عصام الياسري
تابع العراقيون ووسائل الإعلام خلال الأسابيع الماضية، إجراءات رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في العديد من الحالات الطارئة، في محاولة منه لإخراج الوضع السياسي من حالة الترقب والركود إلى إعادة التوازن بين القول والفعل الذي قطعه على نفسه لشرعنة سلطة الدولة. وكان لجريمة إغتيال الخبير في شؤون الأمن والجماعات المسلحة الدكتور هاشم الهاشمي برصاص مسلحين أمام منزله في بغداد، أثر تصاعد الاحتجاجات على سوء إدارة الدولة، وبعدها اختطاف الناشطة الثقافية الألمانية هيلا مفيس Hella Mewis المقيمة منذ ثماني سنوات في العراق انتهاء بالاعتداء على الطفل العراقي حامد سعيد من قبل قوة حفظ النظام التي أدت إلى إقالة قائد هذه القوات. عاملاً أساسياً لتحرك الكاظمي باتجاه إجراءات تنفيذية جادة لمواجهة الأزمات التي ورثها عن الحكومات السابقة، ومنها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وهي، وإن كانت بالقدر اليسير ومتأخرة بعض الشيء ومحددة، ألا أنها، إجراءات موضوعية بالغة الأهمية.
لقد أثارت جريمة اغتيال الهاشمي واختطاف الناشطة الألمانية العديد من التساؤلات بين الأوساط السياسية والإعلامية، وما ستؤول إليه من آثار سلبية على مصداقية الحكومة، وهي تواجه تحديات خدمية معدومة أخطرها المنظومة الكهربائية التي يعاني العراقيون من خرابها لأكثر من سبعة عشر عاماً على الرغم من صرف 62 مليار دولار، ذهبت إلى جيوب أحزاب السلطة والفاسدين. وتصنف جميع عمليات القتل والاختطاف كما ورد في الدراسات والتقارير الدولية الرصينة، سيما منذ انتفاضة تشرين ـ أكتوبر 2019، التي ارتكبت عمداً على يد جماعات مسلحة تابعة لبعض أحزاب السلطة وبشكل ما للأجهزة الأمنية. على أنها جرائم “إغتيال سياسي” منظمة، تقف وراءها قوى سياسية متنفذة مع نتائج تحقيق ضبابية أو تكاد أن تكون غير متوفرة.. السؤال: هل بإمكان الكاظمي تجاوز الخطوط الحمر التي وضعتها أمامه احزاب السلطة قبل الموافقة على تسلم منصبه لرئاسة الوزراء؟ إذ مهما تباينت آراء الكتل الماسكة بالقرار داخل الدولة وخارجها، عربية أم كردية ـ شيعية أو سنية، حول الكاظمي، فإنها لن تجامل الدولة لفرض سلطتها، ولا تقبل أن يكون القضاء بعيداً عن سطوتها، ولن ترضى الحد من نفوذها والمساس بقواها المسلحة الخارجة على القانون. ولربما من السهل، الضغط على هذه القوى لتقديم بعض التنازلات أو الموافقة على بعض إجراءات الحكومة لحفظ ماء الوجه، كملاحقة بعض أفراد المؤسسات الأمنية والعصابات المنفلتة، الذين ارتكبوا جرائم بحق المتظاهرين السلميين. إنما المؤكد ليس بالمستطاع مواجهة الميليشيات المسلحة ما لم يتم ضبط سلاحها وملاحقة من يقف وراءها وفرض سلطة الدولة بالقوة.
إن استمرار إساءة استخدام السلطة وتفشي الفساد وإصرار أحزاب الإسلام السياسي على تقاسم السلطة على نحو طائفي ـ عرقي، أدى إلى تهديم التركيبة المؤسساتية وأضعاف سلطة الدولة واستهتار العصابات الميليشياوية المتجذرة في أجهزة الدولة العميقة التي تمسك فعلاً بالقرار ولها القول الفصل داخل مؤسسات الدولة وخارجها. كل هذا وضع البلاد في حالة من الفوضى، التي لا يشعر المرء في ظلها بالأمان أو بإمكانية إبداء الرأي والتعبير. ويعيد مشهد القتل والاختطاف إلى الأذهان حقبة عمليات الاغتيال والخطف المنظم الذي شاع في البلاد بعد احتلال العراق. ولعلنا نتساءل: إلى متى سيكون دم الإنسان العراقي، رخيصاً؟. ومتى ستتحرك السلطة ومؤسساتها الثلاث ـ التشريعية والتنفيذية والقضائية، لتحمل مسؤوليتها ووضع حد لنزيف الدم والاستهانة بحياة الإنسان العراقي؟. والأهم، ماهو موقف رئيس الجمهورية؟.
وعلى قدر حجم الكارثة التي حلت بلبنان والشعب اللبناني بسبب انفجار أو تفجير كميات كبيرة من نترات الأمونيوم شديدة الانفجار كانت مخزنة لأكثر من ستة أعوام في عنبر يقع داخل ميناء واسع الحركة في قلب العاصمة اللبنانية بيروت المكتظة بالسكان، الذي يمثل استهتاراً من قبل المسؤولين بأمن المواطنين والدولة اللبنانية ولا تعود نتائجه الوخيمة إلى إهمال عدد غير محدد من موظفي إدارة الميناء والسلطات الجمركية، المعروف على أنها مؤسسات فاسدة ومؤسسات محسوبية، بل تتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى القيادة السياسية والنظام الطائفي في البلاد. ألا أنه ناقوس خطر أمام المسؤول العراقي لتحمل مسؤولياته لإنهاء حالة التوتر المجتمعي الناتجة عن تخزين الأسلحة والمواد الكيمائية داخل المدن وحصر سلاح الميلشيات الموالية لإيران وأحزاب السلطة بيد الدولة، وهي بالتأكيد ليست مهمة الكاظمي لوحده. وإذا ما كان انفجار مرفأ بيروت، قد أدى إلى إعادة الحيوية وبقوة للشعب اللبناني لتحمل زمام المبادرة السياسية، باتجاه آفاق جديدة نحو التغيير الشامل. فلابد من العودة بالذاكرة إلى أحداث خطيرة حلت بالعراق خلال السنوات المنصرمة، غيرت المشهد السياسي والاجتماعي بشكل جذري نحو الأسوأ، وأصبح في ظلها المواطن العراقي مسلوب الإرادة. لكشف زيف “اتحاد الكتل اللا وطنية” الماسكة بالسلطة والتي أخذ أشكال تخندقات دراماتيكية لا تتماشى مع طبيعة العصر وما يتطلبه العراق.
في الحادي عشر من آب 2014 كُلف رسمياً حيدر العبادي بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة بعدما اتفق التحالف الوطني الشيعي على ترشيحه رئيسا للحكومة بدلا عن المالكي المنتهية ولايته، على الرغم من تشبته بالمنصب تحت طائلة التهديد واستخدام القوة وإن أدى ذلك إلى وضع البلاد على حافة الهاوية وأتون حرب أهلية. لكن العبادي الذي إستوزر الحكومة (2014 ـ 2018) على الرغم من دعم المرجعية الدينية في النجف له، ودعوتها لأن يضرب الفساد والميليشيات المسلحة بكل أشكالها بيد من حديد، كذلك المقبولية التي حضي بها من قبل دول التحالف ومنها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ودول أخرى، واستطاعة حكومته تحقيق إنجاز عسكري ضد تنظيم داعش ودحره وصولاً إلى عاصمة الخلافة المزعومة في محافظة الموصل، بعد مرور ما يقارب ثلاث سنوات من تشكيل الحكومة، يسرت له مكانة مرموقة داخل المجتمع العراقي. لم يتحرر من عقدة الولاء العقائدي للكتل الشيعية التي كانت تملي عليه قرارتها، فخسر إلى جانب العوامل الخارجية، المساندة الداخلية أيضاً، وأهمها القطاعات الشعبية والسياسية والثقافية والإعلامية الوطنية. ففشل في تحقيق برنامج الإصلاح الذي وعد بتنفيذه أثناء تأدية اليمين أمام ما يسمى بمجلس النواب.
وبسبب افتقار الأمن وتردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية وازدياد البطالة، كانت ساحات الاحتجاج في العديد من المدن العراقية تغص بالمتظاهرين. وشهدت ساحة التحرير في العاصمة بغداد تظاهرات حاشدة دعا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أنصاره للمشاركة فيها. وفي السابع والعشرين من مارس 2016 نصب خيمته في المنطقة الخضراء المحصنة قائلاً: (نحن الآن في الخضراء وغداً سيكون الشعب فيها)، وفعلاً دخلت إليها الجماهير، ويتذكر العراقيون كيف غادرها المسؤولين والنواب هرباً من غضب المنتفضين، ولم يسعف الحظ بعضهم لملمة أمتعته حتى أن إحدى السيدات النائبات لم تتمكن من لبس حذائها. وآخرون لاذوا بالفرار إلى خارج العراق وهرّبوا عوائلهم نحو الأردن وتركيا وإيران على وجه السرعة. لكن الصدر الذي كان يتغنى بشعار” شلع قلع” في كل مناسبة، عاد إلى مغازلة ندمائه في الكتل السياسية المستبدة ودعا مناصريه بعد لقائه الرئيس، فؤاد معصوم، ورئيس البرلمان، سليم الجبوري، في خيمته داخل المنطقة الخضراء بعد ثلاثة أيام من مكوثه، إلى إنهاء الاعتصام أمام بوابات المنطقة الخضراء والعودة إلي بيتوهم منسحباً. شكل تصرف السيد المذل، صدمة كبيرة للمنتفضين في سوح التظاهر، الذين انتظروا تغيير نظام المحاصصة الطائفية طويلاً، وإنهاء حالة تفاقم الأزمات والتسويف.
في الثالث عشر من حزيران 2014 أصدرت المرجعية الدينية في النجف فتوى الجهاد الكفائي في ظرف بالغ الخطورة كانت عصابات داعش على تخوم العاصمة العراقية بغداد. لم يكن مستغرباً، أن تستغل القوى المتسلطة داخل المنطقة الخضراء الذي هزّ دخول المنتفضين كيانها، للاستفادة من هذه الفتوى لتأمين مستقبلها السياسي. ودعت أحزاب الإسلام السياسي أجنحتها المسلحة للانضواء إلى الجهاد الكفائي، لتكتسب شرعية ظلت تبحث عنها، وتحتمي بها من انتقادات متواترة بكونها تعمل خارج إطار الدولة والقانون. التشريع الذي أصدره في السادس والعشرين من نوفمبر 2016 مجلس النواب لتأسيس الحشد أصالة للفتوى، كان فرصة ثمينة لشرعنة الميليشيات وتحويلها إلى هيئات حكومية، ما يعني أن أي عملية لإعادة هيكلتها أو حلها، بحاجة إلى تشريع جديد. كما يعني أن الأجنحة المسلحة المنتمية للحشد ستتمتع بنوع من الحصانة المعنوية، بالإضافة، إلى أنها وجدت أخيراً غطاءً مؤسساتياً، يوفر لها تأمين رواتب المنتسبين والدعم المالي والأسلحة من الميزانية العامة للدولة. ويشكل الحشد الشعبي بمفاصله الميليشياوية والعسكرية والاستخباراتية والأمنية التي يقدر عدد أفرادها كما جاء على لسان رئيس هيئة الحشد فالح الفياض بنحو 140 ألف مقاتل، رديف للجيش العراقي إن لم يكن أقوى منه، مما يجعل مهمة مواجهته صعبة للغاية، ولكن ليس مستحيلة إذا ما توفرت الإرادة والشجاعة لدى صاحب القرار الذي يمنحه الدستور والقانون صلاحيات عليه أن يمارسها بعيداً عن الاعتبارات والضغوطات الحزبية.
وفي ظهور لهما في وسائل الإعلام العراقية والأجنبية، تحدث النائب عباس البياتي وفالح الفياض بعد تأسيس الحشد الشعبي متوعدين كل من يتجرأ دخول المنطقة الخضراء ومواجهة المنتمين إلى مؤسسات الدولة والمتنفذين المقيمون فيها بالقول: لدينا الآن قوة رادعة سوف لن تسمح لأحد تجاوز الخطوط الحمر والإساءة إلى أمن المنطقة ورعاياها. وليس من الغريب أن تُقدم مدججة بالسلاح الثقيل والمدرعات قوة ميليشياوية تابعة لإحدى الفصائل الموالية لإيران وأحزاب الدين السياسي المنضوية للحشد، لتحرير منتسبين لها سبق لقوات الأمن أن اعتقلتهم بأمر من القائد العام الكاظمي على خلفية أعمال إجرامية خطيرة.
بتقديري، علينا أن نتساءل: ما هي رغبة صاحب القرار ونعني به هنا، السيد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي: أن يرى العراق ـ دولة مؤسسات مصونة، أم دولة عصابات؟. هل يطمح أن نكون أو لا نكون ، بمعنى آخر، العراق دولة أو لا دولة ؟. وأجزم بأن السيد الكاظمي شديد الحرص على المبدأ الأول ومستقبل العراق، لكن تعوزه القبضة القوية لتسديد الضربة القاضية. وتردده في الذهاب إلى الحدود القصوى يأتي بسبب شكوكه أن يترك وحيداً في الميدان، وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه العبادي.. وإذا كان الكاظمي بإعلانه موعد الانتخابات مبكراً إحراج الكتل السياسية، فليعلم بأن الفاسد لا تحرجه سمعة الشرف. إنما عليه أن لا يتسامح بإجراء الانتخابات دون التحقيق في جرائم قتل المتظاهرين وكشف مَن يقف وراءها مهما كان موقعه وهو مطلب المتظاهرين الأساس. أو دون إقرار قانون انتخابات ينسجم ورغبة الشعب، والأهم قانون أحزاب يتضمن مادة واضحة تحظر الأحزاب التي لها أذرع مسلحة من المشاركة في الانتخابات، وبيان طبيعة مواردها المالية قانونياً، كيف ومن أين؟. بالإضافة إلى ترشيد مفوضية الانتخابات والمحكمة العليا بعيداً عن أية إشكاليات أمنية وقانونية أو ضغوط سياسية. بمعنى على الكاظمي تغيير المشهد السياسي قبل الانتخابات بالكامل، وإذا كان غير قادر على تحقيق هذه الأولويات بسبب تنمُر القوى السياسية وضغوطها، عليه أن يمارس حقه الدستوري باللجوء إلى طلب الاستفتاء الشعبي على اعتبار أن: الشعب مصدر السلطات. وإلا فإنه لم يستوعب ما آلت إليه أحداث لبنان على الصعيد السياسي بعد انفجار مرفأ بيروت، ويكون قد ختم مجتمعياً وتاريخياً ومعنوياً نهايته بالفشل ـ فالحكمة تقول: إن مَن يأتي متأخر تعاقبه الحياة.. إذن، على الشارع المنتفض إذا ما أراد احتواء الموقف وتغيير قواعد الاشتباك، أن ينتقل من المواجهة السلمية مع هذه الطغمة الفاسدة إلى الثورة الحقيقية لينقذ نفسه ويحمي وطنه الذي يريد قبل فوات الأوان!.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط