هل تخلت القوى السياسية الليبية عن عقلية الإقصاء والتهميش؟

ساهر عريبي

[email protected]

أعلن كل من رئيس مجلس النواب الليبي المنعقد في طبرق, عقيلة صالح ورئيس المجلس الرئاسي في العاصمة طرابلس وبشكل متزامن, وقفا شاملا لإطلاق النار في بلاد عمر المختار التي مزقتها الحروب الداخلية والتدخلات الخارجية منذ سقوط حكم الرئيس السابق معمر القذافي في العام 2011.

مرّ قرابة العقد من الزمن على ذلك السقوط لكن الليبيين لم يتلمسوا طريقهم نحو الاستقرار والمصالحة الوطنية وإعادة بناء ما دمرته الحروب الداخلية, فضلا عن التصويت على دستور جديد وتشكيل حكومة واحدة تقود البلاد في ظل هذه الظروف العاصفة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط.

فكان ماحدث خلال السنوات الماضية كارثة بكل المقاييس, حكومتان أحدهما تحكم الشرق ويرأسها عبدالله الثني غير معترف بها دوليا, لكن مجلس النواب المنعقد في طبرق يوفر لها الغطاء الشرعي الداخلي, وحكومة أخرى في الغرب ويرأسها فائز السراج وتتخذ من طرابلس مقرا لها, ولدت من رحم اتفاق الصخيرات الذي وقع في المغرب عام 2015 , معترف بها دوليا لكن لم تحظى بمباركة مجلس النواب وفقا لما نص عليه اتفاق الصخيرات.

ونتيجة لذلك انقسمت مؤسسات الدولية النفطية والمالية والعسكرية بين الحكومتين, فهناك مؤسستان للنفط ومصرفان وجيشان, احدهما يخضع لحكومة الوفاق وآخر للحكومة المؤقتة ويقوده اللواء المتقاعد خليفة حفتر بالرغم من ان القائد العام للقوات المسلحة هو رئيس البرلمان عقيلة صالح. وفضلا عن هاتين الحكومتين كانت هناك حكومة اخرى في طرابلس يرأسها خليفة الغويل قبل ان تتلاشى.

انقسمت الدول المؤثرة في المشهد الليبي بين هذا وذاك, فمنها من وقف خلف حكومة الوفاق مثل إيطاليا وتركيا ومنها من دعم الشرق الليبي الذي برز فيه خليفة حفتر كزعيم قوي, وفي طليعة تلك الدول فرنسا ومصر ثم دخلت لاحقا روسيا على الخط لتلحق بها الإمارات مقدمة الدعم العسكري والمادي لحفتر, فيما فعّلت تركيا من دورها في ليبيا عبر تقديم مساعدات عسكرية لحكومة الوفاق التي كانت تتعرض إلى ضغوط بعد ان حاصرت قوات حفتر العاصمة.

وتقف وراء تدخلات الدول الخارجية في الشأن الليبي دوافع مختلفة منها اقتصادية واخرى أيديولوجية ومرة جيوسياسية. فإيطاليا التي تعتبر ليبيا إرثا استعماريا, ارتبطت بعلاقات اقتصادية وثيقة مع طرابلس في ظل النظام السابق وخاصة على على صعيد الطاقة, فيما ظهرت فرنسا كمنافس غير مرغوب فيه من روما في ليبيا.

وفيما يتعلق بمصر وتركيا, فإن حكومة الوفاق يهيمن عليها الإسلاميون المقربون من جماعة الأخوان المسلمين الذين يسعى الرئيس المصري لتقليص نفوذهم في ليبيا خوفا من المستقبل, خاصة وأن مصر تحتفظ بحدود طويلة مع ليبيا مع الأخذ بعين الاعتبار ما يمكن وصفه بحرب الإبادة الجماعية التي شنها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على الجماعة والتي أثارت غضب اعضائها وامتداداتها ومناصريها في شتى أرجاء المنطقة.

وأما الإمارات فهي الأخرى رفعت راية محاربة الأخوان المسلمين في المنطقة, وتجلى ذلك عبر دعمها للانقلاب الذي قادة السيسي على الرئيس المنتخب محمد مرسي, والزج بقيادات الأخوان في الإمارات في السجون والتضييق على مناصريها من الفلسطينيين وغيرهم من المقيمين في الدولة. رأت الإمارات في حفتر خيارا مناسبا للقضاء على الأخوان في ليبيا عبر احتلال العاصمة طرابلس وإسقاط حكومة الوفاق.

وأما روسيا فإن الدوافع الاقتصادية تقف وراء دعمها لحفتر الذي سيطر على ما يعرف بمنطقة الهلال النفطي وأهم مدنها سرت التي كانت بيد قوات حكومة الوفاق, التي نجحت في تحريرها من تنظيم داعش بدعم من قوات أفريكوم الأميركية. جمعت روسيا بالنظام السابق روابط أقتصادية قوية, كما أنها تطمع في ان يكون لها موطئ قدم في منطقة حوض المتوسط إضافة لقاعدتها البحرية في طرطوس السورية.

لكن هذا الدعم الروسي كان القشة التي قصمت ظهر البعير واطاحت بآمال حفتر في السيطرة على كامل التراب الليبي. فالولايات المتحدة التي وقفت على الحياد في مرحلة ما بعد إسقاط النظام السابق, معلنة بانها لن تتدخل في الشان الليبي إلا فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب. فكانت تنفذ بين الحين والآخر عمليات ضد الجماعات المسلحة التي تصنفها إرهابية, وكانت أبرز عملياتها هي تحرير مدينة سرت من قبضة تنظيم الدولة.

لكنها غيرت من موقفها في ليبيا بعد التدخل الروسي والدعم الذي قدمته موسكو لحفتر, كما وأن القلق اجتاح الدول الأوروبية المؤثرة في ليبيا من عواقب التدخل الروسي الذي قد يشكل تهديدا عسكريا لأوروبا وكذلك تهديدا اقتصاديا لمصالح الدول الأوروبية وخاصة إيطاليا وفرنسا وبدرجة أقل بريطانيا. فكان التدخل العسكري التركي في ليبيا وبمباركة اوروبية أميركية, القشة التي قصمت ظهر حفتر, مجبرة إياه على الانسحاب من محيط العاصمة وإنهاء الحصار الذي فرضه عليها منذ اكثر من عام .

وعند التأمل في هذه الأحداث ومنذ إسقاط النظام السابق, فيتضح وبما لايدع مجالا للشك أن عقلية الإقصاء والتهميش التي هيمنت على المشهد هي التي أدت إلى دخول البلاد في هذا النفق المظلم الذي كلف ليبيا خسائر مادية وبشرية جسيمة ووضعها على شفير التقسيم.

فالقوى التي تولت الحكم بعد إسقاط القذافي, حاولت إقصاء كافة أنصار النظام السابق وهم شريحة مجتمعية لا يستهان بها, بل إن تدهور الأوضاع قد عزز من موقع هذه الشريحة في البلاد, عبر العزف على وتر أن ليبيا كانت في زمن الدكتاتورية في حال أفضل بكثير مما هي عليه اليوم, مع غياب الدولة وتردي الأوضاع على مختلف الصعد. حتى وصل الأمر إلى حد المجاهرة بترشيح نجل القذافي سيف السلام لقيادة البلاد.

هذه العقلية الإقصائية التي مارستها قوى الثورة همشت من دور الشرق الليبي بحكم سيطرتها على العاصمة طرابلس, ولم ينجح اتفاق الصخيرات الذي أريد له ان يضع حدا للأزمة الليبية, لم ينجح في التقريب بين الفرقاء الليبيين, الذين سرعان ماعادوا لمواقعهم السابقة فمنهم من تمترس في طرابلس ومنهم في بنغازي والرجمة وطبرق.

وفي مقابل هذا الإقصاء في الغرب, سعى الشرق لإقصاء الإسلاميين تحت ذريعة الإرهاب , مع أن الجماعات الإسلامية ليست جميعها تصنف إرهابية, فكانت معارك بنغازي ودرنة, التي أنهت تلك الجماعات. فيما تحالفت قوات حفتر مع جماعات سلفية مقربة من السعودية تدعى بالمدخلية بحكم عدائها لجماعة الأخوان التي تنتمي لها بشكل مباشر او غير مباشر معظم الجماعات اسلامية في ليبيا.

ثم قرر الشرق إقصاء الغرب تماما من المعادلة عبر الحملة العسكرية التي قادها حفتر والتي استهلها بالسيطرة على منطقة الهلال النفطي وسبها جنوبا والتي أغرته بحسم معركة طرابلس. لم يكن لمدينة مصراتة التي تعتبر قائدة للثورة ضد القذافي ان تستسلم لهذا المصير وهي التي تتمتع بثقل اقتصادي تاريخي في ليبيا وثقل عسكري في طرابلس عبر الجماعات المسلحة التي تسيطر على العاصمة وتتلقى التمويل من حكومة الوفاق.

نجحت مصراتة وعبر المجلس الرئاسي في إنقاذ الغرب من هزيمة محتمة مستعينة بتركيا التي ترتبط معها المدينة بروابط آيديولوجية و بعلاقات تاريخية تعود إلى ايام الدولة العثمانية, حيث استوطنتها العديد من العائلات النافذة ذات الأصول التركية. حسم التدخل التركي معركة طرابلس فتقهقرت قوات حفتر . لم تكتف قوات حكومة الوفاق بفك الحصار عن طرابلس بل قررت ان تلاحق قوات حفتر في سرت والجفرة جنوبها, بل ذهبت إلى أبعد من ذلك معلنة عزمها إخضاع كامل التراب الليبي لسيطرتها.

موقف يعبر مرة أخرى عن عقلية إقصائية لن يكتب لها النجاح في ليبيا بل إنها ستطيل الأزمة. وستزيد من وتيرة التدخلات الخارجية. فكلا طرفي النزاع ليس بمقدورهما حسم النزاع دون استعانة بالأطراف الدولية والإقليمية, والنتيجة مزيد من الدمار في ليبيا ومزيد من الانتهاك لسيادتها.

وبعد كل هذه السنوات المريرة يبدو أن صوت العقل نجح في لجم ازيز الرصاص, بعد ان أثبتت التطورات الأخيرة بأن إقصاء القوى الفاعلة في الغرب الليبي او تلك الفاعلة في الشرق امر شبه مستحيل في بلاد للقبائل فيها الكلمة العليا, فيما يسيل لعاب الطامعين بها في الخارج كلما اشتد الصراع بها.

لقد أيقن كل من عقيلة صالح رئيس البرلمان من جهة وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة اليوم باستحالة إقصاء او تهميش أي منهما او من يمثلانه, فكان إعلان وقف إطلاق النار اول خطوة في طريق إعادة بناء الدولة الليبية من جديد ووقف مسلسل الدمار وسفك الدماء وهدر الثروات.

خطوة لن تروق للكثيرين من اصحاب المصالح في الداخل, ممن يعتاشون على الحروب والنزاعات ويجنون عبرها الثروات ويعززون النفوذ, كما انها لن تروق للدول الطامعة في ليبيا التي قد تسعى لعرقلة أي حل لوطني للأزمة لا يضمن مصالح تلك الدول وهي متعددة ومتضاربة ولو عبر إشعال حرب أهلية واسعة النطاق سيكون الخاسر الأكبر فيها شعب عمر المختار.

خطوة ينبغي أن تتبعها خطوات مهمة اخرى واولها تحديد تاريخ لإجراء انتخابات برلمانية جديدة, خاصة وأن مفوضية الانتخابات التي حدثت عدة مرات سجلات الناخبين اعلنت منذ وقت طويل استعدادها لإجراء مثل هذه الانتخابات. ولاشك أن إعادة تصدير النفط ووضع عوائده في حساب مصرفي خاص ينفق على مختلف أجزاء البلاد, هو إجراء إيجابي سيسهل مهمة إجراء الانتخابات. ولاشك ان التصويت على دستور جديد للبلاد قبل إجراء الانتخابات هي خطوة أساسية وحيوية.

وتبقى الجماعات المسلحة غير النظامية خطرا يهدد البلاد مالم يتم دمجها ضمن القوى الامنية والعسكرية بحسب ضوابط يتفق عليها بين مختلف الأطراف, وكذلك توحيد المؤسسة العسكرية, إذ لا يمكن إقصاء قوات الجيش التي يقودها خليفة حفتر ولا تلك التي يقودها السراج.

إن التحديات التي تواجه ليبيا متعددة وخطيرة ولكن الليبيين هم الوحيدون القادرون على مواجهتها شرط تخليهم عن عقلية الإقصاء والتهميش وبدء مصالحة وطنية شاملة, وترك الاستعانة بالخارج للاستقواء على بعضهم البعض, فخيرات ليبيا تكفي ليعيش فيها جميع المواطنين بخير ورفاهية وأمان, ودون حاجة لإقصاء او تهميش أي من مكوناتها القبلية والسياسية والعرقية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here