الشيخ والقطّ مـرجان – من ذكريات الطفولة

الشيخ والقطّ مـرجان – من ذكريات الطفولة – د. بهجت عباس –
كان اسمها مرجانة ، هكذا أتذكر اسمها ولست متأكداً ، فقد كنت في السادسة من عمري ، ولست متأكداً من عمري هذا أيضاً ، فقد يقلّ أو يزيد بعام واحد . أتذكّرها امرأة وحيدة منزوية في دار خربة بباب محطَّم وأرضية طين ونوافذ مفتوحة على الخارج ملتصقة بدور أخرى تشبهها بناء وتصميماً وبعضها قد يفوقها بناء وتنظيماً . هي امرأة إيرانية في الأصل ، يعني (عجميّة) بلغة أهل الكاظمية وكانت مُقعدة تقريباً. أما مصدر رزقها البسيط ، فلا أعرف ، فهي أرملة لا أقارب لها كما أتذكّر ، ولكنّي أعرف أنّ بعض المحسنين من الجيران كان يزوّدها بما يستطيع من طعام تقرّباً لله . وكان لها قطّ (هـرّ) ، رفيقها وصديقها ومعيلها ! كان اسمه (مـرجان) ، وهذا مؤكَّـد . هذا الهرّ القاسي الملامح ذو العضلات المفتولة هو كلّ شيء في حياتها، وكنّا نحن الصِّغارَ نهاب سطوته ولا نتحرّش به أبداً أينما حلّ وذهب. ففي ذلك الزمان كانت القطط تسرح وتمرح في البيوت والشوارع بحريّة تامة ، وحينما نراها نقذفها بالحجر أو نضربها بقطعة خشب أو حتّى بالنعال . لا أعرف سبب قسوتنا ، وخصوصاً الأطفال، على الحيوانات . لكنّ الهرّ مرجان شيء آخـر، فهو مَهيب ويعود إلى امرأة تسكن محلّتنـا ، القطّانة ، وهو يختلف عن الهررة والقطط، ويقال إنّه من الجنّ ، فهو يفهم مرجانة ويُطيعها ويُلبّي رغباتها. كانت إذا افتقدته تناديه مرة واحدة (مرجان!) ، فما أسرع ما ينتصب أمامهـا حتّى ولو كان على بعد عشرة بيوت عنها ! أمّا ما كان يقوم به مرجان من خدمات لها ، فهو شيء غريب. كان يسرق اللحوم والدجاج والسمك من البيوت ويأتي بها إليها ! لذا كان مصدر رزقها الأساس . ضجّ أهل المحلّة من أعمال مرجان اللصوصيّة ، فاتفق بعض (الشقاوات) من المحلّة أن يضع حدّاً له ، ذلك بقتله والتخلّص منه إلى الأبد. ولكنْ لا بدّ من فـتـوى تحلّل قــتـل مـرجان لئلاّ يأثمـوا ! كان في المحلّة شيخ موفور الحال لاستلامه الزكاة والأموال من الناس ، هذه الأموال التي كان عليه أنْ يوزّعها على فقراء المحلّة ، ولكني لا أتذكّر أحداً كان له منها نصيب. أتذكّـر أن جارته ، خديجة الخبّازة التي كانت تعيل ستّ بنات ببيعها الخبز بعد أن تقاعد زوجها مدحت بائع حزمة (باقة الجتّ) بأربعة فلوس (عانة) بلغ من الكبر عتيّا فلم يستطع المشي إلاّ بشقّ النفس . كانت تبيع رغيف خبزها الحار بعشرة فلوس وكان والدي يرسلني إليها بعض الأحيان لأشتري بعض الأرغفة عندما يكون في مزاج جيد ، لأن خبزها غالٍ في نظره ، فهو يفضّل خبز البربر لأنّه أرخص منه. أفقـر الدهـر خديجة ، فذهبت إلى الشيخ ، كما قيل وسمعتُ، تستعطفه قائلة : شيخنا ؛ الله يحفظك ، إنني جارتك، وأنت تعرف فقري وعوزي ومدحت مُقعَد لا يستطيع عملاً، وأنا أعيل ست بنات من خبزي هذا ، ولكنّي لا أستطيع شراء طحين كافٍ لقلّة فلوسي ، وإن الناس المحسنين يجلبون لك التمّن والدهن والطحين لتوزيعها على المحتاجين ، فمن هو أحقّ منّي ؟ أتوسّل إليك أن تعطيني طحيناً لأخبزه وأبيعه فنعيش من ثمنه . أجابها الشيخ : إنك لا تستحقّين شيئاً لأنك تستطيعين العمل ، وهذه المواد الغذائيّة هي لمن لا يستطيع أن يعمل . وبإلحاح وتوسّل أعطاها ستة كيلوغرامات (چارك) طحين ، يعني (خبزة) يوم واحد . جاءوا إليه يستفتونه في قتل الهـرّ مـرجان ، وبأنّه يؤذيهم ويسرقهم ، فقال لهم : أولادي إنّه حيوان لا يفهم ، وقتله حرام! فانصرفوا . ولكنّ الهرّ مـرجان كان حقّـاً غبيّـاً لا يفهم ، فقد سرق إحدى دجاجات الشيخ التي كانت تضع بيضها بعد أن خنقها، وجاء بها إلى سيدته مـرجانة . وكما سمعت وفهمت حينذاك وأُشيع بأنّ الشيخ جُنَّ وغضب و أفتى بقتله فورا ، والناس ينفّذون الفتاوى ، قائلاً : إنّ هذا القطّ شيطان وشريّر وقتله واجب. ضربه مَـنْ لا يرحم ومَـنْ ينفِّذ الفتاوى بلا تفكير بـ(القامة) ولنْ أنسى أبداً منظر ذلك الحيوان الذكيّ الغبيّ المسكين وهو يجرجر يده المقطوعة المتدليّة والدم ينزف منها وهو يصرخ من الألم بمواء غريب ذاهباً إلى حضن سيدته مـرجانة التي كانت تبكي وهي تضمّده وتشهد عذابه وألمه وربّما موته ، والتي قالت: إنها لا تستطيع العيش بين هؤلاء القساة. بعد هذا لم أرها ولمْ أسمع أيّ خبـر عنها ، فقد هجرت المحلّة واختفتْ.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here