عودة الوعي العربي

ادهم ابراهيم

عندما تخلصنا من الحكم العثماني سرنا في طريق التحضر والتمدن ، وتركنا كثير من العادات والتقاليد البالية . وظهر عندنا كتاب ومؤلفين علمانيين يؤمنون بفصل الدين عن السياسة ، وينبذون التعصب او الدعوات الطائفية . وكان الشعراء في العراق من امثال الزهاوي والرصافي يحثون الناس على السير في طريق الرقي والتقدم . وقد كانت مصر رائدة في طريق التقدم ، حتى افلام الخمسينات والستينات تعبر تعبيرا دقيقا عن واقع المجتمعات العربية والدعوة للنهوض والتقدم , وكان الفكر السياسي السوري سباق في الدعوة الى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ، كما كان اللبنانيون يتباهون عن حق بدولتهم الراقية التي كانت محط انظار الدول العربية والشباب العربي الذين يتمنون الدراسة فيها ، واغلب الشعوب العربية تصطاف في ربوع لبنان الراقية المتحضرة .
وكانت التجربة التقدمية في تونس والتي تبناها الحبيب بورقيبة لأكثر من ثلاثة عقود ، مرحلة مهمة من مراحل التنمية في العالم العربي .

لقد كانت المجتمعات العربية تسير على طريق التقدم والتحضر بخطوات ثابتة مستمرة ، وهناك توسع كبير للافكار التقدمية في مجالات الحياة كافة ، كل ذلك بسبب التفكير الجاد للنخب الاجتماعية للخلاص من التخلف والجهل والامية وترك التقاليد والعادات القديمة المتخلفة .

ولكن بعد نكسة حزيران المشؤومة عام 1967 بدأت اصوات تنادي بترك الافكار والعقائد القومية والتقدمية ، والدعوة لتبني الاسلام السياسي تحت شعار انه الحل . وبذلك فان نكسة حزيران لم تكن هزيمة عسكرية عادية ، بل تم توظيفها لاحداث هزة قوية للفكر العربي المعاصر .
وعندما انهارت الانظمة الشيوعية في نهاية الثمانينات ، تم التركيز على فشل الفكر الاشتراكي العربي ، وقدمت مشاريع اسلاموية باعتبارها البديل عن كل الافكار والعقائد التقدمية العربية السابقة .
وقد سعت الدول الغربية لتسويق الاسلام السياسي في الدول العربية ، وكان الدافع لذلك منع ظهور اي حركة او فكر تقدمي حضاري بديل ، واحتواء التململ الجماهيري . ثم جرى في وقت لاحق تدجين الانتفاضات العربية ، وتم العمل على نطاق واسع لتغيير السلوك العربي من التوجه القومي الاشتراكي الى الاسلامي الشكلي ، الخالي من القيم الاسلامية الحقيقية ، فظهرت حركات اسلاموية راديكالية تبنت الهجوم على كل ماينتمي الى الثقافة والفن والحضارة الانسانية ، على اعتبارها نشاطات تتعارض مع الدين .

وهنا بدأ الشك واليأس يدب في اوساط الشعوب العربية فدخلت في اشكالية الواقع المأزوم ، خصوصا بعد شيطنة الربيع العربي او بالاحرى اسلمته . فتدخلت ايران وقطر وتركيا في كل من سوريا والعراق ، وتمكن الاخوان المسلمين من حكم مصر بدعم غربي واضح ، خصوصا بعد زيارة اوباما الى الازهر وتشجيعه للحركات الاسلامية . والكل يتذكر كيف غضبت هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الامريكية من مصر بعد حركة الجيش التصحيحية المستندة على التظاهرات المليونية المعارضة لحكم الاخوان ، ومازالت دول مثل تركيا وقطر تعادي الحكم الجديد في مصر . .
اما ايران فقد دخلت الى العراق بمباركة الولايات المتحدة لملئ الفراغ الحاصل بعد انسحاب القوات الامريكية منه .
كما دخلت ايران في سوريا تحت ذريعة مكافحة الارهاب ، فزادت الطين بله .

وعمت الفوضى بعد تسخير داعش كآلات للقتل والعبث خصوصا في سوريا والعراق والقضاء على ماتبقى من العقيدة الانسانية المدنية المتحضرة ، وتم كل ذلك وسط صمت العالم (الديموقراطي الحر) ، كما كان الجميع حريصون على الديموقراطية البشعة على الطريقة الأمريكية في العراق . ديموقراطية المكونات والطوائف المتناحرة ، التي حصدت فيما بعد الالاف بل الملايين بين قتل وتهجير ونفي .

ان ماعرف بالربيع العربي قد تحول من ثورات وانتفاضات لاصلاح الانظمة الديكتاتورية الى ادوات هدم للمدن العريقة ولكل المكتسبات المتحققة في هذه الدول تحت لافتة الديموقراطية تارة كما جرى في العراق ، او الاسلام السياسي كما جرى في مصر وسوريا وتونس والان في ليبيا .
وبالشعارات الدينية والطائفية تم خداع الجماهير العربية من المحيط الى الخليج ، فركض الجميع وراءها كالسراب ، حتى تم القضاء على السلم الاهلي وتقسيم المجتمعات العربية على وفق ايديولوجيات طوباوية وهمية لايمكن تحقيقها على ارض الواقع فانتشرت الفوضى غير الخلاقة نتيجة التدخلات الاجنبية والمال السياسي ، والاعلام المشبوه القائم على الكذب والافتراء ، والتلاعب بعواطف الشعوب بشعارات تعمق الصراعات المحلية .

ورغم كل ذلك نجد الشباب الواعي في مصر اولا ثم في العراق ولبنان قد تبينوا خطل الاطروحات الاسلاموية المشبوهة ، فانتفضوا ضدها ، كما قاوموا الفساد الاداري والسياسي، وتغييب الوعي الوطني والقومي من قبل الاحزاب والجماعات الاسلامية والطائفية ، فتراجع الخطاب الاسلاموي امام الحداثة الشبابية الناهضة ، واستمرت قوى التغيير بالتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي العربي ، رغم الملاحقات الامنية واستخدام القوة والبطش من الانظمة المتخلفة ، وخصوصا في العراق ولبنان التي مازالت تعتقد بامكانية استمرارها بالحكم .

ان قطاعات شعبية كبيرة مستمرة في نضالها ضد الفساد والتخلف وترفض العودة الى الخلف ، كما ترفض الاستسلام لقوى الردة الجديدة ، وخصوصا في العراق وسوريا وليبيا والسودان والجزائر . وفي مصر تجري مواجهات يومية مع قوى التخلف والردة التي تحمل شعارات اسلامية وبمساعدات مشبوهة من جهات معادية لنهضة الشعوب العربية وخصوصا من تركيا وقطر ، اما تونس فمازالت تقاوم حركة النهضة الاسلامية في محاولاتها لادخال البلاد في نفق مظلم من التدخلات الاقليمية .

وكل ذلك يدل على وجود مؤشرات قوية للخروج من حالة الفوضى العامة، وعودة الوعي الوطني والقومي للشباب العربي الواعي الرافض للاطروحات الدينية والطائفية المشبوهة والمتخلفة ، والمتطلع الى التجديد والتقدم ، وسيكون النصر حليف الشعوب المناضلة ، والتحرر من الضغوط والتدخلات الاجنبية ، فالشعوب العربية من الشعوب الحية التي لاتنام على ضيم .
ادهم إبراهيم

.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here