الأصلية
في ظلال آية المحارب
الحلقة الثانية
ولازال الكلام عن مفهوم – الفساد في الأرض – ، وفي سياقه المتصل نقول : يتحدث المنطق الأرسطي عن وجوب التمييز بين الفعل والأمر به ، أي إن التمييز يجري في الحكم كما يجري في الموضوع ، وبناءاً على هذا يمكننا القول إنه : أبداً لا تصح المساواة بين من فعل الفساد وبين من أمر به ، إذ لكل منهما حكمه المعين المستقل بذاته ، ويدفعنا هذا الإستنتاج للإيمان بأن موضوعة القتل المادي شيء والقتل المعنوي شيئ أخر .
طبعاً هذا يقودنا للإعتراف بصحة موضوعة – تحديد العناوين – ، فالتحديد سيسهل علينا فهم وإدراك الأولويات ، وكذلك يسهل علينا طرق المعرفة ، ويسهل علينا معرفة المواقف الصحيحة من الأحكام في الأشياء والقضايا ، وفي هذا الصدد تذكرنا الأحداث والتاريخ بنمط من الحكام المستبدين والدكتاتورين الذين فاقت جرائمهم حدود الوصف أو متعلقات الحدود الممكنة للعقوبات الدنيوية ، ولذلك تبدو الإحالة إلى العذاب الأخروي عاملا نفسياً مساعدا و مضافاً للعذاب الدنيوي ، وجدلية الجريمة والعقاب جدلية موضوعية تحدث عنها ديستوفيسكي ذات مرة بروايته الشهيرة ولكن من وجهة نظر مغايرة ، لكن الإحالة للعذاب الأخروي ضابطها الإيمان باليوم الآخر وبانه المستقر الأبدي ، والإيمان بذلك من لوازم و عناصر القوة لدى المؤمنين ، وبما أن الأمر يتعلق بالإيمان فهناك ثقة معنوية إذن : وبإن الأشخاص المستبدين الظلمه لا بد لهم من نهايات سود ، وهذه الآمال العريضة نسقها حكماً على مستبدين طغاة في التاريخ القديم والحديث ، منهم الوالي الأموي الحجاج بن يوسف الثقفي و الزعيم النازي أدولف هتلر و ملك المغول جنكيزخان وأخرين تُبع ، وهؤلاء تاريخيا تسببوا في قتل المئات بل الألوف من الأبرياء ، والموت لهم توكيد ورجاء وأمل من المؤمنين بأن ينالهم العذاب العظيم الذين توعدهم الله به ، وهو عذاب أخروي شديد وطويل وخالد ، قال تعالى : ( ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) ، والإستغراق اللفظي في وصف العذاب بالعظيم يوحي لنا بمحدودية العذاب الدنيوي ، نعم لا يجب التقليل من أهمية ذلك ، ولا الإدعاء بإن المهم هو إقامة العدل في الدنيا ، بل هما معاً يكملان بعضهما البعض الأخر ، ولقد قدم لنا الله مجموعة من الأمثلة في صيغة بيانات توضيحية على ذلك .
وللتذكير:
وسنعود لصلب الموضوع بعد تلك المقدمة ونقول : – إن مبدأ التناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب ضرورياً في كل الحالات – ، وهذا التوكيد العملي يوجهنا للتساؤل الشفوي : ماذا لو أرعب أحدهم وأخاف الناس ولكن دون ان يقتلهم أو يسلب ممتلكاتهم ؟ ، فهل تكون عقوبته الدنيوية كافية في رفع العقوبة الأخروية ؟ ، أم إنه يظل مشمولاً بقوله تعالى : ( ولهم في الأخرة عذاب عظيم ) ؟ ، وفي هذه بالذات يلزمنا المراجعة والتثبت لما قلناه عن : إن – آية المحارب – وحكمها ومفهومها مطلقين عامين ، ولكن هل لهذا الإطلاق أو لهذا العموم أثرا على الحكم في الأخرة بعد عقوبة الدنيا ؟ ، التصريحات في الكتاب المجيد تقول : إن الملاك في رفع العقوبة أو إبقائها هو – بالتوبة – ، والتوبة الخالصة بحسب تلك التصريحات رافعة للعقوبة في الدنيا والأخرة ، أي أنها الشرط الموضوعي في رفع العقوبة في الدنيا وكذلك في الأخرة ، والتلازم بين التوبة والرحمة من موجبات صفات الله الإيجابية ، ومن متطلبات الرحمة التجاوز عن الأخطاء بعد الإعتراف بها والتبرؤ منها ، وقد شاع في الأثر – إن مغفرته سبقت عذابه – وعلى هذا أكد النص التالي : ( إن الله يغفر الذنوب جميعاً ) .
قاعدة التعارض :
التعارض من عرض تعارضاً معارضة ، وهو المخالفة وقيل بل هو التناقض و التقابل إن كان ذلك مصدرا ، قيل : ولا يكون التعارض إلاَّ بين دليلين أو بين حجيتين ، و معارضة على وزن مفاعلة والتي تكون في المواقف العامة أو الخاصة ، وعن التعارض في مسألتنا إليكم المثال التالي :
1 – سئُل الإمام الصادق عن كيفية تطبيق العقوبات ، قال : – ذلك إلى الإمام إن شاء قطع ، وإن شاء نفى ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قتل – وسائل الشيعة ج18 ص 533 ، أي ان الامام هو من يختار نوع العقوبة ومن دون النظر الى نوع الجريمة !! .
2 – وفي خبر أخر عن عُبيدة إنه لما سئُل الإمام الصادق عن شرط التناسب بين الجريمة والعقاب ، قال : – ليس أي شيء صنع ، ولكنه يصنع بهم على قدر جناياتهم ، فمن قطع الطريق قتل ، ومن أخذ المال قُطعت يده ورجله وصُلب ، ومن قطع الطريق فقتل ولم يأخذ المال قُتل ، ومن قطع الطريق فأخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله ، ومن قطع الطريق فلم يأخذ مالاً ولم يقتل نُفي من الأرض – وسائل الشيعة ج18 ص 534 ، يعني ان الامام ليس مخيراً في العقوبات ، وإنما العقوبات تجري وفقاً لنظام التناسب بين الجريمة والعقاب .
ولكن قد يتوهم المرء فيظن للوهلة الأولى إن هناك ثمة تعارض بين الخبرين ، ولكن مع التدقيق يتبين أن ليس بينهما أية تعارض ، وإنما هناك ترجيح في المقام لبعض الأخبار على بعض ، وفي هذا الباب تطالعنا صحيحة بُريد بن معاوية حيث يقول : – سألت أبا عبدالله عن قول الله عزوجل ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله .. ) ، قال : ذلك إلى الإمام يفعل ما شاء ، قلت : فموفض ذلك إليه ؟ ، قال : لا ، ولكن نحو الجناية – الوسائل ج 18 ص 533 ، وفي هذا الخبر هناك أحتمالين متغايرين :
الأول : يقول ان الإمام أو القاضي هو صاحب الإختيار في تطبيق أحكام العقوبات .
والثاني : يقول ان الإمام ليس هو صاحب الإختيار في تطبيق أحكام العقوبات و على نحو مطلق ، بل إنه مكلف باختيار نوع العقوبة المناسبة لنوع الجريمة ، وهذا يعني ان المفهوم الثاني يكون شارحاً ومقيداً للمفهوم الأول ، ولا معنى للقول بالتعارض بين المفهومين وذلك بسبب وجود القرينة الدالة و المتصلة بالمفهوم الأول ، وفي حال وجدت ( القرينة المتصلة ) بين هذين المفهومين أنتفت الحاجة للتعارض من رأس ، وهذه الحالة يطلق عليها الأصولي أو يُشبهها بالقول الآتي : – بالتعارض الأبتدائي الذي هو كالتعارض بين العموم والخصوص – ، ولا يُعد التعارض الأبتدائي تعارضاً في الأصل .
وإذا ثبت التعارض بين الأخبار فلازم ذلك العمل بمبدأ الترجيح بينهما لرفع ذلك التعارض ، وان كان ذلك ولا بد ، فيجب ترجيح الأخبار الدالة على التناسب بين الجريمة والعقاب على تلك التي لا تقول بذلك ، ودليلنا على ذلك مايلي :
أ – إن نسبة الأخبار الدالة على التناسب بين الجريمة والعقاب أكثر عدداً وأقوى حجة ، على عكس تلك الأخبار التي لا تشترط التناسب بين الجريمة والعقاب والتي هي أقل عددا وأضعف حجة ، ومن بين أخبار التناسب هذه لدينا خبر بُريد بن معاوية وخبر عبيدة وخبر داوود الطائي وخبر أحمد بن فضل الخاقاني ، وأما الأخبار التي لا تقول بالتناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب فهي :
أولاً : لم تنف التناسب في الأصل .
وثانياً : إنها لم توضح معنى الإختيار على نحو دقيق ، بل جعلته مبهماً .
ب – كذلك و يرجح مبدأ التناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب العدل و مقتضاه ، الوارد في قوله تعالى : – إن الله يأمر بالعدل – النحل 90 ، على سبيل الندب والإحاطة والأستحباب ، فالجرائم ان لم تطبق عليها العقوبات وبشكل صارم بتناسب فيها بين العقوبة و الجريمة من حيث الحجم والنوع والكيفية والطبيعة ، تتعرض المجتمعات والأمم إلى تجاوزات متعمدة وصريحة عمدية من قبل المجرمين وعلى نطاق واسع ، وقديماً قيل : ( من أمن العقوبة أساء الأدب ) ، فالعقوبة رادعة وفيها صيانة وحماية للمجتمع ، و خوف المجرمين من العقوبة ضمانة أكيدة لحماية المجتمع وحقوقه .
ج – كذلك ومن لوازم العقل الفطري الطبيعي السليم التناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب ، وقد عُرف العقل الفطري السليم : بأنه ذلك العقل الذي يستجيب للفعل الصالح والعمل به ، وكذا هو من يستمع للقول الحسن ، قال تعالى : – فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه – الزمر 18 .
د – إن عدم إعتبار التناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب وترجيحه و تبنيه ، عملية سلبية جرت على يد بعض التابعين تمشياً مع روح السياسة التي كانت سائدة آنئذاك ، ومن بين هؤلاء : أبي ثور ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، والحسن البصري ، والضحاك والنخعي وابوا الزناد وداوود – المغني لأبن قُدامه ج 10 ص 305 ، وتبعهم على ذلك نفر من الفقهاء منهم : الشيخ الصدوق في المقنع والهداية – الجوامع الفقهية ص 62 ، والشيخ المفيد في المقنعة ص 129 ، وسالار عبد العزيز في المراسم ، وأبن أدريس في السرائر ج 3 ص 507 ، والمحقق الحلي في الشرائع ص 356 ، والعلامة الحلي في المختلف ص 779 ، و هؤلاء جميعاً لم يلتزموا بالتناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب ، وهم في ذلك قد خالفوا صريح الكتاب والعقل .
وأما دليلنا على الإلتزام بالتناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب فهو مايلي :
1 – ما ورد في صحيح بُريد بن معاوية و عُبيدة وداوود الطائي وأحمد بن فضل الخاقاني وغيرهم ، ممن نفوا صراحة الإختيار و قالوا بالتناسب ، وهذا يدل على أن الإختيار حجته ضعيفه ودليله ركيك ، أو إنهم لم يقفوا عند هذه الأخبار ويدققوا في معناها ، ولم يؤلوها كثير أهتمام .
2 – والعقل الفطري يحكم بالتناسب ، وهو في ذلك ينفي الإختيار االذي تترك فيه الأحكام تبعاً لرأي القاضي يفعل بهه ما يشاء و وفقاً للمؤثرات الخارجية والثانوية .
3 – ثم إن الأصل الأولي من تشريع العقوبات هو من أجل حماية المجتمع والنظام ، وتلك هي الأولوية بالنسبة للعدالة وقيمها ، والعدل صفة إيجاب دعانا الله للتمسك بها حيث قال : – إن الله يأمر بالعدل – .
4 – والقيمة المعيارية في تطبيق الأحكام هو الحجة الغالبة فيها ، وليس هو المؤثر الثانوي وليس قول الأكثرية مهما علا هنا وفي كل مقام ، قال تعالى في نبذ التمسك بالأكثرية ( وأكثرهم للحق كارهون ) ، وما يعول عليه في هذا الشأن هو الدليل المحكم الثابت الموافق للكتاب والعقل .
ملاحظة
في باب التعارض يذهب البعض تبريرا ، للقول عن كيفيات إفتراضية لرفعه ، كقولهم : إنما يرفع التعارض بين الأدلة حين يُترك الإختيار للقاضي ، مع شرط إختيار الخبر أو الدليل أو الحجة المناسبة في تطبيق الحكم .. ، وهذا يعني الإعتماد على رأي القاضي في إنتخاب الحكم المناسب ، ولكن إعتبار رأي القاضي حجة من غير مجوز شرعي وعقلي يُعد مخاطرة ، ذلك إن الأصل في الأحكام ليس تابعاً لإختيارات القاضي ، بل المعول عليه هو في كون الحكم في الأصل قائم على الدليل الثابت المحكم ، والدليل هو الحجة وليس الرأي المجرد أو المبني على الرغبة الوقتية ، وخلاصة الكلام في أصل التعارض هذ هو : ( عدم صحة القول بالإطلاق في اعتماد اختيار القاضي كنوع للحكم دون مراعاة لنوع الجريمة ، ولأن ذلك مخالفاً للأخبار الصحيحة كما ان الإعتماد على طرفاً من الأخبار دون الأخذ بعين الإعتبار الطرف الثاني ، ترجيح بلا مرجح وهو مخالفة لصريح الكتاب وصريح العقل ، وبالتدقيق والنظر : يظهر إن بعض الأخبار كُتبت في ظل الخوف و الخشية أو من باب التقية ، وفي هذه الحالة تسقط من الإعتبار والحجية ) .
تنبيه :
وفي هذه الحالة إذن لندع المراوحة جانبأ ، ولندع تحميل النصوص إفرازات الزمان والمكان غير المنطقية ، ولندقق في الخبر من حيث الصدور ، ثم نحكم عليه وفقا للمعايير والضوابط المقررة ، وليس تبعاً لواقع الحال أوغضاً للطرف !!! ، ويجب التنويه على أصالة إرادة الإختلاف في المسائل الفقهية وإن كلف ذلك الدخول في الممنوع ، ذلك أن الإختلاف أساسي في بناء القضايا الفقهية إلاَّ ما خالف الدليل والفهم ، و لا ضرر في ذلك ولا ضرار طالما يريد الفقيه الصواب و مرضاة الله ، والقضية المختلفة من حيث المبدأ : هي القضية المختلف فيها في معظم العلوم و الفقه خارجا عن تلك القاعدة ، وهذه القاعدة طبيعية لا تثير الفتنة والفزع والمناكفة ، وبالتتبع في تاريخ الفتاوى والأحكام نجد في قراءتنا لكثير من فتاوى الإمام أبي حنيفه أنها تختلف مع فتاوى الشافعي في المسألة الواحدة ، وهكذا الحال بالنسبة للشافعي مع المالكي ومع أبن حنبل لا ضير في ذلك ولا ضر ر ، وفي مجال الضبط والتوكيد ورد مرويا عن الامام الصادق قوله – خذ بما وافق الكتاب – ، وهو في ذلك إنما يريد تحقيق الصحة والموافقة التامة للدليل .
التوبة :
التوبة : من فعل تاب إذا رجع وأناب عن الخطأ والذنب ولا تصح التوبة من غير الإعتراف ، ولا تصح التوبة إلاَّ عن وعي وعن إدراك وعن عقل ، ولكن هل تترتب على التائب عن الخطأ أحكام العقوبات أم لا ؟ ، هذه القضية جدلية أعني قضية التوبة ، إذ فيها تتداخل المواضيع من جهة ( الحقوق العامة والحقوق الخاصة ) ، ولكل من هذه الحقوق متعلقات لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها ، فهناك مثلاً :
المتعلق الأول : والذي يُطرح بصيغة سؤال إنكاري وعلى هذا النحو التالي : هل التوبة تُقبل من قبل التمكن من المجرم والإمساك به أم لا تُقبل ؟ ، ولكن هذا السؤال يمكننا طرحه على نحو ثاني : ما هي الجرائم التي يتم العفو عنها عند التوبة ؟ ، هل هي تلك الجرائم التي تتعلق بالحق العام أم تلك التي تتعلق بالحق الخاص ؟ ، فمثلاً المجرم الذي يروع الناس ويخيفهم ويبيع الممنوعات والمخدرات على الناس ، فهل التوبة تقبل منه مثلا ؟ ، مع ان الكتاب المجيد يعتبر هذا الشخص داخلاً في العنوان العام لمعنى – المفسدون في الأرض – ، ولكن الكتاب المجيد في الوقت نفسه أعتبر التوبة تخصيصاً للعموم : فقال : – من تاب قبل التمكن منه والقدرة عليه فإن الله يتوب عليه – !! ، ولكن ماذا عن الأثر الموضوعي الذي يُحدثه الفساد في المجتمع ؟
بحسب المنطق الطبيعي يعتبر تطبيق الأحكام والقانون ضرورة من أجل حماية المجتمع هذا أولاً ، وثانياً يجب ان ينظر إلى تطبيق القانون كحد وكفاصل وكعبرة لمن يحاول الإفلات من العقاب ، ولكن أليس في ذلك توهينا لمهمة التوبة التي تكون مجزية عن تطبيق القانون ؟ ، فالتوبة إجراء عملي لتشجيع المجرمين الأخرين والمترددين للإسراع والرجوع إلى المجتمع والإنصهار فيه من جديد ، والرأي الراجح عندي هو في النظر بعمق لما يحقق المصلحة والفائدة العامة للمجتمع ، لأن ذلك الأصل الأولي في تأسيس القانون والعقوبات والجزاءات :
المتعلق الثاني : ورد بصيغة سؤال أفتراضي : ماذا لو أن شخصاً تاب من قبل ان يقدروا عليه ولكن ثبت بذمته الحق العام والحق الخاص ؟ !! ، يعني أن هذا الشخص قد مارس الإرهاب والقتل والسلب والنهب وقطع الطرقات ، فهل يسقط عنه الحق العام أم يظل معلقاً بذمته ؟ ، وماهو الموقف من قوله تعالى : – إلاَّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا إن الله غفور رحيم – ، فهل إن هذا النص قد أخذ بعين الإعتبار الحق العام ؟ ، ومع ذلك أسقط العقوبة لبراءة الذمة مع التوبة مما علق بها من جرم أو ذنب !! ، في القانون المدني يعتبر ممثل الإدعاء هو الحكومة نيابة عن الشعب بإعتبارها هي الولي عنه في المرافعة والدفاع عن الحق العام ، واذا سقطت العقوبة مع التوبة سقط الحق العام كذلك ، طبعاً هذا مع فرض سقوط الحق الخاص بالتنازل أو بالهبة أو بالدية ، وفي هذه الحالة تسقط العقوبة من رأس أي لا عقوبة أصلاً ، مع التأكيد على إرجاع ما في الذمة من جهة المجرم لمن أرتكب بحقهم الجرم ، فالمال يجب إعادته بطريق ما ، والقتل إن لم يطبق بالقصاص فتكون الدية عوضاً لذلك وهكذا .
المتعلق الثالث : في حال عدم توبة المجرم قبل التمكن منه ، والجريمة لا تتعلق بالحق الخاص وإنما تتعلق بالحق العام ، فهل يجب في هذه الحالة تطبيق العقوبات أم لا ؟ ، وهل يجب التمسك بالقول الدارج إنه مادامت الجريمة لا تتعلق بالحق الخاص فلا يجب تطبيق الأحكام والعقوبات ؟ ، منطلقين في هذا من التمسك بروح العدالة وأحكام الرحمة !! ، وهذا كله كما أفترضنا أن التوبة تمت بعد الإمساك به والتمكن منه ، ونقول : إن التوبة اللاحقة لا تغير من الحكم شيئا ، وإنها في الأصل لا قيمة لها من الناحية القانونية والشرعية ، ومع ذلك نقول : إن رعاية المصلحة العامة مهمة في كل حال ، والنظر لذلك يحدده الواقع وما يترتب عليه من أثار ونتائج .
المتعلق الرابع : وهو كذلك في حال عدم توبة المجرم قبل الإمساك به والتمكن منه ، ولكن الجريمة التي قام بها لها أثراً من الناحيتين العامة والخاصة ، وفي هذه الحالة نقول كذلك بوجوب تطبيق العقوبة ، ونقول أيضاً : التوبة لا أثر لها في تطبيق العقوبة على الحق الخاص وسواء أكانت قبل التمكن من المجرم أو بعد التمكن منه ، وقد قلنا : إن كانت الجريمة تتعلق بالمال والغصب فيجب أرجاع الحقوق لمستحقيها ، وإن كانت الجريمة هي القتل فالقصاص أو الدية هي التي تسقط الحق الشخصي ..
مثال :
يُحكى أن شخصاً أسمه – الحارثة بن زيد – عاش في زمن الإمام علي ، وكان هذا الشخص ممن يصدق عليه معنى – المفسدون في الأرض – ، فلم يترك عملاً قبيحاً إلاَّ وفعله ، ويروى إنه مر بالإمام الحسن طالباً التوسط منه لدى الإمام علي بعد أن أعلن توبته والبراءة من أفعاله القديمة ، ولكن الإمام الحسن رفض التوسط فيه لدى أبيه أمير المؤمنين ، ولكن هذا الرجل لم يكل ولم يمل فذهب عند سعيد بن قيس الهمداني ( كان من كبار رجال التابعين وصاحب رآية همدان في معركتي الجمل وصفين ) ، الذي آواه وسمع منه مقالته ، وعزم التوسط إليه عند أمير المؤمنين ، فذهب سعيد بن قيس عند أمير المؤمنين وسأله :
يا أمير المؤمنين : ما حكم من حارب الله ورسوله ؟ .
فقال الإمام إنما حكمه ، قول الله تعالى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا … إلى أن وصل إلى قوله تعالى : – إلاَّ الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم ) .
فقال سعيد : وهل يشمل ذلك أيضاً الحارثة بن زيد ؟
فقال الإمام : نعم حتى الحارثة بن زيد إن تاب توبة نصوحا .
فقال سعيد : فهل توبة الحارثة من قبل التمكن منه دافعة للعقوبة ؟
قال الإمام : نعم هي كذلك .
فذهب سعيد بن قيس إلى الحارثة بن زيد ، وأتى به عند امير المؤمنين فبايعه على السمع والطاعة ، وكتب له الإمام عهداً فيه الأمان والعفو ..- تفسير الطبري ج6 ص 221 .
وهنا نسأل : هل عهد أميرالمؤمنين للحارثة هذا قد أخذ بعين الإعتبار الحق الشخصي الخاص أم لا ؟ ، لأن عهد الأمان براءة للذمة من العقوبة وتنزيه للمجرم من الجناية ، ولا يصح إعطاء مثل هكذا عهد من دون النظر في الحقوق الخاصة ، وهذا الأمر فيه إحتمالين :
الأول : إما ان لا يكون الحارثة قد أرتكب شيئا من الجرائم الخاصة مطلقاً .
والثاني : وإما إن يكون أصحاب الحق الخاص الشخصي قد تنازلوا عن حقهم بالصلح أو بغيره ، مما يكون قد رفع عنه متعلق الحقوق التي في ذمته .
وفي هذه الحالة يكون المتبقي هو الحق العام الذي يحق فيه للإمام بإعتباره الحاكم أن يعفو طالما يجد في ذلك مصلحة وضرورة عامة .
في ظلال أخبار آية المحارب :
يُطالعنا الكُليني في الكافي ، والطوسي في التهذيب ، بخبر مروي على هذا النحو : – عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن يحيى وفي التهذيب عن عبدالله بن المغيرة ، عن طلحة بن زيد قال : سمعت أبا عبدالله الصادق يقول : ( كان أبي يقول : – إن للحرب حكمين :
الأول : إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها ولم يُثخن أهلها ، فكل أسير أخذ في تلك الحال ، فإن الإمام فيه بالخيار إن ّ شاء ضرب عنقه ، وإنّ شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم ( قطع ) ، وتركه يتشحط في دمه حتى يموت ، وهو قول الله عز وجل : (( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فساداً ، أن يُقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم )) المائدة 33 ، ألاَّ ترى إن المُخير الذي خير الله الإمام على شيء واحد وهو القتل ، وليس هو على أشياء مختلفة ، فقلت لأبي عبدالله : قول الله عزَ وجلّ : – أو ينفوا من الأرض – ، قال : ذلك الطلب ، ان تطلبه الخيل حتى يهرب ، فإن أخذته الخيل حكم عليه ببعض الأحكام التي وصفت لك ) .
والثاني : ( إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها فكل أسير أخذ في تلك الحال ، فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار ، إن شاء منَّ عليهم فارسلهم ، وإن شاء فاداهم أنفسهم ، وإن شاء أستعبدهم ، فصاروا عبيداً ) – الكافي ج5 ص32 ، والتهذيب ج 6 ص 143 ..
هذا الخبر يتحدث عن المحارب كمقاتل في ساحة المعركة ، وظاهر كلامه إنه قتال بين مسلمين وكفار ، مع إن الخبر لم يذكر الكفار بشكل واضح وصريح ، ولكن هذا ما فهمه الفقهاء من الخبر ورتبوا عليه أثار وتبعات ، منهم الشيخ الطوسي في المبسوط ج2 ص20 ، وأبن أدريس الحلي في السرائر ص 158 ، والمحقق الحلي في الشرائع ص 90 ، وبناءا على ذلك كتبوا وأفتوا حول الأسرى واحكامهم ، فقد أعتبروا ان التقسيم الأولي لأحكام الأسرى إلى نوعين ناتج عن قوله ( إن للحرب حكمين ) من قبل أن تضع الحرب أوزارها ومن بعد ذلك ، ففي الحالة الأولى كان الحكم عندهم هو قتل الأسرى جميعاً ، وأما بعد أن تضع الحرب أوزارها فهناك سلة من التطبيقات مررنا عليها في الخبر ، ومع الإستدراك حول معنى ( أو ينفوا من الأرض ) ، قال يطاردهم الإمام بالخيل ثم يرى فيهم رأيه !! .
ملاحظة
من المبادئ الأولية في عملية إثبات الحكم الفقهي التحقق من صحة السند وخلوه من الشوائب ، حتى يكون الخبر مقبولاً ويمكن النظر فيه والإستئناس به ، وبحسب معلوماتنا في علم الرجال يظهر أن :
1 – الراوي الأول للخبر : – محمد بن يحيى العطار القمي كان ثقة – .
2 – الراوي الثاني للخبر : – أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي كان ثقة كذلك – .
3 – الراوي الثالث للخبر : – مشترك بين محمد بن يحيى الخثعمي أو محمد بن يحيى الخزاز وكلاهما كانا من الثقات – .
4 – االراوي الرابع للخبر بحسب رواية الطوسي هو عبدالله بن المغيرة وهو من أصحاب الإجماع كان ثقة معتبرا .
كل هؤلاء رووا عن طلحة بن زيد النهدي الشامي الذي قال فيه وعنه أصحاب التراجم والرجال مايلي :
أ – قال عنه أبن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل : – إنه ضعيف الحديث منكر القول – الجرح والتعديل ج 4 ص 480 .
ب – وقال عنه ابن حبان في المجروحين : – منكر الحديث لا يحتج به – .
ج – وقال عنه محمد بن اسماعيل البخاري : – منكر الحديث – التاريخ الكبير ج4 ص351 البخاري – .
د – وقال عنه الدارقطني صاحب السنن : – إنه ضعيف – تهذيب التهذيب للعسقلاني ج5 ص 16 – .
ه – وقال عنه النسائي صاحب السنن : – لا يعتمد عليه – تهذيب التهذيب ج5 ص 16 – .
و – وقال عنه أحمد بن حنبل : – لا يعتد به – تهذيب التهذيب ج 5 ص 16 – .
ومع كل هذه التهم لم نجد فيما نعلم أحداً قد أتهمه بالتشيع أو بالرفض أو بالباطنية أو الغنوصية أو … ، بحيث يظن الظان إن كل هذه التهم منشأها تشيع الرجل مثلاً ، ولطلحة بن زيد كتاباً ذكره النجاشي في الفهرست ص 155 ، وكذا الطوسي في الفهرست ص 112 ، وقيل عن الكتاب إن فيه أخبارا مروية عن ثقات ، ولكن لم يقولوا إن طلحة بن زيد كان ثقة ، والفرق كبير بين ان يكون كتابه فيه من الأخبار الصحيحة وبين ان يكون هو نفسه من الثقاة !! ، ولا يعني ان لفظ فيه من الأخبار الصحيحة يعني : إن كل ما فيه صحيحا ويمكن الإعتماد عليه !! ، أعني أن ليس كل الكتاب موضع قبول وإعتماد ، ونفهم ذلك من كلام للشيخ الصدوق إنه قال : – الروايات التي أخذتها عن كتاب طلحة بن زيد ، وجدتها في بعض الكتب المعتبرة ، و يعني هذا ان كل خبر او رواية اخذتها من كتاب طلحة بن زيد ، إنما دققت فيها ونظرت في الكتب المعتبرة ذات الإختصاص في شأنها فوجدت بعضاً منها قابل للقبول ، وطبعاً هذا القول يعني بعض الأخبار لا جميع من ورد في كتاب طلحة بن زيد ، ومن باب أولى القول : أن ليس كل ما في كتاب طلحة بن زيد يصح الإعتماد عليه وروايته ، والكتاب المعتبر يعني ذلك الكتاب الذي يصح الرجوع إليه في كل حال ، وكتاب طلحة بن زيد ليس من الكتب المعتبرة في كل حال ، وإنما يُنظر فيه ويحقق فما كان صحيحاً أعتبرناه وما كان غير ذلك رددناه ، ولكم أن تعلموا أن كتاب طلحة بن زيد مختلف فيه من جهة المصادر التي أعتمدها ، فتارةً يروي عن الأوزاعي وهشام بن عروة ، وتارةً أخرى يروي عن الإمام الصادق .
ولم أجد فيما أعلم أن أحدا من علماء الرجال من الشيعة أو السنة قد وثق الرجل أو أشار إلى ذلك ، بل أن صريح أقوالهم فيه تقول : – إنه كذاب يضع الحديث أو فاسد الرواية منكر – ، وبناءاً على ما مر من وصف عام لشخصية طلحة بن زيد نقول : إن روايته للأخبار لا يعتد فيها ولا يعتمد عليها ، ولهذا لا يصح إعتماد مروياته في أستنباط الأحكام الفقهية أو التأسيس عليها في المسائل المعتبرة ..
هذا كان وصفاً عاماً لحال خبر طلحة بن زيد من جهة السند ، والآن حان الوقت لنناقش متن الخبر ودلالته ومدى صحته وموافقته للكتاب والعقل ، ونقول :
أولاً : يزعم خبر طلحة أن للأسرى في المعركة – حكمين – ، [ الأول من قبل ان تضع الحرب اوزارها وحكمهم في هذه الحالة القتل ، والثاني من بعد ان تضع الحرب أوزارها وهو التخيير الذي يرى فيه الإمام رأيه ] !! ، والحكم الذي تبناه في هذا المجال يُعد مخالفا مخالفة صريحة لسيرة النبي في المعارك وحكمه العام في الاسرى ، فلم يقتل النبي أحداً من الأسرى لا من قبل نهاية المعركة ولا من بعدها ، وشاهدنا على ذلك معركة بدر التي أسر فيها المسلمون 80 رجلاً من المشركين ، وقد أطلق سراح أكثرهم إلاَّ 8 بفدية ، و قتل منهم أثنين قصاصاً لا بإعتبارهم أسرى ، وإنما بسبب ما فعلوه بجثث المسلمين والتمثيل بها – تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 37 – ، ونفس الشيء يُقال في معركة بني المصطلق ( المريسع ) التي تمكن فيها المسلمون من أخذ الكثير من أسرى المشركين ، ولم يقتل النبي واحداً منهم بل أطلق سراحهم جميعاً – تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 44 – ، وحدث هذا أيضاً في معركة حنين ( هوازن ) حيث أطلق النبي جميع الأسرى منهم – تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 53 – ، وهذه الشواهد تدل على أن ما ذكره طلحة بن زيد ليس صحيحاً بل مخالفاً لما عليه السيرة الصحيحة للنبي في المعارك .
الثاني : يزعم طلحة بن زيد : أن آية المحارب نزلت في شأن معارك المسلمين مع الكفار والمشركين أو إنها ترتبط بذلك ، مع انه كان يجب عليه التمهل وهو يقرأ قوله – يحاربون – بدلاً عن – يقاتلون – ، ومفهوم يحاربون بعيد عن ساحة القتال في المعركة على نحو خاص ، وإنما ساحته جميع مفردات الحياة ، والمتعلق بلفظ يحاربون هو الجملة التي تقول – ويسعون في الأرض فسادا – ، وليس بالذي يسعون في الأرض قتالا ، المتعلق هو بهذا الفساد المتنوع في الحياة وفي إشاعته بين الناس ، والأصل في آية المحارب هي الدعوة لتطبيق القانون والعدل بين الناس وحماية حقوق المجتمع من التعديات والجرائم ، وليس في النص ما يدل على أن آية المحارب تعني ملاحقة أسرى المعارك أو المقاتلين في المعركة ، نعم كان لرواية طلحة بن زيد أثراً عند الطبري الذي جعل من شأن نزول الآية مرتبطاً بالمشركين من المقاتلين – تفسير الطبري ج 6 ص 206 – ، ولهذا تابعه في ذلك حيث قال : بان حكمهم القتل إن لم تضع الحرب أوزارها ، ربما لا يثيرنا هذا كثيرا حين يكون قد صدر عن الطبري ، لكنه يثيرنا جداً حين ينسب ذلك للامام الصادق ، طبعاً نحن نعلم المُراد من ذلك والغاية فهي ليست حسنة في كل حال ..
الثالث : ورد في خبر طلحة بن زيد لفظ – بغير حسم – أو تركه يتشحط بدمه حتى يموت ، هذا اللفظ في هذه الجملة يحمل معاني سيئة تتنافى اصلا مع روح الاسلام ومبادئ الكتاب المجيد ، التي تعطي مساحة واسعة للرحمة كي تتسلل إلى قلوب الناس فتنتزع محبتهم ، وتدخلهم في دين الله أفواجا ، هذا اللفظ الغريب لم نجده فقط هنا في هذا الخبر ، ولم نجد له من مؤيد لدى فرق المسلمين وعامة فقهائهم ، كما لم يذكر هذه الوحشية والسادية أياً من الأديان السماوية ، نعم وجدنا هذا هنا ، ونجده في تعليمات المنظمات الارهابية التي تنشط في العالم الاسلامي هذه السنوات ، نجده عندهم في كيفية تعذيب من يقع بين أيديهم من المخالفين ، والظاهر إن هذه النسخة السيئة الفاسدة لها وجود في تاريخ أدب المسلمين وثقافتهم المتعجرفة ضد من يخالفهم ، وشواهد هذا اللفظ وفضاضته نجده في معنى من – قُتل صبرا – وهم كثير تدل على ذلك صور ومشاهد تعرض على الناس دون استحياء ، وقد وردت تحت بند جئناكم بالذبح !!! .
[ يتبنى المذهب الفقهي عند المسلمين ، مفهوم قطع اليد لكل من سرق ، ومفهوم قطع الرجل لكل من أشاع الفوضى واللانظام في المجتمع ، ويمكن إجتماع العقوبتين في الآن معاً إن كان ما يسببه المجرم من معانات للمجتمع داعية إلى ذلك ، هذه العقوبة مع تلك الجريمة تدخل في مضمار وحدود معنى – السعي في الأرض فسادا – ، ولا تتعلق بالقتال في المعركة بين المسلمين والكفار ولا ترتبط بهم ، ومن هنا فالتصور الذي ذهب إليه طلحة بن زيد تنقصه المقاربة الصحيحة ] .
الرابع : ورد في خبر طلحة بن زيد جملة تقول : – ذلك الطلب ان تطلبه الخيل حتى يهرب ، فإن أخذته الخيل حكم عليه ببعض الأحكام التي وصفت لك – ، هذه الجملة هي بيان لمعنى – أو ينفوا من الأرض – ، ولا ندري كيف فهم طلحة بن زيد معنى – ينفوا – على أنهم يهربوا ، ولهذا اشترط الخيل في طلبهم والامساك بهم ، مع ان المفهوم من الفعل المضارع ينفوا كونه جزء من الاحكام التي يصدرها الامام على من ارتكب فسادا في الارض ، وليس من فر من المعركة ، النفي هنا هو تنفيذا لحكم الإمام وليس إرادة ذاتية من المحارب ، حتى يتم طلبه بالخيل واللحاق به ، إذن مفهوم الفعل لا يدل على إرادة ذاتية من قبل المجرم بل هو تنفيذاً لحكم يجريه الإمام على المفسد في الأرض ..
الخامس : يظهر أن طلحة بن زيد ذهب على عكس ما يرآه عامة الفقهاء من المسلمين في شأن آية المحارب ، إذ ربط الآية بالمقاتل وأسير القتال لا دليل عليه ، ثم أن خبر طلحة لا يذكر القتال مع الكفار على نحو صريح ، وهنا يحق لنا القول : ماذا لو تقاتل المؤمنون فيما بينهم ؟ فهل يصح تطبيق الحكم بقتل جميع الأسرى المؤمنين لدى كل طرف ؟ ، أم إن التحفظ عليهم حتى تضع الحرب أوزارها ثم يطلق سراحهم ؟ ، ثم لماذا الاصرار على قتلهم ؟ هل بسبب الخوف من اطلاق سراحهم وعودتهم من جديد للقتال ؟ أم إن التحفظ عليهم يكلف المقاتلين جهدا وحماية ورعاية ومواد غذائية مكلفة ؟ فهل من أجل ذلك يجب قتلهم أم ماذا ؟ ، طبعاً هذه التساؤلات لم تأخذ بعين الإعتبار جانب الرحمة والتسامح ومبدأ خذ العفو وأعرض عن الجاهلين ، والإيمان بمبدأ الخطأ وإمكانية التوبة عنه ، كذلك لم تأخذ بعين الاعتبار مفهوم العدل الإلهي وحقوق الإنسان وحمايته وقت المعارك والأزمات ..
السادس : الملاحظ ان رواية طلحة بن زيد سقط منها لفظ ( أو يصلبوا ) ، فهل إن ذلك السقوط منه قد وقع سهواً ؟ ، أم إنه سقط بداعي إعتبارات ثانوية أخرى ؟ ، ولا نعلم بالضبط ماهي ، لذلك لم نجد فيما بين أيدينا من مصادر تدلنا لماذا تم إسقاط وحذف لفظ – أو يصلبوا – من بين الأحكام ، ولكن الذي نفهمه أن هناك ثمة مجازفة عمل عليها طلحة بن زيد ، ويمكننا قرأتها من وحي وضعه للأخبار وتزييفها ، وفي هذه الحالة حتماً يقع السقط ، وتقع الهفوات من دون النظر لما حول أو عن طبيعة الأحكام ، وعلى كل حال يبدو ان طلحة بن زيد لم يتثبت من روايته ولهذا أفتى وأسقط من دون رعاية للموضوعية وللدقة .
تنبيه :
في السجال المعرفي يميز أهل الله بين مفهوم نهاية المعركة وبين وضعت الحرب أوزارها ، والصيغة الصحيحة لهذا اللفظ حين – تضع الحرب أوزارها – ، فما الذي تعنية جملة نهاية المعركة أو وضعت الحرب أوزارها ؟ ، المفروض من التبادر ان تكون الجملة دالة على إنتهاء المعارك والجنوح للسلم أو للهدنة المؤقتة أو الدائمة ،، لكن عامة الحروب في العالم وخاصة الكبيرة منها ، تجري فيها فترات من الهدنة المؤقتة لعدد من الأسباب ، لكن هل يصح قتل الأسرى وقت المعركة وقبل هذه النهايات المتقطعة ؟ بحسب خبر طلحة بن زيد الجواب : نعم قتل الأسرى يدور في فلك دوران المعركة ولا ينظر إلى هذه النهايات المتقطعة أو الدائمة !! ، إن هذه الفكرة السمجة التي تبناها خبر طلحة بن زيد سببها فهم خاطئ لقوله تعالى : ( ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض ) ، أي إنه أعتبر ( ما ) أداة نفي ، أي ان لا يكون للنبي أسرى وهو مشغول في المعركة !! ، طبعاً مضافاً إلى ذلك تسويق فكرة الإثخان على إنها إستقرار وهيمنة في المعركة ، وهذا التركيب في فهم النص ينقصه الإنفتاح على مجمل قضية الأسر في الكتاب المجيد ، بدليل إن هذا النص لا يرتب حكماً ولكنه يتحدث عن موضوعة ثانية ، وهي أهمية الإنشغال في المعركة وإدارتها والتركيز فيما يمكنه تحقيق الفوز فيها ، والنهي المعلن عملي يتوجه لهذا المعنى الذي ذكرناه ، وليس هو حكم أو مبادرة وتوجيه للنبي بقتل كل أسير يقع بين يديه !! ، إذن فحصر مفهوم النص بمعنى أفتراضي غير صحيح ، يؤكد لنا ويُضيف بأن خبر طلحة بن زيد لا يجب أعتماده ولا الأخذ به تحت أي مسوغ ، وهو مردود في الجملة والتفصيل وقد مر بنا ضعفه وتهالك سنده ولهذا فما يؤوسسه ساقط من الإعتبار أكيداً .
تنويه :
ومن بعد هذا الذي ذكرناه ، هل يصح الإعتماد على الخبر المذكور والتأسيس عليه ؟ ، وفي الجواب : لا بد من القول إن مجموعة من الفقهاء ممن لا يستهان بهم ، أعتمدوا وتبنوا في فتاواهم خبر طلحة بن زيد ، من دون مراجعة أو نظر وتحقيق تامين ، ومن بين هؤلاء :
1 – الشيخ الطوسي حيث قال : – الأسير على ضربين ، ضرب يؤسر قبل ان تضع الحرب أوزارها ، فالإمام مخير بين شيئين ، إما ان يقتله أو يقطع يديه ورجليه ويتركه ينزف ( حتى يموت ) ، وأسير يؤخذ بعد ان تضع الحرب أوزارها فهو مخير بين ثلاثة أشياء : – ألمنّ ، والإسترقاق ، والمفاداة – ، وقال الشافعي : – هو مخير بين أربعة أشياء ، القتل وألمن والمفاداة والإسترقاق ( ولم يّفصل ) ، وقال أبو حنيفة : – هو مخير بين القتل والإسترقاق دون ألمن والمفاداة .. ، قال الطوسي : – وأما دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير ( يعني تهذيب التهذيب ) – الخلاف ج2 ص 332 ، وفي المبسوط ج 2 ص 20 ، وفي النهاية ص 296 ، وفي الجمل والعقود ص 158 ، وفي الإقتصاد ص 315 ..
2 – والقاضي أبن البراج حيث قال : – الأسارى على ضربين ، أحدهما ما يجوز أستبقائه ، والآخر لا يُستبقى .. والذي لا يُستبقى هو كل أسير أخذ قبل تقضي الحرب والفراغ منها .. – المهذب ج 1 ص 316 .
3 – وقال أبن حمزة في الوسيلة : – الرجل ضربان ، إما أسر قبل إنقضاء القتال أو بعده ، فالأول : إن لم يُسلم كان الإمام مخيراً بين شيئين قتله وقطع يديه ورجليه وتركه حتى ينزف …. – الجوامع الفقهية ص 695 .
4 – وقال كاشف الغطاء : – أما البالغون العاقلون فإن أستولى عليهم والحرب قائمة قتلوا .. – كشف الغطاء ص 406 .
5 – وقال صاحب الجواهر : – الذكور البالغون يتعين عليهم القتل ، إن أُسروا وقد كانت الحرب قائمة ولم تضع أوزارها .. – الجواهر ج 21 ص 122 .
6 – وقال أستاذنا المنتظري المعظم : – لا خلاف بيننا في القسم الأول ، في تعين القتل وحرمة الإبقاء .. – الحكومة الإسلامية ج 3 ص 263 .
هذه أقوال منتخبة لمجموعة من المتقدمين والمتأخرين ورأيهم في هذه المسألة المعتمد على خبر طلحة بن زيد ، ولا يخفى أن هناك علماء كبار ممن سبقوا هؤلاء قالوا بعدم قتل الأسرى ، ومن بين هؤلاء :
أبن أبي عقيل العُماني الذي قال : – إذا ظهر المؤمنون على المشركين فاستأسروهم ، فالإمام في رجالهم البالغين بالخياران إن شاء أسترقهم وإن شاء فاداهم ، وإن شاء مَنّ عليهم .. قال تعالى : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى غذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما مناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) – المختلف ص 331 ، ولم نجد فيما قاله أبن أبي عقيل عن قتل للأسرى لا من قبل ان تضع الحرب أوزارها ولا من بعد ذلك ، وقد ذكر ذلك صاحب الجواهر نقلاً عن أبن الجنيد الإسكافي ج 21 ص 122 ، ولو أفترضنا جدلاً إن حجة القائلين بالقتل هو – الإجماع – الذي ذكره الطوسي وأستاذنا المعظم ، لكننا في الوقت نفسه نرفض فكرة الإجماع هنا من الأصل ، طالما كان مستند الإجماع لدى الطوسي ومن تبعه هو خبر طلحة بن زيد الذي مر بنا وقد فصلنا في حاله فلا نعيد ، والظن الغالب إن الطوسي كغيره من الفقهاء يذهب أحياناً للإعتماد على التسامح ، مع إنها فكرة لا تصح هنا ، ربما تكون معتبرة في أدلة السنن والأخلاق ، ولكنها لا تصح البتة في المسائل الفقهية والكلامية قطعاً ، ثم ان الشيخ الطوسي من عوائده انه يميل إلى التسامح كثيراً ، وهاكم أنظروا إلى كلامه في كتابه عدة الأصول حيث يقول : – ما يرويه المتهمون والمضعفون ، إن كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحتها وجب العمل به ، وإن لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحة وجب التوقف في أخبارهم – عدة الأصول ص 382 ، وإن أعتبرنا ما قاله الطوسي هذا وتمسكنا به ، فيلزم بناءاً عليه عدم الأخذ برواية طلحة بن زيد أو البناء عليها ، لضعفها وتهالكها ومخالفتها للكتاب المجيد والعقل الفطري الصحيح ولا حتى مع السنن المعتبرة الصحيحة ، وهذا من باب أولى ان يكون الطوسي أول الرادين على طلحة بن زيد بدل ان يتبنى إنعقاد الإجماع على خبره الفاسد .
ثم إن الشيخ الطوسي وبحسب ما ذكره في الخلاف قال ( يقطع يديه ورجليه ) مع إن النص يقول ( يقطع من خلاف .. ) ومعنى ذلك أن تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ، لا كلا اليدين والرجلين معاً ، لأن ذلك نوع من التشفي والغلظة المستقبحة ، والتي تسمى في أدب الكتابة – القتل صبرا – ، وهذا ممنوع حتى في البهائم والعجماوات ، ثم إن القتل لم يأت على نحو لازم وتعبدي حتى لا يجوز الفرار منه إلى غيره من الأحكام .
وبالختام : تبدو عملية فهم النصوص والتأسيس عليها مسألة شاقة ، وتحتاج للكثير من التأني وضبط النفس والتحلي بروح المسؤولية ، وليس هناك ثمة إجازة فيما نعلم تبيح الأخذ او التساهل أو التسامح من غير دليل ثابت محكم ورصين ، وآية المُحارب كما غيرها أصابها ما أصابها من فهم نَزَلَ من قيمتها وحددها وحصرها في معنى ليس هو المعنى المطلوب ، ولعلنا في بحثنا هذا قمنا بما نعتبره جزءا من مسؤوليتنا الدينية والأخلاقية ، في البحث والتحقيق راجين الفائدة التي هي مطلبنا بعد رضا الله ، كما نرجوا ان نجد فيما كتبنا ودونا آذان واعيه وعقول تستمع القول فتتبع أحسنه ..
آية الله الشيخ إياد الركابي
Read our Privacy Policy by clicking here