درس 3 تموز للتأريخ

[درس 3 تموز للتأريخ ]

– ألخليل علاء ألطائي –

– بعدما قرأت العديد من المقالات حول إنتفاضة معسكر الرشيد ومنها مقال الكاتب عبد جاسم الساعدي إعدتُ قراءة مقالي الذي نشرته في الحوار المتمدن سابقاً ولنفس المناسبة, أشرت في ذلك المقال إلى مشهد الإعدام؛ في الواقع أن المعلومات الدقيقة وردت في مقال الكاتب عبد جاسم الساعدي فمشهد الإعدام وسط صرائف الميزرة وخلف السدة شمل الأخوين (أبو سمير وعلي الجابي) وكما ورد في مقال الكاتب ( لكن الجلادين البعثيين لم يكتفوا بذلك بل علَّقوا الجثتين في جسر القطار بين الميزرة وصرايف العاصمة وباب الشيخ. قاد الجلاّدون أمهما عنوةً لترى جثتيهما مُعلقتين, وفي اليوم التالي فارقت الحياة.)(يُنظر مقال الكاتب عبد جاسم الساعدي بعنوان ” العريف حسن سريع ورفاقه في الذاكرة الأولى- الحوار المُتمدن )

ويبدوا أن الجلاّدين نفَّذوا الإعدام شنقاً بالمدنيين وسط الأحياء الفقيرة, وبحسن سريع ورفاقه العسكريين فقد تم الإعدام في مكان مُحاذي لمعسكر الرشيد.

روى لي مَن حضرَ مع الجماهير المُحتشدة من سكان صرائف خلف السدة لمشاهدة إعدام بعض أبطال الإنتفاضة .. قال الراوي الشاهد على تلك ألساعة؛ إقتربت أُم أحدهم لتُعانقه وتودعه الوداع الأخير قبل صعوده المشنقة فإعترضها أحد الجلاّدين ودفعها بعيداً عنه فزجره البطل وقال له (لاتدفع أمي.. يجي يوم يقام لي تمثال في هذا المكان )..

أقول أما حان الوقت لتحقيق نبوءة الثوّار؛ بإقامة نصب تذكاري لأبطال إنتفاضة الثالث من تموز أو تمثال للبطل الشهيد حسن سريع في ذلك المكان الذي أُعدم فيه؟

– لنتأمل أهم دروس هذه الإنتفاضة وبإمكاننا العودة إلى التأريخ وإسترجاع قرائن الثورات والإنتفاضات الشعبية التي مهَّدت للثورات الكبرى, وثمة شروط تأريخية آنيَّة كمواجهة نُظُم دكتاتورية دموية لابدَّ من مواجهتها بالكفاح المسلح الأمر الذي يحتمل المُغامرة وما تنطوي عليه من مُفاجآت غير محسوبة وإخفاقات ومن ثم تضحيات كبرى.

كثيرةٌ هي الدروس التي أفرزها واقع العراق تحت حكم الإنقلابيين بعد 8 شباط 1963 وقد كُتب عنها الكثير,خاصةً فيما يتعلق بسلوك الإنقلابيين ألدموي؛ لكن الحدث الأهم في تلك الفترة هو المقاومة البطولية لمجموعة الثوار يوم الثالث من تموز لمواجهة الإنقلابيين وحرسهم القومي.

ماهي مميزات هذه الإنتفاضة؟

وماهي الدروس التي قدمتها؟

– السمات الطبقية الجديدة؛ فالمجموعة الثورية تتكون من جنود ينحدرون من أوساط المناطق الفقيرة في بغداد. وليسوا ضبّاطاً كباراً وينطوي هذا الأمر على تحدي كبير للطبقية العسكرية وتراتب مواقعها في المسؤولية, فالمُعتقد السائد ومنذ تأسيس الدولة العراقية هو أن الإنقلابات تتم على أيدي الضباط الكبار.. رتبة عقيد فما فوق ولهذا التراتب دلالته الطبقية عسكرياً وإجتماعياً؛ بإنحدار الضبّاط الكبار من طبقات إجتماعية غنيّة, برجوازية تجارية وحتى طائفية سنيّة, وإن حركة التأريخ مرهونة بأوامر هذه الفئآت ومكانتها في الدولة والمُجتمع ومن خلال رِتَبها ألعسكرية. وإن الفِرَق العسكرية والألوية والأفواج تتحرك بموجب أوامر هذه القيادات فالجنود والضباط من الرتب الأدنى لاحول لهم ولا قوة ويتحركون مهما كان الهدف, وقد حصل ذلك في مسلسل الإنقلابات ألعسكرية في العراق بما في ذلك ثورة تموز 1958 .

وفي صبيحة 8شباط الأسود شاهدتُ رتل الدبابات وعلى صدورها صورة عبد الكريم قاسم بحجم متوسط وحين تجمَّع الناس حول إحدى الدبابات سألوا الجندي الواقف خلف مدفعها ( إنتم ويَّة ألزعيم؟)- أنتم مع الزعيم عبد ألكريم قاسم؟- أجاب الجندي برفع يده إلى السماء وقال (أمرنا بيد ألله) وهذا يدل على أنه يُنفذ أوامر مهما كانت الأهداف بما فيها الإنقلاب وإبادة الشعب, فقد ترسَّخَ في ذاكرة الوعي الجمعي أن البطل المُنقذ, المُنتظر, سيظهر برتبة الزعيم الركن أو اللواء الركن, وقد بالغ إنقلابيوا شباط بهذه الرتب فإستحدثوا رتباً أعلى وقفزوا على الأدنى منها ففُصِّلت رتبة مُشير لعبد السلام عارف, ورتبة مهيب لأحمد حسن البكر في الإنقلاب البعثي الثاني.

هنا نرى أن قيام حركة ثورية بقيادة جندي أو عريف تُشكِّل خروجاً على قوانين التأريخ – تأريخ السلسلة الطبقية الحاكمة- كما حصل في ثورة سبارتكوس وثورة الزنج وثورات أمريكا اللاّتينية؛ إنها خروج على النمط الكلاسيكي للإنقلابات؛ وتحويل الصراعات من صراعات فئوية على المواقع والمناصب داخل الطبقة الحاكمة إلى صراع طبقي بين حاكمين ظالمين ومحكومين مظلومين..إنها ثورة المظلومين, وكانت مشروع تغيير لإخراج الصراع من دائرة النفوذ الطبقي البرجوازي, المُقرر سلفاً كحق إلاهي ممنوح لطبقة إجتماعية عُليا.

لم يَغب عن وعي الثوار هذا السياق التراتبي في العسكرية, فالجندي ينصاع للرتبة إذا لم يكن مُجهّزاً بالوعي الآيديولوجي والسياسي اللاّزم للمقاومة. لذلك إستخدم الثوار هذا التكتيك المؤقت وبصورة خاصّة من قبل البطل حسن سريع؛ كما بيَّنت ذلك المُحاكمات الصورية التي أعقبت فشل الثورة.

– جاء توقيت الثورة بعدما تعرضت القوى الوطنية والديمقراطية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي للتصفيات بموجات من الإعدامات وبشكل خاص في القوات المسلحة في أعقاب المقاومة التي واجهت الإنقلابيين في بعض الوحدات العسكرية وفي مناطق بغداد ( ينُظر حامد الحمداني /الحقيقة حول 8 شباط 1963 الفاشي/موقع: الحوار المتمدن). وإن التوقيت, إن عُدَّ ذلك مُغامرة, جاء في وقت تمَكن فيه الإنقلابيون من توطيد سلطتهم وفرض سيطرتهم على مفاصل الدولة بالكامل ونشر فرق الحرس القومي في جميع مفاصل الطرق الداخلية والخارجية وإحتلال المباني الحكومية والمدارس والمعاهد والجامعات والإذاعة والتلفزيون.

– عرف العراقيون هوية الإنتفاضة القائمة على الوعي الطبقي الجديد, وعي الجندي بالأحداث ودوره فيها؛ وهكذا تم التخطيط للثورة وتوقيتها, ولن ندخل في تفاصيل أحداثها؛ لكنها كشفت عن وعي جديد وإمكانيات مستقبلية وهو العامل الأهم. وبوصف الكاتب عبد جاسم الساعدي ( مما جعلها شعبيةً بمستوى الشارع والبيت والأسواق والحياة اليومية, وتداول أخبار التدريب وإلتحاق الشباب بهم.).

وعلى غير المألوف في الإنقلابات؛ أن تكون مرسومة من الخارج, وأن تُشكل حلقة في سلسلة حلقات نظام خارجي, عالمي, أو عربي مُجاور للعراق, أو ضمن مشروع شرق أوسطي؛ فالعراق مُحاط بمشاريع إعادة تقسيم وترسيم خرائط؛ تتبعها أوضاع العراق الداخلية وقوانينه السياسية والإقتصادية والإجتماعية وجميعها تستوجب عدم الخروج عن دائرة المصالح الغربية والمشاريع العربية المُجاورة, قوميةً كانت, أو طائفية خليجيَّة؛ عليه جاءت الإنتفاضة على خلاف هذه التصورات مما يُعيد الأمل بنظام ديمقراطي جديد. وتم التخطيط لها في أحياء الصرائف الفقيرة, ودون مشاورة أي طرف خارجي. ولو قاربناها مع إمكانيات إنقلابيي شباط نجد القوى الإنقلابية إمتلكت كل الدعم العربي؛ والمُخابراتي العالمي؛ وبقايا الإقطاع المحلي؛ وشركات النفط الغربية؛ بالمال والسلاح والإعلام والدعم اللوجستي وبالتنسيق مع وكالة المخابرات الأمريكية ودول حلف بغداد السابق والذي خرج منه العراق بعد ثورة تموز 1958 .

– كان ثوّار معسكر الرشيد يُخططون لنظام سياسي ديمقراطي, ولم يتصرفوا بروح الإنتقام والثأر رغم شراسة البعثيين وإنحطاطهم. وكان الثوار قد إعتقلوا ثلاثة من رؤوس الإنقلاب وهم منذر الونداوي قائد الحرس القومي وحازم جواد وزير الداخلية وطالب شبيب وزير الخارجية ولم يقتلوهم.

– هناك تنظيم.. خليَّة شيوعية في معسكر الرشيد.

– هناك خطة لإحتلال المواقع العسكرية الحساسة وتغيير نظام الحكم وإقامة نظام حكم ديمقراطي وقد أعدَّ الثوار بيانهم الأول وحددوا أسماء الحكومة القادمة, وكانت من أسماء الشخصيات الوطنية المعروفة, ولا وجود لأية إعتبارات قومية أو طائفية فيها.

ولمّا وجَّه قاضي المحكمة الصورية سؤاله إلى حسن سريع حول المجرمين الثلاثة الذين وقعوا في قبضة الثوار:

لماذا لم تقتلوهم؟

أجاب: نُحاكمهم والمحكمة تُقررمصيرهم.

وفي تلك الكلمات كان درس الوعي الماركسي يتردد في أسماع الناس وهم يستمعون إلى المُحاكمة. وهنا تستوقفنا المُقارنة بين موقفين في أحداث التأريخ؛ موقف هولاء الثوار من الخصوم وإحترامهم لحقوق الأسير, ولحكم القانون؛ وموقف الحاكم الخصم الذي لايعرف غير لُغة الإعدام والإنتقام. وقد توالت أحداث التأريخ فكشفت سلالات من هؤلاء المُجرمين, من أحفاد البعثيين, كالقاعدة وداعش.

– وبالنظر لتمكّن السلطة وشدة القمع والإرهاب في مقابل قوى الثورة المحدودة الإمكانيات؛ فهي مُغامرة تتطلب شجاعة نادرة, ولا بدَّ من الأخطاء الباهضة الثمن في الأرواح؛ لذلك حصل الإنتقام المُضاد بأشرس صوَرهِ.

إنتهت الحركة بالتصفية وتعرَّض الحزب الشيوعي لضربةٍ جديدة؛ ولكن نظام الحرس القومي بدأ يهتز في أعقابها ودبَّت فيه الإنشقاقات وتصادمت مصالحه مع مصالح حلفائه من القوميين إنتهت بسقوط الحرس القومي في 18تشرين الثاني على يد حليفهم عبد السلام عارف.

– ولمَّا عاد البعثيون إلى الحكم بنفس القطار الإنكلو أمريكي,عام 1968 لم تَغب عن ذاكرتهم ليلة الثالث من تموز التي هزّت نظامهم, وفكروا بها جيداً ودرسوها من جميع الوجوه؛ حاولوا في أدبياتها التقليل من شأنها ولكنهم يتذكرونها كلما طرحت أمامهم مسألة العلاقة مع الحزب الشيوعي بوضع الشروط, وسن القوانين لعدم تكرارها؛ عدم حصول إنتفاضة مماثلة؛ أي منع أي تنظيم سياسي شيوعي داخل الجيش والقوات المُسلحة؛ وهو شرط مفتوح قابل للتأويل والمناورة والكذب على الطريقة البعثية, وطُبِّق هذا القانون بإعدام كوكبة من إثنين وثلاثين شاباً شيوعياً عام 79 الجريمة التي دشَّن فيها صدام حسين حكمه بعد تصفية مُعارضيه في القيادة.

– كاتب سياسي

– 3/ تموز/2020

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here