الحمولات المعرفية والقوالب الحضارية! كيف يتم شيطنة الآخر!؟

الحمولات المعرفية والقوالب الحضارية!
*كيف يتم شيطنة الآخر!؟

هايل علي المذابي

على مدى تاريخ طويل من الممارسة الحضارية وقع الكثير من المبدعين في صعوبات جمّة، نتيجة تقويل نتاجاتهم ما لا تقول، وما يصعب الحكم على أنها تقوله، ونتيجة لقصور الحمولات المعرفية للمتلقين عن إدراك مغازي نتاجات أولئك المبدعين، ونتيجة لسير عملية التأويل لكل ذلك النتاج الإنساني في طريق صعب عرّفتنا المعرفة الإنسانية الحقيقية أنه طريق وعر لا يسلكه إلا الخاطئون.
إن انزياح المعاني علامة من علامات الجهل، فحين لا يفهم الإنسان ما يعنيه الكلام، فإنه يسعى دوما لتطويعه وفقاً لفكره وحمولاته المعرفية المكتسبة الخاصة، حتى ولو كان في ذلك اعتساف كبير للمدلول والمعنى.
ومن أسباب التعثر الحضاري والتخلف عن الركب أنه يتم استهلاك النصوص بكل أنواعها في تأويلات لا تتعلق بمضامينها الحقيقية بل تتعلق بالحمولة المعرفية الخاصة بالمتلقي الذي يقوم بتطويع معانيه لتتوائم مع فكره، وبدلا من ذلك يمكن استغلال ما تعذر معرفته في اكتساب معارف جديدة بالبحث عن المعاني الصعبة، وقد قيل في عالم الألوان أن كل لون يأخذ دلالته من ذاكرة المتلقي البصرية والذكريات اللونية المترسبة في وعيه وليس مما يعنيه في المنتج البصري، وهذا هو ذاته ما يحدث في عملية التلقي في السياقات الأخرى فيتم شيطنة الآخر بذلك وقبله يحدث اعتساف وظلم كبير للنصوص حين لا تجد تخريجا لها غير الحمولة المعرفية التي في ذهن المتلقي، مثلا، في سياقات كبرى، حين لا يفهم معنى المعامرة يتم تطويعه ليتناسب مع حمولة معرفية قاصرة بانزياح يفرضه تصاقب الألفاظ (التصاقب من الألفاظ المتضادة التي تعني التقارب وتعني التباعد في آن والمعنى هنا تصاقب المعاني لتصاقب الألفاظ) أحيانا فيشير معنى المعامرة التي تقتضي تعمير الإنسان والأرض في مثل هذه السياقات لا تعني سوى المؤامرة في أفضل حالاتها. والتي تعني التخريب وقتل الإنسان، وهي غالباً ثقافة إذا استمرت وتمادت بهذا الشكل فستنتهي حتماً بانقراض البشرية واستحالة استمرارية حياة الإنسان على هذه الكوكب. كما أن الجهل يفرض أكثر من ذلك، فإذا كان العلم والموهبة تفرض على الإنسان المنافسة، فإن الجهل بطبيعته والافتقار إلى الموهبة تفرض على الإنسان أيضاً المؤامرة، وهذا ما يحدث على كافة الأصعدة وفي كافة السياقات. حتى ان وسائل التكنولوجيا أصبحت أداة جيدة لممارسة إفراز هذه الثقافة من خلالِها وهذه حالة تخلف عظيمة ترتدي جلبابا حضاريا لا تقل عن حالة تخلف الإنسان المتطرف الذي ينتقد الحداثة ولا يؤمن باي جديد ويصفه بالبدعة لكنه لا يجد أي حرج في استخدام كل مظاهر التحديث وأدواته في ممارسة صراعه ضد الحداثة ذاتها، بما في ذلك المايكرفون الذي يفرز من خلالِه سمومه تجاه كل جديد، وأيضاً فإنه يركب تلك السيارة ويسافر على متن تلك الطيارة ويستخدم ذلك الهاتف والتلفزيون وتلك الجرائد ومثلها هذه الكتب التي ينتجها بمطابع لا تعني في أقل معانيها سوى التعبير عن أعظم مظهر حضاري. إنها حالة انفصام واضحة بشكل مثير للشفقة، حيث أن العقل يعيش في أزمنة متخلفة ووفقاً لما ساد فيها من آراء ومعتقدات لا يمكن أن تناسب في أحسن حالاتها غير الزمن الذي وجدت فيه ووفقاً لمعطياته، والممارسة تفضح كل ذلك حين تعيش الحداثة والجديد بشغف ولهفة ونهم واضح جداً.
ولقد رفض العالم عبر تاريخه الطويل كل الحركات وكل الثورات وكل قضية حقيقية نتيجة لهذه الممارسة من قبل من يقودونها، أي أن أفكارهم لم تكن في أفضل حالاتها سوى تجسيد لثقافة سادت في عصور بائدة، ولا يمكن ان تتوافق مع كل مظاهر الحضارة البشرية في العصور التي عاشوا فيها، وهذا ليس محصورا فقط في سياق قادة الفكر الديني ومتزعميه وإنما هو تعبير عن كل الحالات التي سلكت هذا النهج وهذا السلوك بقصد او بدون قصد وعلى كافة الأصعدة وفي مختلف المجالات، فمن المؤكد أن ما كان صالحاً بالأمس ليس بالضرورة ان يكون صالحاً لليوم، كما ان ثقافة جيل الأمس ليست سوى حالة تخلف في نظر ثقافة جيل الحاضر، ولن تكون ثقافة الاجيال الحاضرة سوى حالة تخلف في نظر أجيال المستقبل، بالضرورة.
إن كل صاحب فكر وقضية مهما كانت هامة لا بد أن يحرص كل الحرص على أن يكون قالب الممارسة متناسب مع قوالب الحضارة التي يعيش في ظلها، وإلا فلن يكون في نظر العالم أكثر من مجرد رجل مجنون ومتخلف. ولعل معظم ما آمن به الناس من أفكار عظيمة لم يكن السر في إتباعهم لها واعتناقهم لها في عبقرية من نادوا بها فحسب، وإنما لأن أولئك القادة حرصوا كل الحرص ان يكون قالب ممارستهم قالباً حضارياً متوافقا مع ثقافة ذلك العصر الذي عاشوا فيه وملبياً لطموحاتهم وآمالهم. ومما لا شك فيه أن ثمة غير قليل من العبقريات لم تجد سوى الدفن والتهميش في حياتها، ليس لأنها لم تكن أهلاً لتلك الثقة من قبل أهل عصرهم ليؤمنوا بأفكارهم، بل لأن قالبهم إما كان سابقاً لثقافة الجيل الذي عاشوا فيه ومعطيات الحضارة التي عاشوا في ظلها، أو لأنهم كانوا يفكرون بما يناسب حاضرهم وما يجب أن يحمله من أفكار، لكن كل من حولهم كان يعيش بمعطى حضاري بائد تجسده الأفكار التي يحملها، والقالب الذي يمارس حضارته من خلالِه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here