“تذكارات عائلية بين أخي سهيل وأبي سامي نادر مصطفى” ـ1

“تذكارات عائلية بين أخي سهيل وأبي سامي نادر مصطفى” ـ1

سعد سامي نادر

قبل أن أحكي لكم قصة وهم كان قد تقمص حياتي، وكيف قادني الى هلوسات، مُنحت على إثرها لقب “فارس الوهم” ، حسب وصف جاري وصديقي القارئ الجميل صبري، أود أن تعرفوا مقدماً، سبب تشريفي بمنصب “الفارس” دونكيشوت الزمن العراقي السيء.. فارس “أعمى” في مواجهة طواحين الدم.

هلوسات مخيلتي هذه، ترافقت مع فقدان عيني لرؤيتها المركزية، عجزت فيه عن القراءة بعدها، وفقدت فيها راحة بالي وضاعت بها أمنياتي في القراءة مع شيخوخة كانت تطرق بابي على عجل.

عدم قدرتي على القراءة لم تكن معضلة، بل كارثة مع تقدمي في السن.

منذ عام 1991 وأنا بنظر طب العيون “أعمى لا أقاد! “. هذا الوصف المبتكر قدمه لي طبيبي لمواساتي، وأظنه وصف دقيقي لحالتي. فعيني ترى أى مشهد أمامي بالكامل، لكن بلا “فوكس” أو “تبئير” ، أي لا أرى النواعم و التفاصيل، لذا كنت ولا زلت لا أحتاج لمن يقودني ، وهو ليس بالقليل، بيد أن رؤية التعريف المركزية للأشياء وجمال المحبين لا تزيد عندي عن نصف قدم فقط. لهذه النتيجة شكرت قدري وشفيعي وربي على نعمة عدم حاجتي الى معين يقودني في الطريق، متغافلا، عن وعي، أن الطريق نفسه ما عاد هو نفسه!

من يومها ولحين دخول الحاسبات، ولمدة اكثر من عشر سنوات، لم أقرأ حرفاً بدون مساعدة أحد. صارت الكتابة والقراءة عندي مثل عاهة، علّتي ومعلولي اللذان لا يبارحاني. كنت فيها المسلم بحق وبالثلاث : مسلم سلم الناس من يده ولسانه وعينه. لكني – اعترف – صرت أحسد كل ما له صلة بالقراءة، فقد تربيت في بيت لا يحترم سوى كتب الادب و المعرفة والموسيقى والجمال .

اعترف أن من حفزني وجعلني أكتب هلوسات ذكرياتي هذه، هو قراءتي لنص مخيف وخانق، أثار في نفسي الاندهاش من سحر لغته، بقدر ما أثار عندي الهلع، إذ راح ينبش في ذكريات طفولتي المنسية ، ليلهب نيرانها، ويلهب معها أسئلة كانت نائمة معها. نص جعلني أتسمر بكرسيي مشدوداً الى تأملات أخي سهيل سامي نادر (موت في كوبنهاكن ، وأحاديث مع كيركغارد). كانت تأملات عن الموت:

(.. موت محتال ، يقظ على ضحاياه ، احتفالي ، ينشد أناشيد دينية… موت يتكاثر في رسالة وثقافة وتعاليم… موت ينزلق على سكة، رشيقا، ليصل الى أهدافه بيسر ، فيما الاحياء الباقون يتعفنون في غرف خوفهم ينتظرون الموت ، أو يتمنونه.. ما الذي يستطيع الموت أن يفعله إذا ما بات مُعديا؟ لكنه بات معديا حقا تحرسه أوثان الطوائف.)

لا تتحدث التأملات عن الموت الاعتيادي ، بل الموت الذي يختارنا بإرادة قاتل: (موت محتال ، يقظ على ضحاياه ، احتفالي، موت تحرسه مليشيات الطوائف، ينشد أناشيد دينية. إنني مملوء برؤى هذا الموت الذي يدخل بيوت العراقيين عنوة ، أسائله وأنا أتحول، ميتا يتحدث لميت ، حيّا مضطربا يدافع عن الأموات ضد الموت … موت يراقب الحياة.. في حين لم تعد الحياة تُعاش بل يُسأل عنها كأننا نتفقد مريضا)

لم يعد يخيفني شئ، بقدر ما اخافتني أمنية اخي بالموت ثم وصيته : (فكرت : عندما أموت أحب أن أدفن بالقرب من كيركغارد)

.. وصية موته هزتني بل هددت رغبتي المكبوتة بقراءة ما أحب أن يكتبه قلم أخي الساحر. وصية أثارت مخاوفي من ضياع ذاكرتي ، ضياع اسئلتي الخاصة بي وحدي، ضياع ما تعلق بروحي ووجداني من أسماء ووجوه كانت قد خلدت فيه، وهي من شجعتني أن أسأل أخي بخوف: يا سهيل ، تُرى من سيكتب بعدك سيرة ابي سامي نادر.؟ ليس كقائد شيوعي كما كتبت، فأنا كما عرفتني، لم أرتبط سياسياً بأي حزب. كنت على الدوام أقوم بدور مراقب مذعور، وعلى نحو ما لم أكن معني بسيرة عائلتنا السياسية، لكن كان يدهشني في أبي الفقير والمصدور بالسل، أخلاقياته النادرة، وثقافته الرفيعة، مع سمو ارستقراطي وليبرالية.. نعم ليبرالية أظنها ناتجة عن إخلاص لفكرة الحرية المدنية. كان يمتلك كبرياءً نبيلاً بلا ذرة شعور بالنقص الناتج عن الفقر والعوز!

أسأل :هل تكفي الثقافة والثقة بالنفس وحدها للتعالي؟ هل كان أبونا الشيوعي قد درس لاهوتا إنسانياً ما؟ هل صار بعدها متدينا تدينا أخلاقياً لا يعرف الكراهية، مثل أمه، جدتنا العظيمة فاطمة؟ لعله كان متديناً حقا بقدر ما يتعلق الدين بحياتنا الدنيوية وبعفة الخلق الرفيع. أنت تذكر يوم ضربني لكفرة صغيرة صدرت مني أمام جدتي المتدينة، وكيف طرد ضيفا كان عندنا في الشام لأنه حاجج جدتي دينياً . تذكر كيف خجلنا كلنا لطرده هذا الشيوعي الذي اعتقد أنه في مكان متواطئ، قائلا له: اخرج.. أنت تخاطب أمي بلا تهذيب!

آه يا سهيل وكم سؤال يتبعه الف آه.

ياترى يا سهيلي ، هل كان ابونا شيوعيا حقاً، فأنا لم اسمعه يلقن أحدا منا بأفكاره ويقحمها برؤوسنا عنوة، ولم يمجد بيننا رمزاً ويلهب فينا الحماس!. هل كان هذا من التهذيب أم من مراس عقلي في شؤون الحرية والأخلاق.. هذا الذي ورثناه نحن أيضا؟ يقينا هي نتاج معرفي وانساني وحضاري، كانت تتمثل ، فضلا عن سلوكه، في قراءاته المختارة، إذ كان يقرأ الأدب العالمي باللغة الإنكليزية، مثل اوسكار وايلد ومارك توين وفروستر وشكسبير وغيرهم.

من سيكتب غيرك عن سيرة هذا المصدور الارستقراطي الموغل بهجرات المطاردة والتشرد؟ من غيرك يا سهيل؟.

مَن أشعل نيران أسئلتي، وحده من سيطفيها!

**************

هناك في كوبنهاجن، عاصمة أسعد شعوب العالم، وقف أخي سهيل متأملا موته “السعيد” فيها. وقف امام قبر المفكر اللاهوتي كيركغارد، مع أمنية في النفس صغيرة، على قدر قامته: ” فكرت : عندما أموت أحب أن أدفن بالقرب من كيركغارد!”.

لا غرابة أن سهيل الذي جاء متأخرا إلى الدانمارك لم يحصل إلا على لجوء مؤقت، وهو الآن ينتظر ما تقرره دائرة الهجرة الدانماركية، فهذا جزء مما شرحه في كتابه (سوء حظ). لكن الغرابة أنه كمن توقع هذا، حين وقف أمام قبر فيلسوف لاهوتي معني بالوجود والقلق الإنساني يشابهه بالافكار، مات قبل مئتي عام، لا ليشتكي له حاله فقط، بل ليمارس معه شغبه الوجودي، ويقدم له معها، أوراق اعتماده كلاجئ يود الموت بقربه:

(جئت لاستريح من عدوان الجسد ، من ضغط الأخبار السيئة ، من فواجع بلدي ، من انحطاطه الحضاري ، من ميتاته التي تميتني على دفعات وبألم ، من لصوصية السياسيين العراقيين وتفاهتهم وجهلهم)

وراح يكمل شغبه و يسأل نفسه مازحاً : (.. لكن كيف تصدق وصول نجدة ملائكية قررت أن تحفظ كرامتك وتهبك مترين على أرض بعيدة؟)

نيران أسئلتي المؤرقة عن أبي ، بما أثارته من اوجاع في نفسي، اجتمعت مع ومضات تأملات سهيل بشأن ارتباط سجل أمواتنا بتواريخ سياسية، وكلاهما أرجعاني بعيدا للخلف، إلى متحف روحي المتنقل ، حيث سبات ذكريات طفولتي، ومثوى صور ووجوه الخالدين فيها. كل هذا جعلني أتعرض لرشقات من الصور والأسئلة والرموز عن طفولتنا.

قد لا يختلف النبش في ذكرياتنا كثيرا عن الحفر في أروحنا وعن نبش قبور التاريخ . كانت لي ذكريات نائمة، لم يخطر في بالي أن تستيقظ في زمن ملتبس كهذا. لكنه قدري الذي أراد به امتحان عمى عيني، وأيقظ ما في ذهني من هوس، وربما أوهام كانت “خالدة” فيه.

خلود؟ كعادته سيضحك اخي سهيل من هذا الوصف، وسيختار لي عنوانا صحفيا ساخرا من عنده لمقالي هذا ، وبما يليق بهلوساتي، لعله: “وهم الخلود”..!

لكني سأعترف لسهيل صاغراً، أن “وهم الخلود” هذا، قادني يوماً، وأرجعني الى يوم كنا معاً، وقد تقمصني فيه الوهم حد الهوس، وكنت تقرأ لي أحداث فصول من رواية على ما اذكر كانت بعنوان “الريفيرا العربي”.

أما سر “الريفيرا العربي” فسيحكي تفاصيلها فارس الوهم في بقية هلوساته.

يتبع

رابط ” تأملات : موت في كوبنهاجن وأحاديث مع كيركغارد”
http://www.iraqiwriters.com/INP/view.asp?ID=3579

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here