تحديد سن التقاعد للقضاة وأثره في بناء المؤسسات القضائية

القاضي غالب عامر الغريباوي
رئيس محكمة استئناف واسط الاتحادية / رئيس جمعية القضاء العراقي

إن العلاقة بين الموظف و عمله الوظيفي ليست علاقة أبديه وهي لا تنتهي بطريق واحد وهو الوفاة بل أن الاصل فيها أن تنقضي بطرق أخرى منها توقف الموظف عن شغل الوظيفة العامة عند بلوغ سن معينة وهذا ما يطلق عليه بالسن القانونية للتقاعد وهو السن الذي يقدر المشرع أن الموظف يصبح عند بلوغها غير قادر على أداء العمل المناط به بكفاءة وفعالية بسبب تقدمه بالعمر وهذه السن لا ترتبط في القدرة على الإنتاج لدي شخص معين وإنما هي قاعدة عامة مجردة تطبق على الجميع ، لذا يتدخل المشرع بالنص في قوانين الوظيفة العامة على الإحالة على التقاعد عند بلوغها ، والحكمة من تحديد سن قانونية للتقاعد تعود الى أسباب عدة ، فمن ناحية هي تأكيد لحق الموظف العام بأن يأخذ قسطا من الراحة بعد خدمة طويلة ويتمتع بما بقي من حياته بشيء من الحرية التي كانت الوظيفة العامة تفرض الكثير من قيودها عليه ، ومن ناحية أخرى فتح المجال أمام العناصر الشابة والقدرات الجديدة لتأخذ دورها في الخدمة العامة والأهم من هذا وذاك لتفادي تناقص القدرات المعرفية لدى الموظف العام عند بلوغه تلك السن ومنع تأثيراتها على الوظيفة العامة التي هي بحاجة إلى ديمومة نشاطها بصورة مستمرة و متجددة ، وهذا ما لا يتحقق إلا بالعناصر التي تملك القدرة الجسمية والذهنية العالية التي تتمكن من ادارة و تسيير المرافق العامة بانتظام و اطراد .

وإذا كان امر تحديد السن القانوني للتقاعد بهذه الأهمية بالنسبة للموظف بشكل عام فإنه يكون بالغ الأهمية بالنسبة لمن يتولى وظيفة القضاء ، فالقضاء ليست بالمنصب السهل لما فيه من إصلاح بين الناس ، وإنصاف المظلوم ، ور د الظالم ، وأداء الحقوق إلى أهلها ، والحكم بالقسط والعدل ، فهي وظيفة تتصل بحريات الناس وحماية حياتهم واموالهم واعراضهم ، إضافة إلى اعتبار القضاء ركيزة مهمة من ركائز بناء الدولة الحديثة خاصة في ما يخص القضاء الدستوري اذ يعتبر وجود قضاء دستوري صحيح من المستلزمات الأساسية والمرتكزات المهمة في الأنظمة الديمقراطية في العالم .

لذا فقد حرصت جميع الدول على تحديد السن القانونية للإحالة على التقاعد لضمان حسن سير العمل في هذا المرفق المهم في حياة المجتمعات وبناء الدول، وقد اختلفت البلدان في تحديد هذا السن وإن كانت لم تبتعد كثيرا فيما بينها في ذلك.

أن اغلب الدول قد حددت سنا قانونية لتقاعد القضاة يختلف قليلا عن السن القانونية لتقاعد الموظفين العمومين من غير القضاة بزيادة بسيطة بالنسبة للقضاة بغية الاستفادة من الخبرات التي يكتسبونها أثناء فترة خدمتهم القضائية و لتمييز هذه الوظيفة المهمة عن غيرها من الوظائف العامة الأخرى ، وهذا يسري على جميع القضاة في بلدان معينة وعلى قضاة المحاكم العليا كمحاكم التمييز و المحاكم الدستورية فقط في بلدان أخرى ، ولكن جميع تلك البلدان لم تحدد سنا للتقاعد يتجاوز المقياس الإحصائي المعروف و المسمى (بمأمولات الحياة ) أو متوسط العمر المتوقع في كل دولة من تلك الدول ، وهو مقياس يعتمد على العديد من العوامل التي لا محل لذكرها في هذا المقال ، بل انه جميع الدول تقريبا قد حددت سنا للتقاعد بالنسبة لقضاة المحاكم الدستورية و الاتحادية ( باعتبارها الأعلى سنا ) بأقل من ذلك المعدل ولم تصل إليه لذا كان سن التقاعد لقضاة المحاكم الدستورية في دول العالم من غير الدول العربية يتراوح بين 65 إلى 75 سنة بل أن هناك دولتان فقط حسب ما تمكنت من الاطلاع عليه من خلال البحث عن هذا الموضوع ، قد حددتا سن التقاعد لقضاة المحكمة الاتحادية العليا ب ( 75 ) وهما كندا والبرازيل ، في حين حددت بقية الدول ذلك بين 65 إل ى 70 سنة ، ففي فرنسا مثلا 65 سنة وفي المانيا 68 سنة وفي المملكة المتحدة 70 سنة ، وكانت تركيا وهي من الدول الإقليمية قد حدد سن التقاعد لقضاة المحكمة الاتحادية ب ( 65 ) سنة وكان لرئيس المحكمة الاتحادية حديثا عن عملهم للتقليل من هذه السن وكنت حاضرا ذلك أثناء مرافقتي وعدد من الزملاء القضاة للسيد رئيس مجلس القضاء الأعلى في زيارته إلى تلك المحكمة ، اذ قال ( أننا نسعى إلى التقليل من الحد الأعلى لسن التقاعد ليكون اقل من 65 سنة وأضاف أننا نؤمن بأن حياة الموظف بشكل عام و حياة القاضي بشكل خاص تبدأ بعد الإحالة على التقاعد ).

أما بالنسبة لسن تقاعد القضاة في المحاكم الاتحادية أو الدستورية في الدول العربية فإنه لم يتجاوز 70 سنة اذ يتراوح بين 65 إلى 70 سنة ففي اليمن مثلا هو 65 سنة وفي مصر والسعودية 70 سنة في حين حددت دول أخرى الخدمة في تلك المحكمة لمدة معينة لم تتجاوز (9) سنوات في أي منها فمثلا في لبنان والأردن والجزائر( 6) سنوات وفي البحرين وتونس والمغرب (9) سنوات.

أما في العراق فإن القاعدة العامة للسن القانونية للإحالة على التقاعد هو 63 سنة ولم تكن هناك استثناءات على هذا المبدأ إلى إن صدر قانون تمديد خدمة القضاة المرقم 39 لسنة 2012 الذي منح الصلاحية لمجلس القضاء الأعلى بتمديد خدمة القضاء وأعضاء الادعاء العام من غير العاملين في محكمة التمييز الاتحادية الى 66 سنة و إلى 68 سنة كحد أعلى بالنسبة لرئيس وأعضاء محكمة التمييز الاتحادية وقد اشترط المشرع لهذا التمديد شرطين اساسيين يجب توافرها وهما الحاجة الماسة إلى خدمات من يتقدم بطلب التمديد وأن يثبت بتقرير الطبي من جهة مختصة قابليته وقدرته البدنية و الذهنية على الاستمرار بالعمل ، وهذا ما اكدنا عليه في بداية حديثنا كونه الضمان لديمومة و نشاط مرفق القضاء ، وقد حرص مجلس القضاء الأعلى على الحفاظ على المبدأ العام في احالة القضاة على التقاعد و تشدد كثيرا في تطبيق الاستثناءات التي أوردها التشريع المشار إليه طيلة السنوات الماضية فيتحقق أولا من شرط الحاجة الفعلية والماسة لمن يتقدم بطلب التمديد من القضاة وإذا تحقق ذلك فلا يصدر قرار بالتمديد الا بعد تقديم تقرير طبي من جهة مختصة يؤيد سلامة ذلك القاضي وقدرته الجسمية و الذهنية على الاستمرار في العمل القضائي.

هذه هي المبادئ العامة التي اتفقت عليها جميع بلدان العالم في تحديد السن القانوني لتقاعد القضاة ولكن الخرق الوحيد والغريب لهذا المبدأ هو ما جاء في قانون المحكمة الاتحادية العليا في العراق والنافذ حاليا والمرقم 30 لسنة 2005 في البند ثالثا من المادة (6) منه و الذي نص ( يستمر رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا بالخدمة دون تحديد حدا أعلى للعمر الا إذا رغب في ترك الخدمة ) أي أن هذا النص قد اجاز لرئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا في العراق البقاء في الخدمة مدى الحياة بغض النظر عن قدرة أي منهم على أداء عمله دون الحاجة إلى إثبات مقدرته الصحية من الناحيتين الجسمية و الذهنية على ذلك ، وان الشرط الوحيد للاستمرار في الخدمة هو رغبتهم في البقاء ، وهو نص لا يوجد له مثيل في كل بلدان العالم ولا يشابه حتى النص الوحيد الذي أخذ منه وهو النص الموجود في قانون المحكمة الاتحادية في الولايات المتحدة الأمريكية إذ أن ذلك النص قد اشترط لاستمرار عمل القضاة في المحكمة بالاستمرار في ( سلوكهم الحسن ) وهذا يعني في اقل ما يعني إثبات المقدرة الجسمية و الذهنية على الاستمرار بالعمل .

وإني أرى ان السن المثالية لإحالة القضاة على التقاعد هي اكمال 63 سنة حيث أن أغلب الدراسات تشير إلى أن تعبير (المسن) يطلق عادة على من تجاوز الستين من عمره، كما ان لنا في رسول الله صلى الله عليه واله وصحبه وسلم أسوة حسنة فهو القدوة في الحياة وفي الممات، اذ ان الله تعالى حمله عبء الرسالة في سن الأربعين وقبضه إليه في الثالثة والستين، خاصة أن فقهاء الشريعة الإسلامية يتفقون على أن القضاء بين الناس من وظائف الأنبياء مع الفارق في الشبه والتشبيه طبعا .

وحيث ان سن التقاعد بالنسبة للقضاة في العراق من حيث الأصل هو إكمال 63 سنة لذا فلا إشكال في ذلك مع عدم التوسع في الاستثناءات الواردة في قانون تمديد خدمة القضاة الذي اشرنا اليه ، أما بالنسبة إلى ما ورد في قانون المحكمة الاتحادية العليا فإننا ندعو إلى إلغاء النص الخاص بتأبيد العضوية في المحكمة لمدى الحياة وإخضاعه لذات النص الخاص بأعضاء محكمة التمييز الاتحادية لأن النص الحالي يتقاطع مع الفطرة الخلقية والطبيعة البشرية ، فمما لا شك فيه أن جميع حواس الإنسان تتعرض لنقص الكفاءة مع التقدم بالعمر وأن الصورة النمطية للمسنين هي فقدانهم معظم يقظتهم الذهنية وقدراتهم المعرفية والعقلية مع التقدم بالعمر وبالتالي فإن ذلك لا ينسجم مع الاختصاصات والمهام الخطرة التي تطلع بها المحكمة الاتحادية العليا و تأثيرها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية للمجتمع مما ينبغي لها أن تكون محل ثقة الجميع في قراراتها الرصينة البعيدة عن تلك المؤثرات العقلية والنفسية الطبيعية .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here