كيف تكون بعض الفصائل و المليشيات والاحزاب اقوى من الدولة

كيف تكون بعض الفصائل و المليشيات والاحزاب اقوى من الدولة

د.كرار حيدر الموسوي

متى بدأت الميليشيات في العراق؟ تمتد جذور الميليشيات في العراق إلى ما قبل 2003، تاريخ سقوط النظام السابق. امتلكت البيشمركة الكردية وقوات بدر الشيعية مسلحين مدربين، استهدفوا قوات الأمن والجيش العراقي السابق، ودخلوا في مواجهات عديدة معهم تحت عنوان “الجهاد والمقاومة” ضد نظام صدام حسين. الاحتلال الأمريكي وغياب الدولة بعد 2003 أدى إلى ظهور فصائل مسلحة جديدة، لكن هذه المرة تحت شعار “مقاومة الاحتلال”. أهمها جيش المهدي (سرايا السلام حاليا) التابعة لرجل الدين مقتدى الصدر، إضافة إلى فصائل مسلحة شيعية وسنيّة أخرى. وبجانب مقاومتها لجيوش التحالف الدولي، دخلت هذه الفصائل في مواجهات دامية مع الجيش وقوات الأمن العراقي نتيجة اختلاف المواقف من الاحتلال الأمريكي بين الموقف الحكومي الرسمي المرحّب وموقف الميليشيات الرافض للاحتلال.
لحكومة ضمن الجيش وقوى الأمن تقديرا لتاريخهم “الجهادي” من جهة ومحاولة ترشيد استخدامهم من جهة أخرى. لم تنجح هذه الخطة كثيراً حيث تحولت عبارة “ضابط دمج” شعبيًا لـ”شتيمة ودلالة على قلة الكفاءة وانعدام المهنية”؛ نظرا لفشل عناصر الميليشيات في المواقع التي عملوا فيها.
نقطة التحول المفصلية بالنسبة للميليشيات كانت سقوط الموصل في يد داعش 2014 وتحريرها 2017. وفرت لحظة سقوط الموصل وانهيار الجيش الشرعية الشعبية للميليشيات؛ للتدخل بشكل صريح ومباشر على الأرض للقتال ضد تنظيم “داعش” الإرهابي. أما لحظة التحرير فقد أكسبت المنتصرين المحررين قاعدة جماهيرية ظهرت آثارها على الأرض في الانتخابات التشريعية الأخيرة. وضمت أغلب الفصائل المسلحة تحت مظلة هيئة حكومية تُسمى “الحشد الشعبي” لاحقا، في محاولة حكومية جديدة لاحتوائها.

قصة انتشار الأسلحة-قصة السلاح في العراق تبدأ من العائلة، حيث تمتلك أغلب العوائل سلاحا شخصيا خفيفا في البيت، وتمتد إلى العشيرة التي تمتلك إضافة إلى سلاح أفرادها الشخصي الخفيف، أسلحة متوسطة.أما الميليشيات فهي تمتلك أسلحة متنوعة تصل إلى الثقيلة وأسلحة الجيوش النظامية. الميليشيات جزء من قصة السلاح وانتشاره، وأي محاولة لنزع السلاح لابد أن تاخذ هذه الأطراف المتداخلة جميعا بنظر الاعتبار.مع تقدم العملية السياسية، وجدت الميليشيات أن نهج المقاومة والسلاح وحده لن يضمن مصالحها وأنها لابد أن تنخرط في العملية السياسية لتنافس أصحاب الياقات البيضاء.الأحزاب السياسية بدورها أدركت أهمية العمق والتأثير الذي يوفره سلاح الميليشيات، فقامت بتبني ميليشيات جاهزة أو انشاء واحدة جديدة توفر لها الحماية والمساندة اللازمة عند الحاجة.إضافة للذراع السياسي، تمتلك الأحزاب لجانا اقتصادية، وهي تعبير لطيف عن الطريقة التي يحصل فيها الحزب على الأموال بصورة غير شرعية غالبًا، وشبه شرعية في بعض الأحيان.يُستخدم هذا المال، ضمن استخدامات أخرى؛ لتمويل الذراع المسلح للحزب. التمويل الخارجي أساسي ايضا سواء بالمال أو بالسلاح.إذا كنت تعتقد أن الوضع معقد. صدقني هو أعقد من ذلك بكثير على أرض الواقع الحقيقة. حاولت تبسيطه واختصاره قدر الإمكان بحيث وضعته على شكل نقاط منفصلة لا بشكل سردي.
الميليشيات والدولة.. طرفان أم طرف واحد؟لايوجد حد فاصل حاليا بين ماهو داخل وخارج القانون بالنسبة للميليشيات والسلاح بصورة عامة. السلطات الرئيسية الثلاث في العراق (التشريعية والتنفيذية والقضائية) والتي تمثل الدولة، ليست نداً ولاطرفاً مقابلا للميليشيات حتى تستطيع أن تحاسبها على استخدامها للسلاح.الميليشيات دخلت البرلمان عبر أذرعها السياسية أو الأحزاب المتحالفة المستقوية بها. السلطة التنفيذية انعكاس للتشريعية وتتشكل حسب الكتل البرلمانية، وبالتالي فالميليشيات بهذا المعنى جزء من الحكومة.بعد هذا لا نتوقع من أي قاضي في السلطة القضائية يقدر قيمة حياته وحياة عائلته أن يجازف بتحدي الميليشيات في أي قضية صغيرة كانت أو كبيرة.عليه، لايمكن في الحقيقة وصف هذه القوى بالميليشيات، لأن الكلمة توحي بدلالتين، الأولى أن هناك دولة، والثانية أن هناك قوى مسلحة خارج نطاق الدولة. بينما على أرض الواقع نجد أن الدولة والميليشيات متداخلتان بعمق ولا يمكن فصلهما حتى الآن.
خدعة نزع الأسلحة -رغم هذا تظهر دعوات نزع سلاح الميليشيات بين فترة وأخرى كحركة استعراضية روتينية ضمن التنافس السياسي والانتخابي أو كرد فعل على حدث كبير كانفجار مخزن الأسلحة الأخير والذي حدث وسط منطقة سكنية في مدينة الصدر في العاصمة بغداد .

لا توجد آذان صاغية لمثل هذه الدعوات، ولا لسان جديّ في الحقيقة. الجميع متورط والجميع يتنافس في تقوية ميليشياته، لا إضعافها بنزع سلاحها.لا يمكن أن تتخلى الاحزاب “السياسية الميليشياوية” عن سلاحها ونقطة قوتها طواعية كبادرة حسن نية؛ لو توفرت النية الحسنة لما احتاجوا السلاح من الأصل، السلاح موجود لتحاول القوى السياسية فرض نواياها السيئة على بعض.
الوضع إلى أين؟من مصلحة الميليشيات أن يبقى وضع الدولة على ماهو عليه الآن، لا أقوى ولا أضعف. دولة أقوى ستجردهم من نقطة قوتهم وتخضعهم لسلطة القانون.بعض الميليشيات لا تملك وجودا خارج السلاح. تجريدها من السلاح يعني القضاء عليها نهائياً، وعليه فهي ستدافع عن وجودها ضد نسخة الدولة الأقوى.أما الدولة الأضعف. حسنا، في الحقيقة لا توجد دولة أضعف من هذا الوضع، الأضعف معناه سندخل مرحلة اللادولة، والميليشيات جربت وضع اللادولة هذا في مواقف معينة ووجدت نفسها في صراع مباشر وجها لوجه مع غرمائها من الميليشيات الأخرى.إذن. الوضع المثالي هو أن يبقى جسد الدولة مريضا على أجهزة الإنعاش، لا هو قوي ليفرض سلطته على أبنائه ولا هو ميت فيقتتلون على إرثه.هناك اتفاق غير مكتوب بين القوى السياسية والميليشيات، لندّعي أن الدولة موجودة، لكن لنتصرف كأنها غير موجودة.
و تتحدث وكالات أنباء متعددة دولية و إقليمية بأنه، من المتوقع أن ينقطع الدعم الإيراني للميليشيات الولائية، بسبب الضائقة المالية التي تعيشها إيران و تصاعد التذمر الشعبي فيها، و بسبب تأثير احتمالات تعثّر و انقطاع أموال الفساد في دوائر الدولة العراقية عن وكلائها و مكاتبهم الاقتصادية لأنها صارت تحت مراقبة أقوى، بسبب انتفاضة تشرين على واقع الحياة المزري،التي ادّت الى استقالة رئيس وزراء و مجئ رئيس جديد وعد بمكافحة الفساد و بدأ باجراء تنقلات أمنية، إضافة الى انفضاح الفساد الهائل في المنافذ الحدودية و بدء السيطرة عليها حكومياً في محافظة ديالى . .

ليصل محللون الى أن ايران قد تذهب الى إجراء تنازلات في تحدياتها في محاولة الى تسويات تشمل تخليّها عن ميليشيات عراقية عائدة لها، لإبعاد الصراع الأميركي ـ الايراني عن خطر اشتعال الصدام بينهما عسكرياً مهما كان شكله، في ظروف تتوالى فيها أنباء اكّدها مصدر إعلامي إيراني عن وقوع انفجارات و حرائق كبرى في أماكن حساسة داخل إيران تسببت بخسائر مالية كبيرة لها . و في ظروف أعلنت فيها قيادة حزب الله اللبناني عن دعمها للجهود الرامية الى الحصول على المساعدات الاميركية لحل الأزمة التي تعيشها لبنان الآن، كما تناقلت صحف و وسائل إعلام دولية و اقليمية، مذكّرة باتفاقية حزب الله اللبناني مع اسرائيل عام 1996، بالتخلي عن استخدام العنف و اعتماد الطرق السلمية لحل الخلافات بينهما!

و يرى مراقبون بأن عودة اندلاع التظاهرات المطلبية في محافظات الجنوب بسبب الفقر و البطالة و مأساة كورونا و الإجراءات الوقائية غير المنظّمة بعد الفشل في صدّ الوباء بداية، بسبب عدم غلق الحدود الشرقية كما مرّ و غيرها، التي أوصلت أكثر من 35% من نفوس البلاد الى مستوى مادون الفقر وفق إحصاءات دولية يُعتمد على صدقيتها . . التظاهرات التي أذكاها الصيف الحارق و انقطاع الكهرباء و الماء الصالح للاستهلاك البشري، و يرون بأنها قد تتطور الى مستويات أعلى نوعاً و كمّاً مما بدأت به في بدء تظاهرات انتفاضة تشرين البطولية 2019 رغم إجراءات كورونا، بسبب الجوع و العطش و الحر القاتل . . يصفه قسم بانه قد يكون انفجاراً شعبياً يصعب تقديره أو السيطرة عليه، في ظروف لم تعد للحياة معنى فيها و ظروف لم يعد للخوف مكان فيها وما يزيد الأمور حدّة و تعقيداً، هو إصرار الميليشيات الولائية على مواقفها المتشددة من حصر السلاح بيد الدولة الذي قد يعيق الدولة عن البدء بمكافحة حيتان الفساد الكبار بالطرق السلمية رغم الشعارات المنافقة لتلك الميليشيات، و بسبب إصرارها على صراع الدولة و اللادولة، في الظروف القاهرة التي تعيشها البلاد التي تتطلب بالحاح وجود دولة واضحة و بكيان و حدود ثابتة و قانون نافذ، في زمن لم يعد فيه إخفاء حقيقة مايدور أمام دول العالم ممكناً . . دولة قانونية، لتحصل على دعم دول العالم في مواجهة الكارثة الصحية و المالية، و لكي تضمن تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه دولياً، و لكي تحدّ من تسرّب العملات الصعبة الى أيادٍ تشكّل خطراً على أمن المنطقة و العالم (تابع التقارير المالية للاتحاد الأوروبي و لوزارات الخزانة الاميركية و البريطانية للأشهر الجارية , حتى وصل الأمر بالمفوضية الأوروبية الى، وضع العراق باقليمه على اللائحة السوداء للدول التي تمارس اللاقانون و غسل الأموال و تزوير الوثائق و إقامات الارهابيين و تمويلهم، الذي سيؤدي بالبلاد الى وقف الاستثمارات فيها، و أن يشيح المستثمرون عنها أكثر، خوفاً على أموالهم، و يؤدي بالبلاد الى الحضيض بسمعتها و آفاقها و مدى الثقة بصدقية طلباتها للنجدة و الثقة بعقودها و على رأسها القروض و المساعدات المُلحّة الآن للاجراءات الصحية (بضمنها التعويضات) و الكهرباء و رواتب الموظفين و المتقاعدين و المعونات الاجتماعية و الحصة التموينية و تطالب الجماهير السيد الكاظمي التحلي بجرأة أكبر لتقديم عدد من قتلة المتظاهرين الى العدالة، و تقديم عدد من حيتان الفساد للقضاء، و إسنادها العملي العاجل في مشكلة الكهرباء الأكثر التهاباً . . لكسب ثقة أوسع الأوساط الشعبية و المهنية، و لكسب تكاتف جهود الجميع للوقوف معاً في ظرف تُرك فيه العراق الثريّ الكبير لوحده عاجزاً، في أقوى أزمة يمرّ بها كدولة و ككيان باطيافه، و لرفع نداء الروح الوطنية الحيّة عالياً . .

من جهة أخرى، و في وقت خففت فيه إعادة الحكومة منفذ مندلي لسلطتها (و مُنتظر استكمالها باعادة هيكلة الجهاز الضريبي و الرسوم و اتمتة المنافذ)، خففت من القلق الواسع على الواقع الجاري، و شكّلت بداية مقبولة على الأقل، بعد الإحباط بسبب إشكاليات و تأخّر رواتب المتقاعدين، و حادثة الدورة. فإن أوساط خبيرة تحذّر من لجوء الميليشيات حامية الفساد، الى العنف بالسلاح المنفلت الذي شكّل اغتيال الخبير الأمني الوطني الشهيد هشام الهاشمي به، ببرود و بتلك الصورة العلنية لإثارة الخوف في أوساط الرأي العام، إشارة بأن الأوساط الإسلاموية الحاكمة مهما كانت ألوانها و أجيريها تستعد لإعادة فتح مسلسل الإغتيالات من جديد، بحق الكلمة الحق و بحق الناشطين العزّل، لتهديد الحكومة و لمواجهة الجماهير بالعنف، و تتوقع انفجار السخط الشعبي الذي قد يصعب تنظيمه و السيطرة عليه، إن لم تبدأ إجراءات عاجلة حياتية تطالب بها مراراً سلميّاً كما مرًّ،فإن انفجاراً أكبر من السابق بدأت معالمه تظهر في مدن الجنوب، بفرض الجماهير إرادتها بعزل إداريين و مسؤولي الكهرباء و الماء، و توليّ قسم منهم تشغيل آليات تلك المرافق وفق ما يمكن الحصول عليه.

في ظروف تبدو فيها و كأن ايران تسحب يدها من الميليشيات الولائية و لو آنيّاً لضيقها المالي و العسكري، رغم تأكيدات السفير الإيراني على انهم باقون مادام الأميركان متواجدون، و تبدو فيها أن تلك الميليشيات تمر بظرف صعب عليها، لإيجاد قائد يقودها مكان ابو مهدي المهندس و غياب الجنرال سليماني، و تحاول إحداها فرض قيادتها على جميعها بدعم جهات إيرانية و لبنانية . .

و إن إدارة ترامب و هي على اعتاب انتخابات جديدة في اكتوبر القادم، تحاول ان لاتتخذ خطوات متسرعة و عسكرية، و تنتظر نتائج محادثات مبعوثيها مع الحكومة الإيرانية لتخفيف حدة التوتر، و تنتظر أيضاً نتائج مفاوضاتها غير المعلن عنها الجارية مع الميليشيات الولائية (وفق صحف و وكالات أنباء و مواقع عالمية و تصريحات برلمانيين على الفضائيات ووسط كل تلك العوامل، يرون بأنها تشكّل فرصة للسيد الكاظمي للبدء الفوري عملياً باجراء إصلاحات و تغييرات أكبر، على هدي المطالب الملحة للمتظاهرين في وقت الصراع المحتدم مع وباء كورونا، و سيجد أن الجماهير باختلاف طيفها ستكون معه و رهن إشارته، فلا طريق إلا طريق التغيير الحقيقي و فرض الدولة بأنها الوحيدة التي تحصر السلاح، و ليس السلاح المنفلت هو الذي يحصرها

و تسعى الميليشيات الولائية الى تعزيز مشروع اللادولة في العراق من خلال مواجهة أي مساعي لفرض سلطة الدولة وحصر أسلحة الميليشيات في المرحلة المقبلة و المحلل السياسي نجم القصاب أكد أن قوة الميليشيات الخارجة عن القانون تفوق بكثير قوة الدولة العراقية وقال القصاب في تصريح لوكالة يقين: إن “تلك الفصائل تسعى لتعزيز مشروع اللادولة في البلاد وتحاول أن تبقي الدولة الضعيفة, لكن القصاب استبعد أن تمرد جميع فصائل الحشد الشعبي على الدولة، وبين ان 90 بالمئة منها ترغب بأن تكون جزءا من المنظومة الأمنية الحكومية ويشكك خبراء أمنيون عراقيون بقدرة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على إدارة مرحلة الصراع مع الميليشيات الموالية لإيران، فيما أكدوا أن إيران تخضوع حربا غير مباشرة مع الولايات المتحدة على الأراضي العراقية من خلال الفصائل القريبة منها وقال الخبير الأمني علاء النشوع في تصريح لوكالة يقين: إن “الكاظمي ضعيف ولا يمتلك القدرة على قيادة المرحلة الحالية، ودليل ذلك ما حدث في المنافذ الحدودية التي تسلمها من الفاسدين وسلمها لجهات عسكرية موالية لإيران متمثلة بقوات الرد السريع وكشف الخبير العسكري عن أن خطوات الكاظمي لضرب الميليشيات كانت خاطئة، وكان الاولى به أن يضرب تلك الفصائل ببعضها أو ان يبدأ بالميليشيات الصغيرة والضعيفة ومن ثم يتجه نحو كتائب حزب الله.

اضطلعت إيران منذ سقوط نظام الشاه عام 1979 بمهمة التخطيط لتغيير معادلات التوازن القائمة في المنطقة ولعب دور إقليمي يعزز من نفوذها وذلك بالقيام بمهام خارج حدودها الجغرافية لتعزيز أمنها القومي عن طريق إضعاف قدرات جاراتها وممارسة التدخل في شؤونها الداخلية وتتلخص هذه المهام بالعمل على تحويل الدول التي تقع ضمن دائرة اهتماماتها إلى«دول فاشلة» بمعنى جعل حكوماتها ضعيفة تفتقد القدرة على ممارسة مهامها. النموذج الذي نجحت فيه إيران إلى حد بعيد هو النموذج اللبناني، فالميليشيا المسلحة تحت مسمى «حزب الله» التي تأسست عام 1982 بإرادة وأموال إيرانية أصبحت أداة السيطرة على القرار اللبناني حين أصبحت قوتها تفوق قوة الجيش اللبناني وها هي تثبت قدرتها على شل عمل الدولة، حيث يفشل المجلس النيابي للمرة الخامسة والأربعين في العشرين من سبتمبر المنصرم في عقد اجتماع لانتخاب رئيس الجمهورية وهو المنصب الشاغر منذ ثلاثين شهراً.

هذا النموذج يجري تسويقه في كل من العراق وسوريا واليمن وربما في دول أخرى، حيث تصبح الميليشيات المسلحة أقوى من جيوش هذه الدول. ففي العراق يصرح قائد إحدى الميليشيات وهو يستعرض قواته في إحدى المدن بأن هذه الميليشيا قد أصبحت أقوى من الجيش العراقي وأقوى من الشرطة الاتحادية متجاهلاً ما لتصريح كهذا من تعريض بالجيش الذي يعتبر رمزاً لوحدة الوطن وفي اليمن يعلن الحوثيون عن تصميمهم على الاحتفاظ بالصواريخ البالستية كشرط لاستمرار المفاوضات مع وفد الحكومة الشرعية في رفض ضمني للمبادرة التي تقدم بها وزير الخارجية الأميركي لحل الأزمة اليمنية التي من أسسها نزع السلاح خارج الدولة بناء الدولة يعني بناء الأطر والهياكل الإدارية لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفق دستور يكون بمثابة عقد اجتماعي بين الطرفين، وهو هدف يشترك في الرغبة لتحقيقه الشعب بكامل مكوناته وألوانه وأطيافه ولكن ذلك لا يمنع أن يكون هناك منظمات مستقلة عن الجهاز الإداري للدولة تسهم إيجابياً بأنشطة مدنية اجتماعية وثقافية وتمارس أعمالها منطلقة من شرعية تقر بها الدولة فهي منظمات مرخصة للعمل وفق الدستور ووفق القوانين المتفرعة عنه ولا تتعارض مع الأعراف السائدة في المجتمع. إلا أن الميليشيات غير ذلك فهي فصائل مسلحة لها أجهزة إدارية ومالية واستخبارية تخدم ديمومة أنشطتها، ليست مستقلة عن أجهزة الدولة فحسب بل بديلاً عنها، وهي تتشكل في ظروف خاصة تصاب بها الدولة بالضعف والعجز عن أداء مهامها لتسمح لهذه الميليشيات بفرض حلول غير قادرة على فرضها وفق الأطر الدستورية لصالح أجندة سياسية ضيقة ترتبط في أغلب الأحيان بأهداف دولة أخرى , فقد تجر هذه الميليشيات دولها إلى مواقف سياسية تحرجها وتفسد علاقاتها مع دول أخرى وقد تفرض عليها خوض حروب لم تختارها ولا يوجد نص دستوري في أية دولة في العالم يسمح بحيازة أسلحة غير شخصية، فالمدافع والصواريخ وأنواع الأسلحة الأخرى التي في حيازة الميليشيات هي إحدى الظواهر البارزة في الدولة الفاشلة العاجزة عن فرض هيبتها , تتستر هذه الميليشيات عادة تحت أغطية وشعارات سياسية مختلفة لتمرير مشاريعها كشعار«المقاومة» كما يتحجج بذلك حزب الله في لبنان أو الوقوف بوجه تنظيم «القاعدة» كما حاول الحوثيون تسويق مشروعهم أو مكافحة «الإرهاب» والتصدي لتنظيم داعش كما يسوق قادة الميليشيات أنفسهم في العراق . علماً بأن أنشطة هذه الميليشيات وممارساتها لا تنسجم تماماً مع شعارات كهذه، فهي قد تشكلت أصلاً لأغراض أبعد من ذلك تخدم أهدافاً سياسية لدولة أخرى أو لتثبيت زعامات محلية لا تستطيع فرض وجودها بالطرائق الديمقراطية التي تعتمد على قدراتها في كسب تعاطف الجماهير و إن أخطر التهديدات للأمن والسلم المجتمعي هو ضعف الدولة وتآكل شرعيتها وتراجع مصداقيتها وفقدانها القدرة على ضمان سلامة البلد وضمان أمنه القومي وسلامة مواطنيه والحفاظ على ثرواته، فضعف الدولة هو الذي يسمح لقوى أخرى بالظهور وممارسة دور مشابه لدورها وفق قواعد أخرى وأساليب مختلفة وأهداف مشبوهة. إن تأسيس الدولة ليس بالأمر الهين وإذا رجعنا لتأريخ تأسيس الدول العربية الحديثة لوجدنا أن المخاض لذلك كان عسيراً في أغلب الأحيان تطلب مساعي حثيثة على أمد طويل من قبل المؤسسين الأوائل للتغلب على الإعاقات الداخلية والخارجية فتأسيس الدولة نقلة كبيرة في توازنات المنطقة سياسياً واقتصادياً وتغير جذري في حياة الفرد والمجتمع الذي يكتسب بعداً نفسياً يتسم بالزهو والكبرياء حين يكتسب السيادة على أرضه ويمتلك الخيارات في قراراته، لذلك يصبح التفريط بالدولة والاستهانة بسيادتها من الكبائر. هوية الدولة وليس الهوية الدينية أو الطائفية أو العرقية أو القبلية هي التي يقدم بها الفرد نفسه أمام بقية العالم ,ستجد شعوب هذه البلدان التي تعيث فيها الميليشيات فساداً والتي تدفع ثمناً باهظاً بسبب غياب دور الدولة وتراجع هيبتها أن عليها أن تدفع المزيد ولكن هذه المرة لاسترجاع الدولة لأنها ستكون مضطرة في نهاية المطاف للوقوف بوجه هذه الميليشيات لنزع أسلحتها وتفكيك تنظيماتها وإعادة تأهيل منتسبيها في الأطر الوطنية للدولة رغم الصعوبات التي تقف أمام ذلك والتي أبرزها التعامل مع نزعة الولاء للطائفة التي نمت وتضخمت وتجذرت في الآونة الأخيرة وتقدمت على نزعة الولاء للوطن لتعيد بذلك توازنات القوى في المنطقة لتصبح في صالح شعوبها.

الحديث عن أي إصلاح في العراق يغدو حديث خرافة إن لم تتحرر البلاد من هيمنة الميليشيات الموالية لإيران ومن النفوذ الإيراني، وهو هدف ما زالت ثورة الشباب التحررية تسعى إلى تحقيقه وأهداف مكشوفة
ما زالت قضية مداهمة قوات مكافحة الإرهاب، ليلة 25 و26 يونيو الماضي، مقرا لكتائب حزب الله جنوبي بغداد، تتفاعل في الشارع العراقي، وبينت الإجراءات، التي اتخذتها حكومة الكاظمي بإطلاق سراح المعتقلين من الميليشيات، الذين ألقي القبض عليهم، في المقر المذكور، أن الأمر لا يعدو إلّا أن يكون لعبة إيرانية لترسيخ نفوذ طهران في العراق وإظهار أن ميليشياتها أقوى من الدولة العراقية، بل إنها هي التي تقود هذه الدولة وتسيطر على مفاصلها جميعا.
بات معروفا للجميع أن واحدة من بديهيات الواقع، التي وضعت مقدماتها حكومة الجعفري سنة 2005 أن الأولوية للميليشيات، فأصبح فيلق بدر ذراع البطش بالتعاون مع هادي العامري وجبر صولاغ، وأسس لذلك لاحقا وأقام قواعده نوري المالكي، ففي عهده، أصبح تغوّل الميليشيات سافرا، وكان ملجأ الجادرية محطتها الأولى، قبل أن تمدّ خطوطها إلى مؤسسات الدولة وتفرض سيطرتها. وقد استعان المالكي بها في تصفية خصوم ولاية الفقيه، وكان لها دور في تصفية الطيارين العراقيين، واختطاف العشرات من صقور القوة الجوية وتغييبهم، لتفتح جبهة عريضة شملت أصحاب الكفاءات والخبراء والعلماء في الطاقة النووية والتصنيع العسكري والأطباء وأساتذة الجامعات.
ثلاثة عملوا على استحداث الحشد هم، محمد رضا السيستاني، نجل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، ورئيس الحكومة، حينها، ونوري المالكي، وقائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، بعد أن حددوا للحشد ثلاث مهمات؛ الأولى، الحفاظ على حكومة آل البيت في العراق، حسب وصف المالكي، والثانية مواجهة داعش، والثالثة ضمان الأمن الإيراني والدفاع عن مصالح طهران في العراق.
كان واضحا أن إعلان المتحدث باسم الحكومة العراقية أحمد ملا طلال، عن معلومات استخباراتية وردت عن محاولة لاستهداف مناطق حساسة وممثليات دولية، وأن جهاز مكافحة الإرهاب تعامل، بنحو سريع، مع تلك المحاولة، وأمر القبض صدر بحق شخص واحد، وعند المداهمة تم القبض على 13 شخصا كانوا موجودين معه، و”تم الإبقاء على اعتقال المطلوب، والإفراج عن البقية”، كان بهدف حفظ ماء وجه الكاظمي، بعد ظهور الميليشيات بمظهر القوي أمام الحكومة وأجهزتها، بحيث زحفت قوات هذه الميليشيات للسيطرة على المنطقة الخضراء، مركز الحكومة المحصن.
كشفت حادثة مداهمة مقر لكتائب حزب الله، في منطقة الدورة جنوبي بغداد، أن هناك حلفا لم يكن منظورا بين الفساد والسلاح المنفلت، وإلى هذا أشارت الكاتبة السياسية سلمى الجنابي، عندما قالت “إن ما حدث، خلال الأيام الأخيرة، التي انكشف فيها الكاظمي أمام تحالف السلاح المنفلت مع عصبة السياسيين الفاسدين المرتبطين بالاستخبارات الإيرانية ومشروعها العنصري التوسعي، مستفيدين من خراب المؤسسة الأمنية الرسمية واختراقها وعدم انضباطها، أكد ما كنت قد ذهبت إليه وتوقعته من وجود تحالف بين الفساد والسلاح المنفلت، لكن مع هذه الدلائل كلها على فشل الكاظمي، سأبقى أنتظر مع الذين ينتظرون الإصلاح، مع أنني لا أرى أيّ دليل عليه”.
كثيرون يشاركون الجنابي في ما ذهبت إليه، بل إن وزير الكهرباء الأسبق أيهم السامرائي يؤكد، في مقال كتبه، أن حزب الله العراقي كان يهدف إلى إحياء المشروع الطائفي الإيراني، الذي قبرته ثورة الشباب العراقي في أكتوبر الماضي، فهو يشير إلى أن كتائب حزب الله كانت تخطط، في ليلة إلقاء القبض على عناصرها وبعض قادتها لقصف “السفارة الأميركية ومطار بغداد، ومن ثم يضربون مرقد الإمام الكاظم ويتهمون السنة كالمعتاد، وكما عملوها سابقا في عهد الجعفري، عندما فجروا مرقد الإمام علي الهادي في سامراء، وحصلت نتيجتها الحرب الأهلية وسرقة الحضرة هناك من أهلها أشراف سامراء، وإعطائها إلى صاحب الزمان الجديد، «حرامي بغداد ومريض كورونا حاليا»، الصدر المنتظر ولصوصه سرايا السلام. وبعدها، كما تعرفون أدخلوا الدواعش الخامنئيين العراق في يونيو 2014، ليدمروا بعدها خمس محافظات مع قتل وجرح وتشريد أربعة ملايين من أهلها، رغم ذلك لا يزال المالكي المسؤول عن كل تلك الجرائم، يتحكم بحزبه ويتآمر على رئيس الوزراء الحالي الكاظمي”.
ويحذر السامرائي الكاظمي من أن إدارة ترامب تفكر الآن بالرد على فعله، الذي وصفه بالمشين، والذي لا مبرر له مطلقا، ويذكّره بما كتبه ضابط المخابرات المركزية الأميركية السابق مايكل بريغينت من ‏أن “دور الولايات المتحدة في التدريب والإرشاد والشراكة في العراق لا معنى له إذا كان للإرهابيين الذين (نقبض عليهم) نفوذ على شريكنا (الحكومة العراقية) أكثر من تأثيرنا”.
ويقول مخاطبا الكاظمي “هكذا تفكر أميركا، اليوم، برغم أنها لم تعلنه إلى الآن، كيف تعقل أنت دولة الرئيس أنهم (الأميركان) سيوقعون معك اتفاقية استراتيجية، تنقذ العراق من أعدائه المدمرين أمثال إيران الملالي وميليشياتهم وحرسهم وتعيد إليك سيادتك على كل أرضك، التي سرقها جيرانك من الجنوب إلى الشمال، كيف تعقل أن الأميركان يستثمرون في أرضك ويبنونها، كما بنوا كوريا واليابان وأوروبا وأنت مع عدوهم؟”.
الإجراء الثاني، الذي كان من المؤمل أن يتخذه الكاظمي ضد الميليشيات الإيرانية، هو تخليص المنافذ الحدودية العراقية الجوية والبرية والبحرية من تلك الميليشيات، التي تذهب إيراداتها إلى جيوب قادتها ومنها إلى الخزينة الإيرانية لدعمها. وقد أعلمني أستاذ الاقتصاد السياسي محمد طاقة، في رسالة وجهها إليّ، أن الفساد طال المنافذ الحدودية للعراق، والتي يبلغ عددها 22 منفذا، ثمانية منها أساسية، على امتداد الحدود العراقية مع الدول الست المحيطة بالبلاد.
وبسبب انعدام التنمية في العراق، منذ 2003، أصبح البلد يستورد حاجاته من الخارج، إذ تقدر واردات العراق بمليارات الدولارات، وجميع هذه المنافذ الحدودية تسيطر عليها الميليشيات والأحزاب السياسية الموالية لإيران، وهي التي تتحكم بالموارد المالية المتأتية من الرسوم الجمركية، فهي تستولي على أكثر من 90 في المئة من تلك الإيرادات، ولم يدخل منها إلى خزينة الدولة سوى أقل من 10 في المئة فقط.
إذا علمنا، حسب تقديرات أولية، أن الإيراد السنوي لهذه المنافذ، في حال حصلت، بعيدا عن الفساد، يصل كحد أدنى إلى 30 مليار دولار سنويا، وهو مبلغ مهمّ جدا للميزانية يمثل ثلث المبالغ المتأتية من النفط، عرفنا أحد أسباب انهيار الاقتصاد العراقي وتبدد موارده.
إن لسرقة هذه الإيرادات تأثيرا كبيرا على الاقتصاد العراقي، وبالأخص على الميزانية العامة للدولة. ولا يمكن إصلاح هذا الفساد طالما تتحكم بمقدرات البلد، مجموعة فاسدة، تنفذ أجندات أسيادها الذين أتوا بها، ولا علاقة لهذه المجموعة بمصلحة العراق.
وهكذا فإن الحديث عن أيّ إصلاح في العراق، يغدو حديث خرافة، إذا لم تتحرر البلاد من هيمنة الميليشيات الموالية لإيران ومن النفوذ الإيراني، وهو هدف ما زالت ثورة الشباب العراقي التحررية تسعى إلى تحقيقه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here