة الرأسمالية لبلد ثوري بالمعنى الاكلاسيكي .

(٤) وإذا ما قلناه ، هو صحيح تماماً ، في الفترة السابقة ، فما الجديد الآن ؟ الجديد ، هو تبنين لنا أن الديالكتيك ، ما زال يعمل في قلبالأشياء ، ويسري في كل مفاصل العالم ، وفي النظم الاجتماعي ، وان من تخدر حواسهم الفكرية على مقولة نهابه التاريخ وقف عجلاته عنالدوران ، أخذ الضباب ينقشع عن اعينهم ، وتبددت خرافة نهاية الثورات ، وتضحه بأن مازال ثمة ممكن في تغير ، وأن العالم ما زال غضوطري وحافل في المفاجاءات . فمثلما باغت سقوط الاتحاد السوفيتي العالم وصدمه ، فقد يباغت العالم ويذهل في اندلاع الثورة بأمريكا ! ولا يأخذ احد علينا ، بأننا نجعل من الحيه كبه ، ونبي قصور في الهواء ، فالمفكرون المعاصرون باتو ، اليوم ، لا يرون ، أن الثورة تحدثبعامل اقتصادية ولعمال أقتصادي فقط ، وأنما تحدث أيضاً ، لعامل معرفي وبسبب تطور الوعي ، فما عادة البنية الغوقية ، مشروط فيالبنية التحية ، فقد استقل الوعي بدرجة كبير عن مشروطية البنية التحية ، نتيجة التراكم المعرفي والعلمي ، فيمكن الان أن تحدث ثورة فيعصر الوفرة ، بعد أن يتبين عدم أنسجام العلاقات بين البشر مع التطور الذي هم فيه ، وهذا ما نراها لآن يحدث في أمريكا عن سوء العلاقةبين مواطنيها البيض والسود .كما قلنا ، أننا نناقش فقط احتمال وإمكانية الثورة في أمريكا بشكل مجرد وتظرياً ، ولا نعلق على ما يحدثالآن أي أمل ، لاننا نحب أن نتسأل فعلا ، ماذا ، يحدث ، لو حدثت ، بقدرة قادر ، واندلعت الثورة في أمريكا ، والتي تتوفر فيها كل الظروفالموضوعية للثورة ، كما يشترطها ويحددها المنظورين الاكلاسيكيون ؟ فهي بالتأكيد سوف لن تصادف العقبات التي وضعت أمام الاتحادالسوفيتي ، ولن تواجه بحصار أقتصادي ، وهي أضاف لكل مميزاتها ، أعني أمريكا ، بلد عريق في الديمقراطية ، فلن تنتج دكتاتور ، مثلستالين ، فهل ، من ثم ، سيتهاوى العالم كله كقطع الدمينو ، وينقلب رأساً على عقب ، وتقتفي بقية الدول خطاها ، ويكون العالم قد بلغمرحلة أهداف التنوير من حرية وأخاء ومساواة ، بدل من يكون دول متحاربه وثورات مضادة يحوكها البعض ضد الآخر . هذا الحلم الذيداعب مخيلة الفلاسفة والمفكرين ، بعالم واحد ، يغدو حقيقة واقعة حية ، حين تحدث لثورة في الولايات المتحدة ، فأمريكا الآن هي قلب العالموعقله المفكر ، وإذا ، وبمصادفة عجيبه ، وبفلته من فلتات التاريخ تحقق الغير مفكر به ، والذي يبدو لا معقول في زمننا ، نكون قد دخلنامرحلة جديدة كلياً ، وفارقنا ، مرحلة السيد العبد .

هاني الحطاب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here