تروم الكثير من الدول بصنع المعجزات عبر تحقيقها نمو اقتصادي مميز

تروم الكثير من الدول بصنع المعجزات عبر تحقيقها نمواقتصادي مميز

أ.د.سلمان لطيف الياسري

لماذا تحقق بعض الدول معدلات نمو عالية بينما تبقى أخرى دون تحقيق نمو ملموس؟ وكيف تتفوق قطاعات صناعية على أخرى؟ ولماذا تصل بعض الدول أو المدن إلى مرحلة تحقيق “المعجزات” الاقتصادية بينما يعجز الآخرون؟

“مايكل بيست” أستاذ الاقتصاد في جامعة “ماساتشوستس” يقدم إجابات لتلك الأسئلة في كتابه “كيف يحدث النمو حقًا: صنع المعجزات الاقتصادية عن طريق الإنتاج والحكم الرشيد والمهارات”، مؤكدًا في بداية طرحه على ضرورة تضافر عناصر شتى في نفس الوقت لتحقيق النمو الاقتصادي.

ويسوق الكاتب ألمانيا بعد الحرب كـ”النموذج الأمثل” في تحقيق النمو، وذلك من خلال تبني خطة “ميتلاند” للأعمال، والذي أسهم في تخلص برلين من آثار الحرب العالمية في سرعة قياسية، بإقرار خطة جعلت الشركات الصغيرة والوسطى “عصب” الاقتصاد الألماني.

فالبرنامج قام على تشجيع الشركات التي لا تزيد عائداتها على 50 مليون دولار، ولا يزيد عدد موظفيها على 499 موظفا، لكي تحقق نموًا سريعًا من خلال سلسلة من الإعفاءات الضريبية التي وصلت إلى حد إعفاء الشركات التي تعاني الصعوبات المالية منها من الضرائب بشكل كامل.

وطوال عقود استمر عدد الشركات التي يشملها البرنامج، حتى يتوقع بلوغه 235 ألف شركة بحلول عام 2020، الكثير منها شركات صغيرة للغاية بل يمكن وصفها بـ”العائلية” بما يجعلها في حاجة إلى الدعم المستمر للبقاء ناجحة.

ولذلك كثيرًا ما تصف المراجع الاقتصادية النمو الألماني بأنه الأكثر استقرارًا في العالم، فمع وجود الشركات العملاقة، إلا أن الشركات المتوسطة والصغيرة بقيت تشكل حوالي 70-80% (الزيادة والنقصان) خلال العقود الخمسة الماضية بما يجعلها أقل تأثرًا بالتقلبات الاقتصادية من دول أخرى كبيرة وصناعية.

ولتلافي مواجهة الشركات العملاقة أقامت ألمانيا أكثر من مؤسسة بحثية بالشراكة بين القطاع الخاص والحكومة، بحيث تقدم نتائج أبحاثها للشركات الألمانية التي لا تستطيع مواجهة النفقات الكبيرة للغاية في الأبحاث والتطوير بالشركات العملاقة.

وكذلك شكلت مدينة “بوسطن” الأمريكية ومحيطها مثالًا واضحًا لتكامل السياسات من أجل النمو، حيث أقرت المدينة وجود مؤسسات تعليمية تعمل بالتوازي مع القطاع الخاص، بحيث تمدها باحتياجاتها من العمالة المدربة الماهرة الملائمة لسوق العمل.

وأدى هذا إلى تحقيق المدينة لمعدل نمو يقترب دومًا من ضعف معدل النمو الأمريكي العام، مع وجود 55 ألف شركة متفاوتة الحجم تعمل في صناعات متنوعة بين التكنولوجيا والتوربينات والمعدات الطبية وأدوات الاتصال وغيرها.

وفي المقابل، لم تتمكن المملكة المتحدة حتى الآن من المنافسة في العديد من الصناعات الرئيسية، ومن بينها على سبيل المثال صناعة السيارات، إذ لم تحظ الصناعات هناك بنفس الدعم الحكومي من تخفيضات ضريبية ومؤسسات بحثية، وغيرها من التسهيلات.

كما تأتي آيرلندا التي قدمت تسهيلات كبيرة للغاية للشركات متعددة الجنسيات كي تضع مقارًا رئيسية لها في البلاد، مما أسهم في تحقيق نمو متسارع في بداية التسعينيات بمعدلات وصلت إلى 6%، غير أن النمو تراجع كثيرًا بعدها بسبب عدم وجود سياسات متكاملة لتشجيع النمو على المستوى القومي وليس لقطاع بعينه.

وفي كثير من الأحيان ما تطبق بعض الدول ما تراه “وصفة” للنمو، بخفض أسعار الفائدة مثلًا لتشجيع الاستثمار، أو بخفض الضرائب، أو منح الإعفاءات من بعض المصروفات، دون نتيجة، وذلك للعديد من الأسباب إما لضعف البنية التحتية أو ضعف مستوى خريجي المؤسسات التعليمية أو بشكل أحرى لعدم تكامل السياسات مع بعضها البعض.

ويرسم “بيست” ما يصفها بخارطة طريق” للدول الراغبة في تحقيق النمو، أولها في الاهتمام بشكل خاص بتشجيع الشركات المتوسطة والصغيرة، مع الاهتمام بالمؤسسات التعليمية التي توفر الاحتياجات الملائمة للسوق والأهم من ذلك تحديد المجالات التي ترغب الدولة في تنميتها وهي تلك التي تتمتع بميزة نسبية واضحة فيها، وإقرار سلسلة بلا “حلقة ضعف” تجعل الجهود الحكومية والخاصة كأن لم تكن.

هل تُصبح كوريا الشمالية “النمر الاقتصادي” المقبل؟خلال العقد الأخير فحسب اضطرت الأمم المتحدة لتقديم مساعدات غذائية لكوريا الشمالية بحوالي مليار ونصف المليار دولار، لتساهم في إطعام أكثر من 6.5 مليون شخص هناك يشكلون حوالي ربع السكان في الدولة الآسيوية.وأرجعت الأمم المتحدة الحالة الاقتصادية والإنسانية السيئة لـ”بيونج يانج” إلى اعتمادها على نظام اقتصادي شيوعي يُدار بالكامل من جانب الدولة التي تسيطر على جميع وسائل الإنتاج، بل والتوزيع والبيع بالتجزئة، في ظل تراجع واضح للكفاءة في إدارة تلك الموارد.
ومع التعديل الكبير في سياسات كوريا الشمالية الخارجية بدأت في تغيير سياساتها الاقتصادية أيضاً، حيث كانت الدولة تسيطر بالكامل على وسائل التوزيع بوجود 600 منفذ توزيع (كشك) في المدن الصغيرة (30 ألف نسمة) ليصل الرقم إلى ألفي كشك في المدن الكبيرة (70 ألف نسمة أو أكثر).

وبدأت الدولة قبل عامين في إسناد مهمة إدارة تلك الأكشاك إلى القطاع الخاص، وتحديداً بعض الأفراد، ليقول 17% من المواطنين في استطلاع حكومي إنهم بدأوا يحصلون على السلع من القطاع الخاص (الذي يحصل على السلع من الحكومة حتى الآن) بعد أن كان 100% منهم يحصلون عليها من الحكومة عام 2016.

وقللت الدولة نسبة ما يحصل عليه الفرد من الدخل على هيئة سلع، حيث تراوحت تلك النسبة قبل 3 أعوام بين 35-50% من الدخل الفردي، لتصل حالياً إلى 20% فحسب بما يجعل المواطن أكثر حرية في إنفاق ما يحصل عليه من دخل.

وتختلف تقديرات آثار التغيرات الكورية على الاقتصاد بين ما تعلنه الدولة رسمياً وبين ما يقدره أطراف أخرى، ففي الوقت الذي أعلنت كوريا الشمالية عن نمو اقتصادها بنسبة 3.7% خلال 2017 بفعل “التغييرات العميقة” في الاقتصاد، تؤكد جارتها الجنوبية انكماش الاقتصاد بنسبة مقاربة، بينما تقدر الحكومة الأسترالية نمو الاقتصاد بنسبة 1.5% فحسب.

وبغض النظر عن أي تلك النسب صحيحة إلا أنها –حتى وإن كانت سالبة- تشكل تقدماً للاقتصاد هناك، في ظل تحقيقه لمعدلات سالبة متواصلة تخطت 5% خلال أعوام سابقة، خاصة مع توقع وزارة الخزانة الأمريكية لتحقيق “بيونج يانج” لمعدل نمو 4% خلال 2018 (لم تعلن إحصاءات رسمية حتى الآن).

وعلى الرغم من عدم وجود إعلان رسمي كوري حتى الآن، فإن الدولة الشيوعية تبدو في سبيلها لتبني التجربة الفيتنامية في التحول من الاقتصاد المركزي إلى الحر، وذلك يتضح من خلال استضافة خبراء اقتصاديين فيتناميين لنقل الخبرات في التحول الاقتصادي.

وبدأت الدولة بالفعل بإعلان مؤشرات اقتصادية كانت تعدها “سرية” قبل ذلك، ومنها حجم الناتج المحلي الإجمالي (30 مليار دولار في 2017) ومعدل نمو السكان (3.2% في عام 2016)، فيما تعد الخطوة الأولى التي اتخذتها فيتنام من أجل اندماج أكبر في الاقتصاد العالمي.

وتناول مسؤولون صينيون أيضاً انفتاح قطاعي المنسوجات والصيد في كوريا الشمالية بشكل نسبي على الصين، حيث صدرت “بيونج يانج” ما قيمته 300 مليون دولار منسوجات إلى بكين خلال 2017، بينما لم تكن الدولة الشيوعية تصدر أي شيء بخلاف المعادن والفحم للصين قبل ذلك.

وعلى الرغم من محدودية أرقام تلك الصادرات، إلا أنها تبدو ضخمة بالنسبة لحجم اقتصاد الدولة، خاصة في ظل تقدير مجمل صادراتها للعالم الخارجي بحوالي 3 مليارات دولار فحسب قبل 4 أعوام، لتصبح الصادرات من الأسماك والمنسوجات حوالي 10%.

وأشار مسؤول صيني لـ”فوربس” إلى نية “بيونج يانج” تحقيق قدر أكبر من الانفتاح الاقتصادي، من خلال إسناد مهام البحث عن المواد الخام والنفط والفحم إلى شركات أجنبية، وقد تبدأ الدولة برامج في هذا الإطار خلال العام المقبل.

وتصل “بلومبرج” إلى حد اعتبار أن كوريا الشمالية قادرة على التحول لـ”نمر آسيوي” خلال أعوام معدودة في ظل الدعمين الأمريكي والصيني من جهة، وفي ظل تغير اتجاه الدولة الاقتصادي “النسبي” من جهة، وفي إطار وجود مجالات كثيرة للغاية في التوسع الاقتصادي وفي مقدمتها البنية التحتية.

وتُحذر مجلة “فورين بوليسي” من “تراجع” كوري شمالي مفاجئ محتمل عن سياسات التحول الاقتصادي إذا ما اكتشفت الحكومة هناك أن لذلك تأثيرات في توجيه المجتمع ليصبح أقل مركزية اجتماعياً وسياسياً، غير أن ارتباط بيونج يانج مع بكين يجعل من الممكن لها تحقيق الانفتاح الاقتصادي (النسبي) مع الاحتفاظ بالنظام السياسي والاجتماعي الداخلي كما هو بالاستفادة من التجربة الصينية في هذا المجال.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here