والحق والعدل والقانون يعلو ولايعلى عليه ولرب شاهد من اهلها ولها ومنها

والحق والعدل والقانون يعلو ولايعلى عليه ولرب شاهد من اهلها ولها ومنها

أ.د.سلمان لطيف الياسري

مصيبة العراق في القضاء أكبر منها في حكومته وبرلمانه وساسته فلو كان هناك قضاء حقيقي لما وصل البلد الى ما وصل له حاليا، ولما أستمر تحكم أحزاب هي الى منهج العصابات أقرب، بمصير البلاد الذي أصبح مفتوحا على كل الاحتمالات وباتت فيه حفلات الدم اليومية وعمليات الإبادة الجماعية شيئا طبيعيا و لاتثير الانتباه ولا الأهتمام.

مايسمى بـ”السلطة القضائية ” هي المسؤولة عن الدمار والخراب الذي وصل له العراق أكثر من الطبقة السياسية، فهذه السلطة التي شكلها الاميركيون بعد احتلاله عام 2003، وأعيد ترتيبها مرة أخرى عام 2005 أمتلكت فرصتها الكاملة لتكون مستقلة فهي كانت تحت حماية الأمم المتحدة والأميركيين حتى عام 2011 لكنها ومن خلال رئيسها القاضي مدحت المحمود اختارت ان تكون ذيلاً وتابعة للسلطة التنفيذية والأحزاب المتنفذة وان تشاركهم الفساد والجريمة.

الحديث عن فساد مالي في بلد يُسبى فيه شعبه وتغتصب نساؤه ويعيش لاجئا ومشردا في أرضه ووطنه، قد يعتبره البعض نوعا من الرفاهية وربما الانفصال عن الواقع، والتفكير ان المنظومة القضائية التي ينخرها الفساد والمحاصصة، يمكنها محاسبة رؤوس الجريمة هي السذاجة بعينها أو محاولة خداع النفس بالوهم والأمل الكاذب.

تعودنا من قضاء مدحت المحمود ان لاتكون قراراته مستندة الى القانون والدستور بل الى حسابات الربح والخسارة ومحاباة الطرف الأقوى في القضية، هكذا فعل بعد إنتخابات عام 2010 في تفسير معنى “الكتلة الاكبر ” ليمكن المالكي من الحصول على ولاية ثانية على الرغم من فوز كتلة اياد علاوي باغلبية المقاعد البرلمانية. وعلى الرغم من ان الدستور وقتها لم يكمل عامه الخامس بعد، وجميع من شارك في كتابته مازالوا على قيد الحياة وكان يمكن استدعاءهم وسؤالهم عن قصدهم وتفسيرهم لمعنى “الكتلة الأكبر”، لكن المحمود اختار ان يفسرها حسب مايتوافق ومصلحة المالكي. و تفسيرات المحمود الكيفية للدستور التي نجح من خلالها في منح المالكي ولاية ثانية كلفت العراق غاليا تمثلت في سقوط نصف البلاد بيد داعش ومقتل الآلاف من الناس وتشريد الملايين داخل وخارج العراق، ورغم ذلك لم يحاسب المالكي ولا اي من اركان حكمه ومحازبيه.

ويبرر المحمود وقضاؤه عدم محاسبته لاي طرف بقضية سقوط الموصل والمحافظات الأخرى بان الدستور جعل مثل هذه القضايا من اختصاص الادعاء العام والمحاكم العسكرية،وعلى فرض ان هذا صحيح، فلماذا السكوت عن قضايا الفساد لوزراء وزعماء احزاب تقدر بمليارات الدولارات؟، واين الادعاء العام والقضاء المدني من الإتهامات العلنية من قبل نواب ومسؤولين سابقين وحاليين لرئيس الوزراء السابق وزعيم حزب الدعوة نوري المالكي بسرقة نحو 400 مليار دولار خلال فترتي حكمه مابين (2006-2014)ولماذا لم تحرك ساكنا؟؟.

ولعل أخطر مادمر المؤسسة القضائية في العراق هو قيام الحكومة بإنتاج جيل جديد من القضاة من خلال إصدار تشريعات تسمح لكل من مارس عمل المحاماة او الوظيفة القانونية لثلاث سنوات بعد التخرج بان يصبح قاضيا شرط ان لايكون عمره تجاوز 40 عاما، وبالتالي فان الحكومة حققت نقطتين هما: تعيين منتسبي الاحزاب من حديثي السن في السلطة القضائية و ايصال اناس لم يفهموا أويهضموا القانون بشكل جيد الى منصة القضاء، وهذا ما يسهل عليها التحكم بهم وأستغلالهم. كما قامت الحكومة لاسيما نوري المالكي بالاحتفاظ بملفات تدين بعض القضاة الكبار اما بالانتماء الى حزب البعث المنحل او بالتورط في رشاوى وتهديدهم بتلك الملفات ما جعلهم يخضعون الى الحكومة بشكل كامل.

المؤسسة القضائية العراقية حاليا هي خاضعة للمحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية، والمناصب القضائية العليا موزعة بين الاحزاب المتنفذة بطريقة تجعل اي حكم قضائي خاضع للتسويات السياسية وليس للمواد القانونية والدستورية، وبالتالي فإن القضاء العراقي لايصلح أبداً ان يكون حكماً لانه فاقد للاستقلالية تماما وهو لعبة تحركها أحزاب وعمائم السلطة كما تشاء ووفق ما تقتضي مصالحها. وأحزاب السلطة حولت القضاء الى أداة لإصدار احكام البراءة وشهادات حسن السلوك والنزاهة لجميع الفاسدين والمجرمين من محازبيها، كما حولته الى سيف مسلّط على رقاب معارضيها ومن يحاول ان يكشف فسادها أو يختلف معها،من خلال السرعة في تلفيق القضايا و أصدار أحكام الضبط والحضور، و اصدار احكام الإدانة الحضورية أو الغيابية لايهم بالنسبة لها لان ما تريده هو تسقيط معارضيها من خلال جعلهم ملاحقين ومدانين من قبل القضاء للطعن بشرفهم ومصداقيتهم وإيهام العالم بانها تحتكم في خصوماتها الى القضاء وتحترم قراراته، في طريقة مشابهة لما كان يفعله النظام السابق لكن بشكل أشد خسة ووضاعة.

يعد القضاء ابتكارا إنسانيا يعمل من خلال قوانين وضعية وأعراف اجتماعية أنجزتها أرادة عامة لفض النزاعات بين الناس لتكريس العدل بين الناس وحماية الحقوق والحريات, ورفع الظلم الذي يلحق بأي مواطن من السلطات أو المجموعات أو المؤسسات العامة منها والخاصة وغيرها وتعويض المتضررين بما يتناسب مع حجم الضرر ونوعه ؛ أي بعبارة أخرى ،إن القضاء يسعى إلى احتراف الوصول إلى العدالة الدنيوية في أحكامه ، التي تعد الميزة الكبرى لأي نظام قضائي فاعل( ). ولا يمكننا أن نتصور إمكانية نهوض القضاء بأمانة العدل ، دون تأمين الاستقلال الفعلي والكامل له؛ فالقضاء المنزه الموثوق الذي هو شرط أساس للدولة القانونية ولمسيرة التنمية والتطوير والتحديث يجب أن يبقى مستقلاً بعيداً عن المؤثرات والمداخلات من أي جهة أتت, ومن أي نوع كانت.‏ وعند هذا المفصل يمكن تحديد مدلول استقلال القضاء بكونه “استقلاله كمؤسسة ويتجسد ذلك في استقلال القضاء اداريا وماليا ، كما يتجسد ذلك في سلطة اتخاذ القرار”. وهذا ما تكرس كمبدأ دستوري على قدر تعلق الامر ببلدنا العراق طبقا لدستوره النافذ لسنة 2005 ، اذ يطالعنا نص المادة (19) الذي اكد إن (القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون ). ثم جاءت المادة (88) من هذا الدستور لتوسع من نطاق هذه الاستقلالية بالنص على ان ( القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء او شؤون العدالة ) ، ثم بترصين هذه الاستقلالية اكثر في المادة (97) من الدستور بالنص على ان (القضاة غير قابلين للعزل الا في الحالات التي يحددها القانون كما يحدد القانون الاحكام الخاصة بهم وينظم مساءلتهم تأديبيا ). والحال ان هذه النصوص قد وسعت من مظاهر استقلال القضاء العراقي بحيث منعت السلطتين التشريعية (مجلس النواب ) والسلطة التنفيذية من التدخل في القضاء او شؤون العدالة بأي شكل من الاشكال، وبهذا التطور المهم اصبحت السلطة القضائية في العراق تقف على قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية من الناحية الدستورية النظرية. وباعتماد منطق المخالفة ، يطالعنا لفظ (التسييس) كنقيض موضوعي لاستقلال القضاء وضمان حياديته والذي يقصد به “عملية إضفاء صفة سياسية على موقف معين ليس له بالأصل هذه الصفة” . وتسييس القضاء من أبرز مسببات الأحكام الجائرة المجانبة للعدالة القانونية الوضعية والمحرفة للتشريعات. ويعود تسييس القضاء في أحد أهم أسبابه غير الشخصية إلى إصدار أحكام لخدمة أغراض السلطة التنفيذية , أو جهة سياسية متنفذة بالتعرض لضغوط منها أو إغراءات . وتنبثق ظاهرة تسييس القضاء في الغالب من مفصلين رئيسين اولهما التدخل في تشكيل السلطة القضائية بصورة تخدم توجهات السلطة السياسية ومصالحها ، وهذا ما تحقق على ارض الواقع ، منذ انطلاقة تجربة القضاء في العراق مع قيام الدولة الوطنية فيه في ظل دستور 1925 وصولا الى وقتنا الحاضر ، وحسبنا مراجعة بسيطة لأمر تشكيل المحكمة الاتحادية العليا الذي استند على القسم الثاني من ملحق قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي خول مجلس الوزراء السلطات الممنوحة له في هذا القانون في تعيين اعضاء المحكمة الاتحادية العليا على ان يتم تصديق ذلك من قبل رئاسة الدولة في الحكومة الانتقالية المنتخبة . وبالفعل صدر امر رئيس مجلس الوزراء رقم ( 30 لسنة 2005)القاضي بتشكيل المحكمة الاتحادية العليا في العراق . وفي هذا التخويل تحققت اولى المطبات السياسية لعمل القضاء بإخضاع تشكيل هذه المؤسسة المهمة لإرادة السلطة التنفيذية وتجاذبات آلية المحاصصة والتوازنات الحزبية التي ابتليت بها الدولة العراقية الجديدة بعد عام 2003 بما يشكل سلباً لإرادة الشعب المتمثلة بالهيئة المنتخبة من قبله وحقه في اختيار قضاة هذه المحكمة . وحتى تشكيلة المحكمة الاتحادية في ظل الدستور النافذ المنصوص عليها في الفقرة (أولاً) من المادة / 92 باعتبارها [ هيئة قضائية مستقلة مالياً وإدارياً ]، ، لم تسلم من النقد الممزوج بنزعة الخشية من الانسحاب الى التسييس ؛ فكونها (هيئة قضائية) حصراً (محكمة)، يعني أن أعضاء هذه الهيئة هم من (القضاة)، وبالتالي فإن حق التصويت على قرارات (المحكمة) سيكون هو الآخر منوط بأعضاء المحكمة من القضاة حصراً طبقاً للنص المذكور، وأي تفسير آخر يعطي لغيرهم من خبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء في القانون، من المذكورين في نص الفقرة ( ثانياً ) من المادة / 92 نفس الحق المذكور، على أساس أنهم أيضاً وطبقاً لنص الفقرة (ثانياً)، أعضاء في نفس الهيئة، ولهم ما لغيرهم من القضاة من الحقوق، وبالتالي يمكنهم من ممارسة حق (الاعتراض) أو (الفيتو) لأي من القرارات التي تتخذها الهيئة، وهذا ما سيحقق الازدواجية في هوية هذه المحكمة من جانب بين التوجه القضائي والاستشاري ، ويفتح ابواب الاجتهادات والتأويلات المختلفة لجهة تعارضها مع ثوابت الاسلام ومتطلبات الشريعة لتكون مدخلا للتأثير في قرارتها واخضاعها للمساومات السياسية تحت هذا البند .( ) وهكذا لم تكن السلطة القضائية في العراق الجديد ممثلة بأعلى محكمة فيها ( الحكمة الاتحادية) ومنذ بداية تأسيسها بعيدة عن دائرة التسييس على مستوى البنية والتشكيل . وكان هذا بدوره سببا في انسحاب اهم قرارتها الى دوامة التسييس وخدمة اغراض السلطة السياسية بشطريها ( التنفيذي والتشريعي ) . وما قراراتها الشهيرة بشأن تفسير المادة 76 من الدستور بخصوص مرشح الكتلة الاكثر عددا .( ) وقرارها الاكثر جدلا وقربا من دائرة العمل السياسي بخصوص ربط الهيئات المستقلة برئاسة مجلس الوزراء – خلافا لصريح المادتين ( 102، 103 ) من الدستور( ) ، وخلافا لقرارها الصادر عام 2008 ، بذريعة “ان الصفة التنفيذية تغلب على عملها” ( ( ؛ الا ادلة واضحة على خضوعها لتأثير السلطة التنفيذية وقربها من توجهاتها ؛ حتى ان رئيس اتحاد الحقوقيين العراقيين رأى ان “المشكلة في العراق قضائية وليست سياسية لان أغلب المشاكل صنعتها التفسيرات المزاجية لهذه المحكمة”. وبفرز مخرجات وتأثير ما تقدم من مظاهر لتسييس القضاء على حقوق الانسان وحرياته الاساسية يمكن القول انطلاقا من قاعدة الاقرار بالارتباط الحتمي بين القضاء وحقوق الانسان ، بكون النظام القضائي المستقل يُشكّل الدعامة الرئيسية لدعم الحريات المدنية، وحقوق الإنسان، -على حد تعبير اعلان مؤتمر القاهرة الثاني للعدالة العربية في 2003 – إذ يستحيل على الأفراد أن يأمنوا على تلك الحريات أو يمنعوا الاعتداء عليها دون وجود تلك الأداة التي تحمي تلك الحريات . وهذه الحقوق تعد من الحقوق الطبيعية للإنسان التي تلتصق بشخصيته ( ). بل ولا يمكن الحديث عن الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في ظل غياب حكم القانون ، لان المجتمع الديمقراطي هو مجتمع سيادة القانون، والعكس صحيح تماماً .( ) فاذا كان القضاء نهبا لإرادة وتوجهات السلطة التنفيذية من حيث النظرية العامة ، فأن هذه السلطة بما تملك من صلاحيات كبيرة لتنظيم حقوق الأفراد وحرياتهم فقد تنتهك هذه الحقوق بما تصدره من لوائح وأوامر أو تعليمات وما تتخذه من إجراءات حتى تصبح تصرفاتها مصدراً للظلم والشكوى من قبل الأفراد. وفي هذه الحالة لن يأمن الأفراد على أنفسهم بدون وجود قضاء مستقل ومحايد وعادل يدافع عن المظلوم ويقوم بإعلاء كلمة القانون. اذ يقوم القضاء بهذه المهمة عن طريق الرقابة على أعمال الإدارة (رقابة المشروعية)( )، حيث تناط مهمة مراقبة أعمال الإدارة إلى القضاء الذي يتوافر فيه كل مقومات الاستقلال والحيدة التامة وبذلك تعد ضمانة أساسية تحمي بها حقوق الأفراد وحرياتهم تجاه تعسف السلطة التنفيذية إذا ما جاوزت حدود صلاحياتها وبالتالي إجبارها على احترام القواعد القانونية( ). وان كان القضاء يقع تحت طائلة تأثير السلطة التشريعية المسؤولة عن وضع قواعد عامة مجردة لا شأن لها بالتطبيق في الحالات الفردية، مما يعني تراجع نسبة الخطورة على حقوق الانسان وحرياته لسببين اولهما انها السلطة المؤلفة من ممثلي الشعب ، وثانيهما لعدم وجود الاحتكاك المباشر بينها وبين الشعب من جانب التجاوزات التي تحصل على الاعم الاغلب نتيجة سوء التطبيق للقوانين وليس صياغتها . ومع هذا كله يمكن لهذه السلطة ( التشريعية ) أن تكون مصدر اعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم وذلك بخروجها عن الأحكام العامة للدستور، ويتم ذلك عندما ينص الدستور على حق من حقوق الأفراد، فيمكن للمشرع العادي أن ينتهكها أو يعتد عليها عن طريق إصدار أي تشريع أو قانون يتضمن الحد من هذه الحقوق أو الانتقاص منها أو مصادرتها سواء أكانت مصادرة كلية أم جزئية. ومن هنا كانت الرقابة القضائية على دستورية القوانين من أكثر الضمانات فاعلية لحماية الحقوق والحريات عن طريق قيامها بإلغاء أي تصرف أو الامتناع عن تطبيقه إذا ما توضح لها مخالفة القانون؛ فهذه الرقابة تكون لهم سلاحاً فعالاً يستطيعون بمقتضاه الالتجاء إلى جهة مستقلة محايدة وتتمتع بضمانات فعالة يتمكنون من خلالها المطالبة بإلغاء القرارات والقوانين المخالفة للقانون والمطالبة بالتعويض عنها. ومع غياب مثل هذا السلاح الرقابي على سلطة البرلمان او انحرافه ، فليس ثمة ضمانة بوجه تحول هذه المؤسسة ومريديها الى مؤسسة لإنتاج دكتاتورية النخبة او فسادها بل وتحولها الى تنظيم مافيوي لإدارة المصالح الخاصة لأعضاء البرلمان بعيدا عن رقابة القضاء او حتى بالتعاون معه كما حصل في الدول الشمولية ، عندئذٍ تكون حقوق الانسان وحرياته الحلقة الاضعف في هذه المفسدة الكبرى ؛ فتارة يجري التجاوز على هذه الحقوق من جانب القوانين التي تتجاوز عليها لتكرس وضعا غير دستوري ، وتارة اخرى عندما يفتقد المواطن الدور الرقابي لهذه المؤسسة على تجاوزات السلطة التنفيذية ثم يضيع تحت هذا الركام ملاذه الاخير بنصرة القضاء ودعمه . وفي حال كهذا ، ستمارس السلطة حينها مزيداً من العنف بأجهزتها القمعية تحت غطاء قانوني وبمساندة قضاة فاسدين لإرغام المواطنين على الخنوع والذل، وهكذا كلما تشبثت السلطة المستبدة بالحكم تداعت أكثر سلطة القانون وبتعاظم نفوذها في أجهزة الدولة يفسد الجهاز القضائي على نحو كامل. وعندئذٍ يجرد المواطن من سلاح القانون ويصبح أعزلاً فيضطر إلى حيازة سلاح آخر للدفاع عن كرامته ضد سلطة مستبدة وقضاء تابع ومسيس وبذلك لم يعدّ الوطن وطناً وإنما سجناً يحرسه رجال السلطة متسلحين بسياط القانون لقمع المواطنين التي تتناثر أشلاء حقوقهم في أجواء هذه المجزرة العظمى من جانب السلطة بكل فروعها . وهكذا تتضح اهمية وخطورة الرسالة التي يتحمل مسؤوليتها القضاء في حماية حقوق الإنسان، لأن الفرد لا يطمئن على حقوقه إلا عند وقوفه أمام قضاء قوي مستقل. ولذلك وصف القضاء بحق بأنه الحارس الطبيعي للحريات ؛ فكلما كان القضاء قوياً متطوراً ومستقلاً وبعيداً عن التدخلات والتأثيرات الخارجية كلما كانت الحقوق محمية ومصونة. يعد القضاء ابتكارا إنسانيا يعمل من خلال قوانين وضعية وأعراف اجتماعية أنجزتها أرادة عامة لفض النزاعات بين الناس لتكريس العدل بين الناس وحماية الحقوق والحريات, ورفع الظلم الذي يلحق بأي مواطن من السلطات أو المجموعات أو المؤسسات العامة منها والخاصة وغيرها وتعويض المتضررين بما يتناسب مع حجم الضرر ونوعه ؛ أي بعبارة أخرى ،إن القضاء يسعى إلى احتراف الوصول إلى العدالة الدنيوية في أحكامه ، التي تعد الميزة الكبرى لأي نظام قضائي فاعل( ). ولا يمكننا أن نتصور إمكانية نهوض القضاء بأمانة العدل ، دون تأمين الاستقلال الفعلي والكامل له؛ فالقضاء المنزه الموثوق الذي هو شرط أساس للدولة القانونية ولمسيرة التنمية والتطوير والتحديث يجب أن يبقى مستقلاً بعيداً عن المؤثرات والمداخلات من أي جهة أتت, ومن أي نوع كانت.‏ وعند هذا المفصل يمكن تحديد مدلول استقلال القضاء بكونه “استقلاله كمؤسسة ويتجسد ذلك في استقلال القضاء اداريا وماليا ، كما يتجسد ذلك في سلطة اتخاذ القرار”. وهذا ما تكرس كمبدأ دستوري على قدر تعلق الامر ببلدنا العراق طبقا لدستوره النافذ لسنة 2005 ، اذ يطالعنا نص المادة (19) الذي اكد إن (القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون ). ثم جاءت المادة (88) من هذا الدستور لتوسع من نطاق هذه الاستقلالية بالنص على ان ( القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء او شؤون العدالة ) ، ثم بترصين هذه الاستقلالية اكثر في المادة (97) من الدستور بالنص على ان (القضاة غير قابلين للعزل الا في الحالات التي يحددها القانون كما يحدد القانون الاحكام الخاصة بهم وينظم مساءلتهم تأديبيا ). والحال ان هذه النصوص قد وسعت من مظاهر استقلال القضاء العراقي بحيث منعت السلطتين التشريعية (مجلس النواب ) والسلطة التنفيذية من التدخل في القضاء او شؤون العدالة بأي شكل من الاشكال، وبهذا التطور المهم اصبحت السلطة القضائية في العراق تقف على قدم المساواة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية من الناحية الدستورية النظرية. وباعتماد منطق المخالفة ، يطالعنا لفظ (التسييس) كنقيض موضوعي لاستقلال القضاء وضمان حياديته والذي يقصد به “عملية إضفاء صفة سياسية على موقف معين ليس له بالأصل هذه الصفة” . وتسييس القضاء من أبرز مسببات الأحكام الجائرة المجانبة للعدالة القانونية الوضعية والمحرفة للتشريعات. ويعود تسييس القضاء في أحد أهم أسبابه غير الشخصية إلى إصدار أحكام لخدمة أغراض السلطة التنفيذية , أو جهة سياسية متنفذة بالتعرض لضغوط منها أو إغراءات . وتنبثق ظاهرة تسييس القضاء في الغالب من مفصلين رئيسين اولهما التدخل في تشكيل السلطة القضائية بصورة تخدم توجهات السلطة السياسية ومصالحها ، وهذا ما تحقق على ارض الواقع ، منذ انطلاقة تجربة القضاء في العراق مع قيام الدولة الوطنية فيه في ظل دستور 1925 وصولا الى وقتنا الحاضر ، وحسبنا مراجعة بسيطة لأمر تشكيل المحكمة الاتحادية العليا الذي استند على القسم الثاني من ملحق قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي خول مجلس الوزراء السلطات الممنوحة له في هذا القانون في تعيين اعضاء المحكمة الاتحادية العليا على ان يتم تصديق ذلك من قبل رئاسة الدولة في الحكومة الانتقالية المنتخبة . وبالفعل صدر امر رئيس مجلس الوزراء رقم ( 30 لسنة 2005)القاضي بتشكيل المحكمة الاتحادية العليا في العراق . وفي هذا التخويل تحققت اولى المطبات السياسية لعمل القضاء بإخضاع تشكيل هذه المؤسسة المهمة لإرادة السلطة التنفيذية وتجاذبات آلية المحاصصة والتوازنات الحزبية التي ابتليت بها الدولة العراقية الجديدة بعد عام 2003 بما يشكل سلباً لإرادة الشعب المتمثلة بالهيئة المنتخبة من قبله وحقه في اختيار قضاة هذه المحكمة . وحتى تشكيلة المحكمة الاتحادية في ظل الدستور النافذ المنصوص عليها في الفقرة (أولاً) من المادة / 92 باعتبارها [ هيئة قضائية مستقلة مالياً وإدارياً ]، ، لم تسلم من النقد الممزوج بنزعة الخشية من الانسحاب الى التسييس ؛ فكونها (هيئة قضائية) حصراً (محكمة)، يعني أن أعضاء هذه الهيئة هم من (القضاة)، وبالتالي فإن حق التصويت على قرارات (المحكمة) سيكون هو الآخر منوط بأعضاء المحكمة من القضاة حصراً طبقاً للنص المذكور، وأي تفسير آخر يعطي لغيرهم من خبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء في القانون، من المذكورين في نص الفقرة ( ثانياً ) من المادة / 92 نفس الحق المذكور، على أساس أنهم أيضاً وطبقاً لنص الفقرة (ثانياً)، أعضاء في نفس الهيئة، ولهم ما لغيرهم من القضاة من الحقوق، وبالتالي يمكنهم من ممارسة حق (الاعتراض) أو (الفيتو) لأي من القرارات التي تتخذها الهيئة، وهذا ما سيحقق الازدواجية في هوية هذه المحكمة من جانب بين التوجه القضائي والاستشاري ، ويفتح ابواب الاجتهادات والتأويلات المختلفة لجهة تعارضها مع ثوابت الاسلام ومتطلبات الشريعة لتكون مدخلا للتأثير في قرارتها واخضاعها للمساومات السياسية تحت هذا البند .( ) وهكذا لم تكن السلطة القضائية في العراق الجديد ممثلة بأعلى محكمة فيها ( الحكمة الاتحادية) ومنذ بداية تأسيسها بعيدة عن دائرة التسييس على مستوى البنية والتشكيل . وكان هذا بدوره سببا في انسحاب اهم قرارتها الى دوامة التسييس وخدمة اغراض السلطة السياسية بشطريها ( التنفيذي والتشريعي ) . وما قراراتها الشهيرة بشأن تفسير المادة 76 من الدستور بخصوص مرشح الكتلة الاكثر عددا .( ) وقرارها الاكثر جدلا وقربا من دائرة العمل السياسي بخصوص ربط الهيئات المستقلة برئاسة مجلس الوزراء – خلافا لصريح المادتين ( 102، 103 ) من الدستور( ) ، وخلافا لقرارها الصادر عام 2008 ، بذريعة “ان الصفة التنفيذية تغلب على عملها” ( ( ؛ الا ادلة واضحة على خضوعها لتأثير السلطة التنفيذية وقربها من توجهاتها ؛ حتى ان رئيس اتحاد الحقوقيين العراقيين رأى ان “المشكلة في العراق قضائية وليست سياسية لان أغلب المشاكل صنعتها التفسيرات المزاجية لهذه المحكمة”. وبفرز مخرجات وتأثير ما تقدم من مظاهر لتسييس القضاء على حقوق الانسان وحرياته الاساسية يمكن القول انطلاقا من قاعدة الاقرار بالارتباط الحتمي بين القضاء وحقوق الانسان ، بكون النظام القضائي المستقل يُشكّل الدعامة الرئيسية لدعم الحريات المدنية، وحقوق الإنسان، -على حد تعبير اعلان مؤتمر القاهرة الثاني للعدالة العربية في 2003 – إذ يستحيل على الأفراد أن يأمنوا على تلك الحريات أو يمنعوا الاعتداء عليها دون وجود تلك الأداة التي تحمي تلك الحريات . وهذه الحقوق تعد من الحقوق الطبيعية للإنسان التي تلتصق بشخصيته ( ). بل ولا يمكن الحديث عن الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في ظل غياب حكم القانون ، لان المجتمع الديمقراطي هو مجتمع سيادة القانون، والعكس صحيح تماماً .( ) فاذا كان القضاء نهبا لإرادة وتوجهات السلطة التنفيذية من حيث النظرية العامة ، فأن هذه السلطة بما تملك من صلاحيات كبيرة لتنظيم حقوق الأفراد وحرياتهم فقد تنتهك هذه الحقوق بما تصدره من لوائح وأوامر أو تعليمات وما تتخذه من إجراءات حتى تصبح تصرفاتها مصدراً للظلم والشكوى من قبل الأفراد. وفي هذه الحالة لن يأمن الأفراد على أنفسهم بدون وجود قضاء مستقل ومحايد وعادل يدافع عن المظلوم ويقوم بإعلاء كلمة القانون. اذ يقوم القضاء بهذه المهمة عن طريق الرقابة على أعمال الإدارة (رقابة المشروعية)( )، حيث تناط مهمة مراقبة أعمال الإدارة إلى القضاء الذي يتوافر فيه كل مقومات الاستقلال والحيدة التامة وبذلك تعد ضمانة أساسية تحمي بها حقوق الأفراد وحرياتهم تجاه تعسف السلطة التنفيذية إذا ما جاوزت حدود صلاحياتها وبالتالي إجبارها على احترام القواعد القانونية( ). وان كان القضاء يقع تحت طائلة تأثير السلطة التشريعية المسؤولة عن وضع قواعد عامة مجردة لا شأن لها بالتطبيق في الحالات الفردية، مما يعني تراجع نسبة الخطورة على حقوق الانسان وحرياته لسببين اولهما انها السلطة المؤلفة من ممثلي الشعب ، وثانيهما لعدم وجود الاحتكاك المباشر بينها وبين الشعب من جانب التجاوزات التي تحصل على الاعم الاغلب نتيجة سوء التطبيق للقوانين وليس صياغتها . ومع هذا كله يمكن لهذه السلطة ( التشريعية ) أن تكون مصدر اعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم وذلك بخروجها عن الأحكام العامة للدستور، ويتم ذلك عندما ينص الدستور على حق من حقوق الأفراد، فيمكن للمشرع العادي أن ينتهكها أو يعتد عليها عن طريق إصدار أي تشريع أو قانون يتضمن الحد من هذه الحقوق أو الانتقاص منها أو مصادرتها سواء أكانت مصادرة كلية أم جزئية. ومن هنا كانت الرقابة القضائية على دستورية القوانين من أكثر الضمانات فاعلية لحماية الحقوق والحريات عن طريق قيامها بإلغاء أي تصرف أو الامتناع عن تطبيقه إذا ما توضح لها مخالفة القانون؛ فهذه الرقابة تكون لهم سلاحاً فعالاً يستطيعون بمقتضاه الالتجاء إلى جهة مستقلة محايدة وتتمتع بضمانات فعالة يتمكنون من خلالها المطالبة بإلغاء القرارات والقوانين المخالفة للقانون والمطالبة بالتعويض عنها. ومع غياب مثل هذا السلاح الرقابي على سلطة البرلمان او انحرافه ، فليس ثمة ضمانة بوجه تحول هذه المؤسسة ومريديها الى مؤسسة لإنتاج دكتاتورية النخبة او فسادها بل وتحولها الى تنظيم مافيوي لإدارة المصالح الخاصة لأعضاء البرلمان بعيدا عن رقابة القضاء او حتى بالتعاون معه كما حصل في الدول الشمولية ، عندئذٍ تكون حقوق الانسان وحرياته الحلقة الاضعف في هذه المفسدة الكبرى ؛ فتارة يجري التجاوز على هذه الحقوق من جانب القوانين التي تتجاوز عليها لتكرس وضعا غير دستوري ، وتارة اخرى عندما يفتقد المواطن الدور الرقابي لهذه المؤسسة على تجاوزات السلطة التنفيذية ثم يضيع تحت هذا الركام ملاذه الاخير بنصرة القضاء ودعمه . وفي حال كهذا ، ستمارس السلطة حينها مزيداً من العنف بأجهزتها القمعية تحت غطاء قانوني وبمساندة قضاة فاسدين لإرغام المواطنين على الخنوع والذل، وهكذا كلما تشبثت السلطة المستبدة بالحكم تداعت أكثر سلطة القانون وبتعاظم نفوذها في أجهزة الدولة يفسد الجهاز القضائي على نحو كامل. وعندئذٍ يجرد المواطن من سلاح القانون ويصبح أعزلاً فيضطر إلى حيازة سلاح آخر للدفاع عن كرامته ضد سلطة مستبدة وقضاء تابع ومسيس وبذلك لم يعدّ الوطن وطناً وإنما سجناً يحرسه رجال السلطة متسلحين بسياط القانون لقمع المواطنين التي تتناثر أشلاء حقوقهم في أجواء هذه المجزرة العظمى من جانب السلطة بكل فروعها . وهكذا تتضح اهمية وخطورة الرسالة التي يتحمل مسؤوليتها القضاء في حماية حقوق الإنسان، لأن الفرد لا يطمئن على حقوقه إلا عند وقوفه أمام قضاء قوي مستقل. ولذلك وصف القضاء بحق بأنه الحارس الطبيعي للحريات ؛ فكلما كان القضاء قوياً متطوراً ومستقلاً وبعيداً عن التدخلات والتأثيرات الخارجية كلما كانت الحقوق محمية ومصونة

القضاء والقانون العراقي من د. منذر الشاوي إلى مدحت المحمود ///في أواسط السبعينات صدر قانون إصلاح النظام القانوني وأبرز ما فيه: (يترأس مجلس القضاء وزير العدل) وهذا مخالف للدستور ويلغي استقلالية القضاء حيث تصبح السلطة التنفيذية مسلطة على السلطة القضائية وهذه مخالفة صريحة للدستور، واختلف كبار القضاة في وقتها مع هذا القانون وأولهم المرحوم محمود القشطيني رئيس مجلس القضاء ورئيس محكمة تمييز العراق، وكذلك المرحوم مالك الهنداوي رئيس الادعاء العام وعضو محكمة التمييز الذي تنحى عن منصبه وعاد إلى محكمة التمييز، والمرحوم عبد الفتاح الأورفلي رئيس هيئة الإشراف العدلي الذي أحال نفسه على التقاعد، وهو من علماء العراق في اختصاصه ،والمرحوم عبد القادر الجنابي مدير العدل العام، وللتوضيح فإن وزارة العدل في هيكليتها فيها مدير عام واحد وهو (مدير العدل العام) ويكون مديرها العام عضوا في مجلس القضاء.
تنحى المرحوم عبد القادر الجنابي عن منصبه وعاد إلى عضوية محكمة التمييز، وقدم كثير من القضاة على الإحالة على التقاعد وأذكر منهم: القاضي المرحوم محمد زينل رئيس جنايات الكرخ والمفتش العدلي، وكذلك القاضي المرحوم رشيد باجلان، والقاضي محمد شاهين الصوفي، والمرحوم عارف رشيد العطار، والمرحوم عبد القادر إبراهيم وكلهم رؤساء جنايات (محكمة كبرى) وقضاة آخرين أحيلوا على التقاعد وآخرين تم نقلهم إلى مناصب أخرى.
تم تعيين القاضي ساكن النورجي رئيساً لهيئة الإشراف العدلي وكان هذا الرجل فضاً غليظ القلب، وسبب كثيراً من الأذى لكثيرين في عهد وزارة الدكتور منذر الشاوي ،وتم تعيين المرحوم غسان الوسواسي رئيساً لهيئة الادعاء العام وكالة وهو رجل طيب خلوق مؤدب ويعتبر واحد من طلاب المرحوم مالك الهنداوي، وكذلك عين المرحوم راشد الشواف مديراً للعدل العام وكالة وهو نائب مدعي عام وكانت إمكانياته محدودة، وكل هؤلاء السادة عينوا بالوكالة لتكون عملية تغييرهم من صلاحية الوزير، وهذه الفكرة الشيطانية من جعبة مدحت المحمود الذي نسب للعمل في دائرة إصلاح النظام القانوني؛ وكما هو حال حكومة المالكي المنتهية التي اعتمد فيها هذه الطريقة وأصبح عدد من الوزراء يمارسون مهامهم بالوكالة؟!
أما رئيس مجلس القضاء ورئيس محكمة التمييز المرحوم محمود القشطيني وهي أعلى سلطة قضائية، فقد اعترض على قانون إصلاح النظام القانوني الذي ألغى استقلالية القضاء وجعل من السلطة التنفيذية مسلطة على السلطة القضائية وهذه مخالفة صريحة للدستور العراقي وبذلك يصبح وزير العدل رئيس مجلس القضاء، وفي أول اجتماع لمجلس القضاء وبرئاسة وزير العدل بلغ رئيس محكمة التمييز بالحضور للاجتماع فكتب هامشه التأريخي بعدم الحضور إلى مجلس القضاء إلا بغياب وزير العدل.
ولم يصدر أي رد فعل من وزارة العدل ولم يحضر رئيس محكمة التمييز أي اجتماع لمجلس القضاء وقد أحيل رئيس محكمة التمييز بعد اكثر من سنة على التقاعد، وللتأريخ كانت رغبة رئيس الجمهورية المرحوم أحمد حسن البكر بقاء رئاسة محكمة التمييز للمرحوم القشطيني إلا إنه لم يحصل ذلك لأسباب سياسية، وفعلاً أحيل المرحوم على التقاعد، ويوم انفكاكه كان يوماً مشهوداً للقضاء العراقي حيث ودعه قضاة العراق بتجمع صامت وملأتهم الحسرة على خسارة القضاء العراقي لهذا القاضي العام، وللتأريخ نذكر أنه في يوم وفاته كل قضاة العراق وشخصيات العراق ساروا خلف نعشه وحتى كبار السن والمرضى، رحم الله رئيس محكمة تمييز العراق ورئيس مجلس القضاء العالي وكبير قضاة العراق المرحوم محمود القشطيني.
تمّ تعيين أحد القضاة رئيساً لمحكمة التمييز وكالة، وقام السيد وزير العدل الدكتور منذر الشاوي بزيارة إلى محكمة التمييز بعد إحالة رئيسها على التقاعد واجتمع مع الهيئة العامة لقضاة محكمة التمييز وهم أكثر من عشرين قاضي تمييز، وألقى كلمة في اجتماعه معهم وهو بليغ الخطابة وقال: قدمنا لنفتش محكمة التمييز وهنا أخذ القضاة ينظرون لبعضهم فانبرى القاضي المرحوم عبد القادر الجنابي ورفع يده مقاطعاً السيد الوزير وقال: يا سيادة الوزير المحترم محكمة التمييز أعلى سلطة قضائية لا تفتش فإن قدمت زائراً على الرحب والسعة وإن قدمت مفتشاً فهذه تشكل مخالفة لا تليق بمقامكم، وهنا ترك السيد الوزير الاجتماع وخرج غاضباً وذهب وعرض الموضوع على القيادة العليا وصدر أغرب قرار لمجلس قيادة الثورة حيث أحيل القاضي المرحوم عبد القادر الجنابي على التقاعد مع اعتبار خدمته الممتدة لثلاثين عاماً غير قضائية.
وهنا أرسل المرحوم رسالة إلى القيادة وبعد المقدمة قال: يا سيادة الرئيس انا قاضي ما يقارب ثلاثين عاماً، وعملت قاضياً في الكثير من محاكم العراق فإذا كانت هذه الخدمات القضائية غير قضائية فيتوجب النظر بأحكامي كلها، وأنا أستغرب لصدور مثل هذا القرار وأحكامه من الدائرة القانونية في رئاسة الجمهورية، وعندما قرأ رئيس الجمهورية الرسالة قال: هذا الرجل على حق وقد ألغي القرار.
واستمر الحال في وزارة العدل وعقد اجتماعات يومية مع قضاة وأساتذة الجامعة وقانونيين واستعان بأساتذة القانون وقضاة آخرين، والحقيقة وللتأريخ انهم متمكنون وأذكر منهم للتأريخ الدكتور صفاء الحافظ، وهو أستاذ جامعي مرموق وكان قد ألقي القبض عليه وهو يعمل بهذه اللجان في وزارة العدل ومصيره أصبح مأساوياً ولم يتمكن وزير العدل أن يقدم له أي عون، والتف حول وزير العدل بعض القضاة الذين يبحثون عن المنفعة وكذلك عدد من نواب المدعين العامين، وبالنتيجة لم ينجز شيء من برنامجه القضائي سوى المعهد القضائي الذي كان السبب الرئيس بهبوط مستوى القضاة في كل المجالات.
وقدم الوزير قانوناً إلى المجلس الوطني للمصادقة عليه ملخصه بأن الولد المتبنى يرث متبنيه ويجب الإرث عن المستحقين شرعاً، وهذا القانون يخالف القرآن الكريم نصاً وروحاً، وللتأريخ فإن أعضاء مجلس النواب عارضوا هذا القانون وتصدوا له ولم يمر القانون وأعيد إلى ديوان رئاسة الجمهورية ووقعت ملامة على وزير العدل، أما القانون الثاني وهو قانون أموال القاصرين وكان المدير العام في وقتها القاضي يوسف المعمار وعارض هذا القانون بإجماع القضاة، وهنا قدم القاضي عبد الستار البزركان طلب أعفائه من منصب رئيس الادعاء العام وكالة وانصرف للقضاء.
على أثر هذه المواقف للقضاة اجتمع بهم رئيس الجمهورية ومن على شاشة التلفزيون، فند القضاة كل ما جاء به الدكتور منذر الشاوي وأخذ القاضي أكرم الدوري رحمه الله بشرح بعض أفكاره إلى رئيس الجمهورية وهو يضرب على الطاولة بيده، وتمكن القضاة من اقناع الرئيس بأفكارهم وعلى أثر هذا الاجتماع أقيل الدكتور منذر الشاوي وعيّن القاضي أكرم الدوري وزيراً للعدل ولم يتمكن ان يصلح شيئاً لأن قوانين كثيرة قد صدّق عليها، فخرج من الوزارة وقدّم الأستاذ شبيب المالكي للوزارة وهو رئيس جمعية الحقوقيين ورجل قانون ودرجته الحزبية عالية، وبقى المالكي وزيراً للعدل واتسمت وزارة العدل بالهدوء في فترته، ثم تم إقالة الأستاذ شبيب المالكي لكبر سنّه وأعيد الدكتور منذر الشاوي.
وبقدوم الاحتلال المجرم بدأ الأميركان يفتشون عن قضاة ليتعاونوا معهم وطرحوا فكرتهم على رئيس محكمة التمييز في وقتها، فأبى ان يكون رئيساً لمجلس القضاء وألحوا عليه إلحاحاً كثيراً وأبى ان يتعاون مع الاحتلال، وهنا قدّم مدحت المحمود نفسه واستعان بأحد أقاربه الذي قدِمَ مع الاحتلال وعين رئيساً لمجلس القضاء العالي، ومن يوم توليه نفذت مذبحة القضاة من محكمة التمييز التي قتل منها وحدها ستة قضاة مرموقين، وأكثر من عشرات القضاة من الجنايات والبداء والصلح والتحقيق وقضاة نزاعات الملكية.
والآن فقد القضاء العراقي مصداقيته امام الشعب العراقي ونزلت سمعته خارج العراق إلى الحضيض والمثل يقول: (إذا كان ربّ البيت بالدف ناقراً فشيمة أهل الدار كلهم الرقص).
أمثلة من القضاء العراقي سابقاً:
المثال الأول: دخل الملك فيصل الأول رحمه الله إلى محكمة جنايات الرصافة (الكبرى) وكانت الهيئة القضائية تحاكم متهماً فلم يقطع رئيس المحكمة المحاكمة واستمر، وجلس جلالة الملك رحمه الله على مسطبة المستمعين وحين انتهت الجلسة أصولياً قام القاضي مع مساعديه للترحاب بالملك وهو الذي بنى الدولة العراقية فشكرهم على عدم إنهاء الجلسة وقال كلمته المشهورة (ارتحت لرصانة القضاء العراقي).
المثال الثاني: في الخمسينات من القرن الماضي وقع شغب في مدينة طوزخرماتو وطلب القاضي سحب الحصانة النيابية عن نائبين فحدث صخب في مجلس النواب والمعارضة مصممة على سحب الحصانة النيابية، وكان رئيس الوزراء وقتها المرحوم نوري سعيد ولم يتمكن من استدعاء القاضي وما كان امامه إلا أن يذهب إلى تلك المدينة ومعه سائقه والتقى بالقاضي وشكر القاضي على موقفه القانوني وتم حل الموضوع عشائرياً وتعويض المتضررين.
المثال الثالث: في سنة 1954م صدر حكم مجحف من محكمة جنايات ديالى وكان رئيس المحكمة شاكر الأوقاتي، فنظم الطرف المظلوم كراساً بوقائع المحكمة كلها وأهدى الكراس إلى جلالة المرحوم الملك فيصل الثاني رحمه الله فأصدر إرادته بإعادة المحكمة وإحالة رئيس المحكمة على التقاعد.
المثال الرابع: في عهد عبد الكريم قاسم قدم الحزب الإسلامي إجازة للعمل ولم يمنحه الحاكم العسكري العام الإجازة، فميّز الحزب الإسلامي القرار لدى محكمة التمييز فجن جنون الحاكم العسكري العام، ويذكر انه سبق وتم بناء بناية لمحكمة في القشلة ممتدة من الساعة وحتى نهاية بناية مجلس الوزراء ومكونة من ثلاثة طوابق، وزار عبد الكريم قاسم القشلة ووزارة العدل وعند خروجه وقف عند البناية وهو يعلم أنها لمحكمة تمييز العراق، فسأل لمن هذه البناية فقال له مرافقوه: إنها لمحكمة التمييز، فقا بناؤها هنا خطأ فهي تحجب منظر دجلة وأصدر أمراً بإزالتها وهي شبه كاملة والمثل يقول (لم يتمكن على البشر كسر الحجر)، وفعلاً أزيلت البناية لرغبة الزعيم الأوحد وبقت محكمة التمييز شامخة ملجأ لكل مظلوم، ولكن الاحتلال افسد القضاء العراقي ودمره بالقضاة الفاسدين ونقول رغم كل الفاسدين: سينتصر العراق.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here