الدولة الناجحة والمستقرة * الدولة المدنية الديمقراطية * والدول الخاوية الفاشلة في الدول النامية

الدولة الناجحة والمستقرة* الدولة المدنية الديمقراطية *والدول الخاوية الفاشلة في الدول النامية

د. صفاء الجنابي

يحتدم الصراع على أشده سلما وعنفا في العراق بين الأحزاب والقوى والكتل المتنفذة منذ سقوط النظام عام 2003 على شكل بناء الدولة، وتخلط المفاهيم والمسميات عن هذا الشكل عن قصد أو بدونه، وقد ساهمت في ذلك طريقة تغيير النظام بواسطة الاحتلال، حيث افتقد هذا التغيير للمشروع الوطني الديمقراطي، وكذلك ضبابية بعض مواد الدستور الذي أقر عام 2005، والثغرات التي تضمنها، لذلك تحاول كل جهة تفسير مواقفها تجاه هذه القضية الأساسية بناءً على مرجعياتها الفكرية والسياسية ومنحدراتها الطبقية والاجتماعية. هذه المقالة مساهمة لتسليط الضوء على بعض المفاهيم النظرية المتعلقة بالدولة وعلاقتها بالمجتمع في البلدان النامية، ومعاينة الدولة الفاشلة من حيث المفهوم والمقررات، وتفحص بعض مقومات الدولة المدنية الديمقراطية لإنتاج نوع من المقارنة بين الدولتين، لتأكيد أن خيار الدولة المدنية هو الممكن والوحيد لإنقاذ الدولة العراقية من الانحدار أكثر في صنف الدولة الفاشلة التي تنطبق الكثير من مميزاتها عليها حاليا.
عند مقاربة الدولة والمجتمع في كتاباته من تساؤل عن عجز الدول النامية عن تحقيق تطلعات شعوبها بعد الاستقلال، فتوصل إلى أن قدرة الدولة على الضبط الاجتماعي، وفرض السياسات على القيادات المجتمعية التقليدية تدعم قوتها في مواجهة المجتمع، مقابل ما يفرضه واقع ضعف الدولة من اعتماد سياسات هدفها البقاء والحفاظ على الوضع الراهن. وأكد في مراجعته للنظرية أن الدولة ليست ذلك الكيان الهيراركي الموحد، وإنما تتضمن عناصر للقوة تتكامل بهدف التحكم في القوى الاجتماعية التقليدية التي تتحدى سلطتها. وبالتالي، تتبع الدولة سياسات إدماجية أو إقصائية بهدف مواجهة هذه التكوينات الاجتماعية، وضبط حركتها. ويرتبط عدم الاستقرار لدى مغدال باختلال علاقات القوة بين الدولة والتكوينات الأولية في المجتمع، في إطار الدولة الضعيفة والمجتمع القوي، حيث تخفق الدولة في تحقيق الضبط الاجتماعي، وتقع في علاقات صراعية مع المجتمع الذي يبدأ في تشكيل مؤسسات موازية للدولة، لملء مساحات الفراغ الناجمة عن ضعف الدولة، فتحاول هذه تعويض ضعفها بممارسات تعسفية.

هناك نموذج الدولة الفاشلة في الدول النامية، وتعزى التسمية إلى خصائص هذه الدول، ومنها: المالك|العامل، ويقصد بها الانقسامات الطبقية التي تم التعبير سياسيا عنها بتأسيس الأحزاب العمالية والاشتراكية. إلا أن هذه الانقسامات اكتسبت زخما متصاعدا عقب نهاية الحرب الباردة بانتشار الفقر عالميا. ويترتب على ذلك أن المجتمعات في الدول النامية تتسم بانقسامات اجتماعية متقاطعة ومتداخلة، لأنها تتصف بالتعددية المعقدة ذات الأبعاد الإثنية، والطائفية، والدينية، واللغوية، الأمر الذي أدى إلى إخفاق سياسات الصهر التي اتبعتها النظم الحاكمة، بعد الاستقلال لتحييد آثار التعددية، وإلى إخفاق وظيفة الاندماج الاجتماعي. ويتجلى هذا بوضوح في بعض البلدان العربية التي تشهد نزاعات إثنية ودينية وطائفية مدمرة.

تستهدف القوى الساعية إلى التفكيك نقل الصراع في داخل النظام الواحد؛ فإحياء الهويات العرقية يعجل في زوال الدولة الوطنية لتغليب الكيانات الإثنية المتعددة، ولا يدور الصراع غالبا بين القوى الإثنية في شأن خلافات حضارية أو رؤى حداثية، بقدر ما يكون للاستئثار بسلطة الدولة. وربما يبدو نقل الصراع إلى داخل الدول بعد تفكيكها أمرا ممكنا، وأداته إذكاء العوامل الكامنة لإحداث التناقضات المجتمعية المحلية، باعتبار أن نشوء بعض هذه البلدان ومجتمعاتها لم يكن قائما على الأسس التقليدية الراسخة في بناء الدول ومجتمعاتها، الأمر الذي أضعف ترابط نسيجها الاجتماعي وتوازناتها المجتمعية، ونقع في بعض هذه البلدان على تباينات قومية أو عرقية أو دينية أو طائفية. وعند سيادة حكم الأغلبية الإثنية، الذي ربما يرافقه إقصاء الآخر، لا تُعد هذه السياسات حلا لنظام الحكم، بقدر ما تزيد المشكلة تعقيدا بفعل تنامي سيطرة أحد هذه التكوينات على نظام الحكم والمجتمع المدني، وغالبا ما تقود هذه السيطرة إلى إحدى حالات الاستبدادوالتي سادت في الكثير من البلدان النامية ومنها البلدان العربية.

تعكس البنية الاجتماعية، أكثر أو أقل، الملامح المميزة للبنية الاقتصادية. ولأن الاقتصاد في الدول النامية يتميز بالطابع الثنائي، أي التعايش الغريب أو الشاذ بين أسلوب الإنتاج ما قبل الرأسمالي وأسلوب الإنتاج الرأسمالي، تكون بنية المجتمع غير متجانسة بشدة. فالقطاعان الاقتصاديان المتناقضان مع مميزاتهما المختلفة بدرجة كبيرة هما، القطاع ما قبل الرأسمالي والقطاع الرأسمالي، يمثلان قطبين متعارضين مع ممارستهما قوة الجذب والطرد فيما بينهما، فيؤدي هذا إلى وجود أصناف لا تحصى من التكوينات الاجتماعية.

يتناقض ذلك كله على ما يبدو، لكن في الواقع يتوافق مع قلة الوضوح في الحدود الطبقية، وبالتالي تخلف الوعي الطبقي أيضا. في الواقع، سيكون من الخطأ الاستنتاج أن بقاء عدد كبير من مكونات المجتمع ما قبل الرأسمالي، أو حتى من حصتها الكبيرة نسبيا في المجتمع ككل، يجعلنا أمام صنف من المجتمعات غير المتمايزة، وبأنها أكثر تجانسا من المجتمعات المتقدمة. فتعايش القطاعين يشير إلى درجة لا تضاهى من عدم التجانس مقارنة بتاريخ المجتمعات الأوروبية، بمعنى أن القطاع ما قبل الرأسمالي الذي تجسد في قرون من التخلف تمكن من البقاء في قطاعات كبيرة من المجتمع، بينما في المجتمعات الغربية المتقدمة ظهرت المكونات الحديثة أو بالأحرى الجديدة والأكثر تقدما إلى حيز الوجود، بشكل معتاد من داخل المجتمع، من خلال التحول التدريجي للمجتمع، حيث اصطدمت أولا بالمكونات القديمة كلها التي ما زالت مسيطرة ( ليس متفوقة في العدد فحسب بل في السلطة كذلك) قبل أن تتمكن من الوصول إلى السلطة. هذه السلطة تأكد ثباتها بعدما نمت القوى الجديدة، نتيجة تعمق المزيد من التحولات في بنية المجتمع. فكان نشوء “القطاع الاجتماعي الحديث” ووصوله إلى السلطة مرتبطين ارتباطا وثيقا بتحول القطاع “التقليدي”، ومن ثم أصبح القطاع “الحديث” مهيمنا وله اليد الطولى، أي أن هذه العملية نجمت عن تراكمات موضوعية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

ظهرت في الدول النامية عناصر المجتمع الحديث إلى حيز الوجود، كقاعدة عامة، لا من التطور الذاتي الداخلي للمجتمع بواسطة الانفصال التدريجي عن المجتمع القديم، بل مثل الأشكال الرأسمالية الجديدة للاقتصاد، فرضت من الخارج، من دون أن تكون لها أي علاقة عضوية سابقة، نشأت في مفاصل بنية المجتمع القديم بعيدا عن تدخل البيئة الخارجية. إن اختراق الرأسمالية الأجنبية، الذي أخذ طريقه عموما من خلال أوضاع العدوان الاستعماري، عوق التطور الطبيعي والتحول للمجتمعات الأصلية، جاعلا من المتعذر قطعا أن تأخذ هذه العملية مجراها وتتطور بوتيرة تقررها القوانين الداخلية وتطورها، وهذا ينطبق بدرجة غير قليلة على موضوع بحثنا.

هناك فرضية مضمونها أن في الاقتصاد الريعي لن يكون في الإمكان بناء أي تجربة ديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه عالميا، فالتناقضات بين الديمقراطية والاقتصاد الريعي تناقضات بنيوية وليست عابرة لأنها تتعلق ببنية الدولة الريعية وطبيعتها التي لا تولد المقومات لبناء الديمقراطية. فقد بينت التجربة التاريخية أن الاقتصاد الريعي يؤدي إلى تراجع تدريجي للاقتصاد الإنتاجي الزراعي والصناعي، وإلى تدني أهمية العمال الزراعيين والصناعيين الأمر الذي يفضي موضوعيا إلى ضعف القوى الاجتماعية المساندة لاستراتيجية التنمية والتقدم الاجتماعي، ومن ثم ضعف القوى المساندة لبناء دولة مدنية ديمقراطية.

بعد المنعطفات السياسية التي ينجم عنها تغير النظام السياسي فإن ارتفاع مستوى التغيير الاجتماعي يفضي إلى توليد مطالب ومهام جديدة، غالبا ما لا تتناسب مع إمكانيات النظم الجديدة، مما يتسبب في إحداث مشاكل الاندماج التي تكون شديدة الحدة قد تصل إلى درجة المواجهات المسلحة. يبقي مثل هذا الوضع المجتمعات مجرد رعايا لا تشارك بشكل حقيقي في العملية السياسية، لا سيما في ظل ضعف مؤسسات الدولة، الأمر الذي يشكل تربة خصبة للعودة إلى الانتماءات الأضيق، وتكريس العزلة، وتبلور الاستقطاب، وتلاشي الطابع التعددي لصالح الأحادية، ومن ثم تحفيز العنف، لذلك قد تواجه تلك المجتمعات خرائط إثنية، ودينية، وقبلية جديدة. وهذا ينطبق بدرجة غير قليلة على الوضع في العراق نتيجة غياب المشروع الوطني الديمقراطي لبناء الدولة بعد تغيير النظام الاستبدادي.

مفهوم الدولة الفاشلة: بدأ استخدام مصطلح الدولة الفاشلة أكاديميا في التسعينيات من القرن الماضي، بالتعريف الذي قدمه (هيلمان) و(رانتر) عام 1993 للتعبير عن فشل الدولة، وذلك بعجزها عن القيام بوظائفها على مستويات مختلفة. ووفقا لهذا التعريف، صنف الباحثان الدولة الفاشلة إلى ثلاث مجموعات؛ تضم الأولى دولا انهارت فيها المؤسسات الحكومية بالفعل (مثل الصومال). ومجموعة ثانية تشهد حالة من الصراع الداخلي الحاد (مثل إثيوبيا). ومجموعة ثالثة تفتقر إلى القدرة على الإدارة الكفوءة للدولة، وتحديدا الجمهوريات الناتجة عن تفكك الإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا. وقد أثار هذا التعريف حالة من الجدل الأكاديمي حول المفهوم، وهل الفروق بين تلك المجموعات الثلاث تتيح وضعها جميعا في إطار تصنيف واحد، أم أنه يمكن تصنيفها بأنها دول ضعيفة أو هشة، أو فاشلة أو غير ذلك من الاجتهادات التي جعلت المفهوم أكثر غموضا عند أول ظهور له؟

هناك العديد من التعريفات للدولة الفاشلة لا يتسع لمجال لذكرها جميعا هنا، يمكن من خلالها استخلاص الخصائص الأساسية للدولة التي يمكن أن توصف بالفشل وهي: وجود تحديات داخلية حادة تهدد بقاء الدولة ذاتها، أو بقاء نظامها السياسي؛ وجود حالة من العنف السياسي الشامل، أو صراع مسلح لا تتمكن الحكومة من احتوائه؛ وجود عجز في مؤسسات الدولة للقيام بوظائف الحكم، أو عجزها عن تأمين الحد الأدنى من الخدمات الأساسية للمواطنين، مثل النظام، والأمن، والسلام، والاستقرار… إلخ؛ وجود تشكك في قدرة النظام الحاكم على تمثيل الدولة في علاقاتها الخارجية. ولكن هذا لا يعني خلو هذا المفهوم من الإشكاليات. مع ملاحظة أن معظم هذه الخصائص إن لم تكن جميعها على الرغم من الإشكاليات المثارة بصددها تنطبق على حالة الدولة العراقية حاليا.
مقررات فشل الدولة: إن تعدد وتقاطع الهويات الفرعية في المجتمع، وإخفاق الدولة في أداء وظائفها بإدارة التعددية، لا سيما مع فشل نماذج الصهر الاجتماعي، يؤديان لفقدان ثقة المواطن في الدولة، وارتكانه لهوية جماعته الفرعية العرقية، أو المذهبية، أو الدينية، بما يؤدي لشيوع التعارض في المصالح المولد للعنف. وتتصاعد حدة هذه المعضلة مع تلاشي الولاء للدولة والمواطنة، وتصاعد الولاءات القومية، والدينية، والمذهبية، والقبلية كتعويض عن الولاء للوطن، وكإطار للحفاظ على وجود المواطن وأمنه، بما يؤدي لتفكيك المجتمع لوحدات متناحرة تتقاتل على تقسيم مناطق النفوذ، والسلطة والثروة. ويتمثل البعد الأكثر خطورة في معادلة العنف الهوياتي في ضعف الدولة، وتصاعد أوجه الخلل الهيكلي في أدائها لوظائفها، أو انحيازها لصالح أحد الفرقاء المتصارعين، بحيث تتورط في دوامة العنف الهوياتي كأحد أطرافه، بما يفقدها رأسمالها السياسي القائم على الحياد المفترض في إدارة الصراعات المجتمعية.

و أن الهوية الجماعية تقود إلى العنف فقط عندما تقترن برؤية منفردة بامتلاك الحقيقية المطلقة، والرؤية المتعالية للذات مقابل الأخر، بينما تتوارى الانتماءات الإنسانية المتعددة على اتساعها في خضم تلك الرؤية الأحادية. كما أن اختزال الهوية في البعد العقائدي القائم على الانغلاق على الذات يؤدي لتهيئة المجال لتأجيج العنف عل أساس الهوية، كأن تكون قومية أو دينية أو طائفية أو مناطقية، وهذا ما نلاحظه في العراق خصوصا بعد سقوط النظام السابق.إن تفكيك الدولة سيواجه بحالة هلامية الدولة، حيث يصعب معها بناء نظام سياسي، ولا سيما في حالة غياب البنى المؤسسية، وتزداد هذه الحالة تعقيدا عندما يكون بناء ذلك النظام من خارج الدولة وليس من داخلها. بمعنى آخر، أن دخول متغيرات خارجية (الرأسمالية الجديدة) بالمساهمة في تفكيكك الدولة في إحدى مراحل تاريخ بنائها كما في العراق، ليس بالضرورة أن يكون بمقدور تلك القوى إعادتها وفقا لغايات رأسمالية حداثية، كما تشير خطاباتها المعلنة؛ إذ تعطي هذه الخطابات أحيانا دلالات خاطئة (مضللة) حول مسألة الحرية والديمقراطية وسيادة مفاهيم الدولة الحديثة، إنما الأكثر احتمالا في حالة غياب مفهوم الدولة ومؤسساتها هو سيادة حالة عدم التوازن في المتضمنات الرئيسة لمكون الدولة في المدى المنظور في أقل تقدير. وهذا ما تمر به الدولة العراقية نتيجة افتقاد الكتل السياسية المتنفذة رؤية حداثية لبناء دولة المؤسسات دولة المواطنة الحقة بكل متضمناتها الدستورية والقانونية.

أدت محاولات فرض الديمقراطية عن طريق لاحتلال في العراق إلى تعقيدات لا نهاية لها. فعملية التحول الديمقراطي لها معطياتها وشروطها الداخلية التي يتعين توفيرها وإنضاجها، وهو ما يستغرق فترة زمنية طويلة نسبيا، خاصة في دولة مثل العراق تتسم بتنوع بنيتها العرقية والدينية والطائفية من ناحية، وطول فترة التسلط والاستبداد فيها من ناحية أخرى. كما أن مجرد الإطاحة بنظام متسلط في المنطقة لا يعني النجاح التلقائي في إحداث التحول الديمقراطي، حيث إن أحد العوامل الحاسمة في هذا السياق هو مدى نجاح قوة التدخل في إعادة بناء وهيكلة مؤسسات الدولة ووضع البنية الأساسية للتحول الديمقراطي، وهو أمر تحكمه اعتبارات عديدة، في مقدمتها الأوضاع الداخلية في العراق وأهداف وغايات المحتل الأساسية وهنا ينطبق الأمر خصوصا على الولايات المتحدة الأمريكية.

على الرغم من كثرة الحديث عن إعادة الأعمار في العراق، إلا أن ما تحقق على أرض الواقع محدود ومتواضع بكل المقاييس. وإذا كان هذا الأمر يمكن تفسيره في ضوء الأوضاع الأمنية، إلا أنه لا ينفي حقيقة أن هناك مشكلات ارتبطت بعملية إعادة الأعمار ذاتها، وبخاصة ما يتعلق بخطط إعادة الأعمار، وعمليات تمويلها وإدارتها، ناهيك عن حجم الفساد المرتبط بهذه العملية. وهذه الأوضاع خلفت مشكلات وتحديات جديدة تعقد بكل تأكيد عملية بناء مؤسسات ديمقراطية فاعلة ومعبرة شرعيا أصدق تعبير عن توجهات وطموحات وأماني المجتمع العراقي الذي عانى لعقود من تسلط الأنظمة المستبدة.

فيما يخص حنين قوى الإسلام السياسي للخلافة بحسب برهان غليون، فقد ساهم ارتباط الدولة العربية بالتبعية والخوف وعدم الاستقرار، فما كان لهذه الدولة، كما تجسدت بالفعل، أي كدولة القهر والحزب الواحد والإحباط، أي دولة نفي الحرية وتجديد مفاهيم التمييز والاستعباد، أن تقضي على ذكرى الإمبراطورية العربية الإسلامية القديمة. ولكنها عملت بالعكس على إحيائها وإضفاء طابع أكثر مثالية عليها بقدر ما كانت الدولة الوطنية تظهر العجز المزدوج عن شروط الاندماج الحقيقي في الحضارةالإنسانية والحداثة سياسيا واجتماعيا وثقافيا وحل مشاكل الأمن الداخلي والخارجي والرد على العدوان بأشكاله المختلفة.

ومن نافلة القول إن بناء شرعية السلطة على الدين، يضع المجال السياسي خارج أي نوع من أنواع التعاقد الذي يقوم عليه قوام الدولة الحديثة، ويقضي -حكما- بإخضاعه إلى فئة تستأثر به دون غيرها بحجة إنفرادها بهذا الحق الديني. وإذا كان الأمر يتعلق هنا بنظم سياسية معدودة فهو يتعلق أيضا بفريق كبير من المعارضة السياسية يكاد برنامجه يُختصر في شعار بناء الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة. وهكذا، إذا كانت السلطة الثيوقراطية تصنع عوائق في وجه أي انتقال ديمقراطي باسم الدين، فإن بعضا من المعارضة يساعدها في تغذية تلك العوائق وإعادة إنتاجها للسبب نفسه! وفي الحالتين، فإن الخاسر الأكبر هو إمكانية تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي يكون محط توافق على المستوى السياسي والاقتصادي الاجتماعي من قبل جميع القوى والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.

تثير إشكالية القطيعة والتواصل بين الدولة الحديثة في العراق والبنية العشائرية جدلا فكريا قبل أن يكون بحثا اجتماعيا. فقد استمرت روح العشيرة في العراق في التحكم نسبيا في العلاقات الاجتماعية بما هو خارج حدود المدن الرئيسة، وصمدت باعتبارها رابطة تضامنية، وتعززت في الظروف السياسية التي شهدها العراق بعد عام 1980 باندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، وبشكل خاص حرب عام 1991 التي نتجت عن غزو الكويت، حيث تداعى الأمن وتقلصت سيطرة الدولة لتنكفئ في بغداد وبعض مراكز المدن، فعادت الدولة لترعى شيوخ العشائر ووجوهها البارزة ولتبعث تضامن القبيلة باعتبارها رابطة لها وظيفة اجتماعية وقيمية في الدفاع عن المخاطر الخارجية والداخلية. وبعد عام 1991، أعيد تشكيل ثقافة الانتساب القبلي والبحث عن الأصول والأنساب، وإعطاء أدوار محددة لرؤساء القبائل، داخل البنية العشائرية في قضايا تتعلق بفض المنازعات والخلافات المحلية، وتشجيع قيادات شابة جديدة في أن تأخذ دورها داخل النسق الاجتماعي. وهذا ينطبق على ما أطلق عليه الباحث العراقي كريم حمزة بـ “تخادم الدولة والمشيخة”(15). وقد تعزز هذا الاتجاه أكثر بعد تغيير النظام عام 2003 وما أعقبه من انهيار مؤسسات الدولة أو تراجع دورها وضعف الأمن والاستقرار مما أدى إلى الاحتماء بالعشيرة للمحافظة على الوجود. وقد عززت الكتل السياسية المتنفذة هذا التوجه من خلال استثمار العلاقات العشائرية وتوظيفها سياسيا للفوز في الانتخابات المحلية والبرلمانية من خلال شراء الأصوات بشكل يكاد يكون علنيا.قد تحجم فئات مجتمعية عن المشاركة في الحياة العامة مثل الشباب، أو تواجه عقبات تحد من مشاركتها مثل المرأة. وفي كلتا الحالتين يصبح من الصعوبة إفراز كوادر قيادية، فمشاركة الشباب والمرأة هي جزء لا يتجزأ من تأهيلهم لتحمل مسؤولية قيادة مجتمعاتهم. ومن الملاحظ في البلدان العربية ضعف دور الشباب وعزوفه عن المشاركة، حيث أدى الميراث السياسي إلى غياب الاندفاع للمشاركة، وهي مشكلة لا تقتصر على تولي المناصب الرسمية أو المشاركة في الحياة السياسية فحسب، بل تتعدى ذلك إلى البعد عن ممارسة العمل التطوعي، إيمانا منهم بأن معايير الولاء تسمو على معايير الكفاءة والأداء، وهو الأمر الذي أدى في النهاية إلى غياب النخب الشابة عن المؤسسات السياسية والمجتمعية، أو تسطيح فكر هذه النخب في حالة انضمامها إلى أي إطار مؤسسي. وينطبق المنطق ذاته على المرأة التي لا تزال تناضل من أجل الحصول على حقوقها، حيث لا تزال الثقافة العربية تحتوي في أجزاء منها على مثبطات للإبداع مرتكنة إلى مرجعيات دينية وتقليدية ومناطقية والتي تقلص في النهاية من مساحة مشاركة المرأة بشكل فاعل اجتماعيا وسياسيا حتى لو اعتلت مناصبَ عليا تشريعية وتنفيذية في مؤسسات الدولة، ومثال العراق واضح في هذا المجال حيث يتعامل معظم الكتل السياسية المتنفذة وخصوصا الإسلامية منها مع دور المرأة لملء المناصب المتولدة عن نظام الكوتا.

في مقومات الدولة المدنية: لعل التوجهات الأساسية للفكر الغربي ابتداء من القرن السابع عشر (لوك، هوبز، كانت، سبينوزا، روسو، فيخته، … إلخ) كانت تصب في التفكير في كيفية نزع الطابع المطلق عن السياسة وفصل اللاهوتي عن السياسي حتى لا يتدثر ويتعلل به، ثم في كيفية ربط السياسة وقضايا المجتمع بمبدأ التعاقد (لا بمبدأ الاستلهام العلوي) وإدراج القضايا السياسية في نطاق التشريع والقانون أو الانتقال من المنظور اللاهوتي السياسي إلى المنظور التشريعي القانوني، وبالتالي تحويل المشروعية الثقافية من الأعلى إلى الأسفل ومن السماء إلى الأرض، أي إلى التاريخ الحي وربطها بالشرعية التمثيلية والقانونية والمواطنة وسيادة الشعب. وقد ساهم ماركس مساهمة كبرى في هذا الميدان، لكن منهجه في التحليل استند إلى المادية التاريخية وليس إلى التصورات المثالية. ولم تمر هذه الأفكار من دون مقاومة شديدة من قبل الكنيسة والشرائح المحافظة، ولكن في النهاية انتصرت هذه الأفكار بعد أن جرت غربلة التراث الديني ونقده بمنهج تاريخي، أي نزع الطابع المقدس عنه ومن ثم تحييد الدين عن السياسة. وقد مثل هذا نقلة نوعية كبرى ساهمت في إرساء أسس الدولة المدنية والتي احتاجت إلى وقت طويل كي تترسخ في البنية السياسية والاجتماعية والثقافية.

والدليل على ذلك فقد استغرق ترسيخ مبادئ الديمقراطية والحرية في بريطانيا والولايات المتحدة فترة طويلة قبل إنشاء المؤسسات الديمقراطية. وتوضح دراسة التاريخ الأمريكي أن مائة وخمسون عاما من البناء البطيء لمؤسسات ديمقراطية محلية في المستعمرات الثلاث عشرة قد سبقت صياغة دستور شبه ديمقراطي. ومر قرن وربع قرن أخرى قبل أن يتم تحقيق ما يمكن أن يطلق عليه “ديمقراطية كاملة”. وطوال هذه الفترة كانت الديمقراطية للأقلية من البيض الذكور الذين كانوا يتمتعون بحق المواطنة، أي كان هناك تمييز مؤسساتي جنسي على مستوى البيض وعنصري ضد المواطنين السود والملونين.

إن ما نشاهده من مرجعية ليبرالية عقائدية، ومنها الحريات الفردية، الاجتماعية منها والاقتصادية في ممارسة الغرب وامتداداته الحضارية للديمقراطية أحيانا، هي مسألة تاريخية تعود إلى أن الديمقراطية تطورت في العصر الحديث في مجتمعات ذات مرجعية ليبرالية، الأمر الذي جعل الممارسة الديمقراطية في هذه الدول تتأثر باختيارات وعقائد المجتمعات التي نشأت فيها، ولذلك فإنه من الطبيعي أيضا أن تتأثر مرجعية الممارسة الديمقراطية باختيارات وعقائد المجتمعات الأخرى التي تنتقل اليوم إلى نظم حكم ديمقراطي. وإذا كانت للمجتمعات تفضيلاتها، فإن نظام الحكم الديمقراطي له بالضرورة مقوماته أيضا، ولذلك فإنه لا بد لكل شعب يريد تفكيك الاستبداد أن يقوم مفكروه وقادته السياسيون بإجراء مقاربات جوهرية تزيل التعارض بين ما يسمى ثوابت مجتمعهم ومقومات نظام الحكم الديمقراطي، وذلك بالتركيز على جوهر كل منهما بعد إزالة ما علق بكل منهما من شوائب الممارسة التاريخية المتراكمة نتيجة قرون من هيمنة الثقافة الدينية التراثية النصية المحافظة دون أن تخضع للنقد المنهجي التاريخي لترك ما بات في عداد التراث الميت الذي لا يواكب تطور الحياة ومستجداتها. من المقومات الرئيسة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية وجود المجتمع المدني الذي يعد بمؤسساته أحد أعمدة النظام السياسي والمجتمعي. ولا توجد ديمقراطية حقيقية بدون دور فعال لهذه المؤسسات، وهذا الدور لا يقتصر على خدمة المجتمع فحسب، بل يتعدى ذلك إلى إفراز الكوادر القيادية وتدريبها على القيادة، ليصبح المجتمع المدني المخزن الذي لا ينضب للقيادات الجديدة، والمصدر المتجدد لإمداد المجتمع بهم. إلا أن هذا الدور، بالرغم من أهميته، لم يتم الاهتمام به بالقدر الكافي، في ظل المناخ السياسي السلبي الذي كان سائدا قبل مرحلة الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية. وقد ساعد على ذلك القيود القانونية التي عرقلت حركة هذه المؤسسات، ما جعل بعضها يدخل في معركة مع النظم الحاكمة لإثبات شرعيته، واتجه البعض الآخر إلى الخنوع. وقد أدى هذا في نهاية الأمر إلى تركز مهام مؤسسات المجتمع المدني في الجانب الخيري والحقوقي، وهو الأمر الذي أضفى عليها نوعا من الهشاشة انعكست بصورة أو أخرى على المهام المنوط بها تنفيذها، علما أن هذه المؤسسات استُغلت على نطاق واسع من قبل الحركات الإسلامية في النشاطات المشار إليها لتوسيع قاعدتها الاجتماعية خصوصا وسط الفئات الفقيرة.

تبنى كثير من المفكرين الحديث عن العدالة الاجتماعية ومؤشراتها، بحسبانها هدفا أسمى، يتوخى النظام الديمقراطي تحقيقه داخل المجتمع. وثمة عدد من المؤشرات المهمة الدالة على مدى تحقق العدالة الاجتماعية منها: المساواة في توزيع الدخل، بناء على تصنيفات كالوضع الاجتماعي والاقتصادي، والمهنة، والنوع. والمساواة في توزيع فرص العمل؛ ففي الدول المتقدمة والنامية، على حد سواء، صار توزيع فرص العمل هو المحدد الأساسي لتوزيع الدخل، وهو المؤشر الرئيس للعدالة الاجتماعية. والمساواة في حق وإمكانية الحصول على المعرفة، وهي ما يتعلق بمعدلات دخول المدارس والجامعات، وما يتعلق بجودة التعليم في المؤسسات والمناطق المختلفة، بحسبان التعليم مصدر الحصول على العمل ومؤشر على الحراك الاجتماعي. والمساواة في توزيع الخدمات الصحية، والأمن الاجتماعي، وتوفير البيئة الآمنة، وجودة هذه الخدمات. والمساواة في فرص المشاركة المدنية والسياسية، فطريقة تنظيم السلطة وتوزيعها بين مؤسسات المجتمع المختلفة تؤثر في كيفية رؤية المواطنين، وإيجاد مكانهم في السلم الاجتماعي، ومؤشر على العدالة الاجتماعية وجودا وعدما. غير أنه من المهم الإشارة إلى أن العدالة الاجتماعية لا تعني المساواة المطلقة، أي أنها لا تعني المساواة الحسابية في حصص أفراد المجتمع من الدخل أو الثروة. فمن الوارد أن تكون هناك فروق في هذه الحصص، بالتوافق مع الفروق والقدرات الفردية بين الناس. بيد أنه من المهم أن تكون اللا مساواة بين الناس في الدخل أو الثروة مقبولة اجتماعيا، بمعنى أنها تتحدد وفق معايير بعيدة عن الاستغلال والظلم، ومتوافق عليها اجتماعيا، على الأقل في مرحلة معينة. وهذا ما لا نلاحظه مثلا في العراق، حيث اتسعت الفجوة بين الثراء والفقر لذلك انعكست في اتساع نطاق الاستياء الشعبي، وترسخ الفساد المالي والإداري في جميع مفاصل الدولة، وفي هذه الحالة لا يمكن الحديث عن العدالة الاجتماعية مع ارتفاع معدل الفقر وتفشي وباء الفساد بمختلف تلاوينه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here