أضواء على رواية ” عصفور من الشرق ” لتوفيق الحكيم

أضواء على رواية ” عصفور من الشرق ” لتوفيق الحكيم
عبدالجبارنوري
مزج توفيق الحكيم بين الرمزية الواقعية على نحوٍ متميّز غير مسبوق بالمرّة حيث الخيال والعمق دون غموض أو تقييد وعموم المبالغة ، فمثلاً ما أشار أليه في أنجازه الأدبي ( أسطورة أيزيس) : فأن أشلاء أوزوريس الحيّة في الأسطورة تعني :تقطع أوصال مصر في مظهر فقدان التماسك والأتحاد فهي الرمزية في نصيّة الأسلوب ، فكان لهُ الأثر في نشوء تيار أدبي جديد في المسرح العربي هو ما عُرف ب ( المسرح الذهني ) ، لقد أستخدم أدب الخيال السوسيولوجي في مد خط الحلم الحداثي إلى أقصى أستقامة تمكن بها خلق مشروع درامي يليق بمصر، ويقصد بالمشروع الدرامي هو لأجل معالجة جانب من الحياة الأنسانية للفقر المدقع للمجتمع المصري آن ذاك ، ويعني في نظري : أنهُ أنحاز كلياً إلى أستلهام التراث المصري عبر عصوره المتعددة في الفرعونية والرومانية والأسلامية والقبطية ، ميله الشديد نحو الفرعونية واضحة في رواية ( عودة الروح ) .
أكتشف أن الثقافة المسرحية الأوربية أسستْ على جذور المسرح اليوناني ، أنتقد لعبة كرة القدم ومحبوبية وأشتهار اللعبة في عموم أوربا والعالم ، وخصوصاً عندما قرأ الرواتب الفلكية لبعض نجوم اللعبة ، كانت عبارته المشهورة : { أنتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم ، لقد أخذ هذا أو ذاك اللاعب في سنة واحدة ما لم ياخذهُ كل أدباء مصر من أيام أخناتون } .
توفيق الحكيم كاتب روائي مسرحي مصري ولادة الأسكندرية 1898 /1987 من أكبر كتاب مصر في العصر الحديث ، درس القانون في القاهرة وباريس ووظف أهتمامهُ نحو فنون الأدب والرواية ، كانت بدايات أنتاجه الأدبي في ثلاثينيات القرن العشرين في أبداعاتهِ المتألقة في ” أهل الكهف ” وعودة الروح ، وشهرزاد ، وعصفور من الشرق ، والطعام لكل فم ، ويا طالع الشجرة ، ولهُ 100 مسرحية و52 كتاباً وتأثر بالثقافة الأوربية والمصرية فكانت مدوناته الأدبية من وحي التراث المصري بعصورهِ المختلفة ماراً بالتطورات السياسية والأجتماعية ، تُرجمتْ اعمالهُ إلى الفرنسية والأنكليزية والأيطالية والأسبانية ، تميّز الحكيم بمساره الأدبي المسرحي ، فقد حرص على المزج بين الواقعية والرمزية كما وضُحتْ في روايته ” أهل الكهف ” 1933 ، ورموزهُ السردية بعيدة عن المبالغة ، ولكنهُ لهُ القدرة على التصوير والغوص في مجمل الدلالات والمعاني بدقة شديدة ، يعد من رواد الأدب الحديث وهو صاحب تيار ” المسرح الذهني ”
رواية ” عصفور من الشرق ” للروائي المصري ( توفيق الحكيم )1938 جسدت فكرة التباين بين الشرق والغرب ، وتعالج موضوع العلاقة بينهما عند توقيت التأريخ التنويري الأوربي ما سمي بعصر النهضة الأوربية التي باتت تعتبر صورة أوربية حديثة ربما صادمة بفجائيتها بالتقدم الأنفجاري بمجالات الحياة اليومية لترقى بالعالم الغربي إلى درجات رفيعة في سلم الحضارة البشرية ، بفعل الأستكشافات الجغرافية وحيازة المستعمرات العديدة في أرجاء كوكب الأرض ، بينما بقي الشرق قابعاً في مكانهِ مذهولاً ومصدوماً من جراء ما أكتشف الهوة السحيقة بينهُ وبين الغرب ، وفي أعتقادي أن الصدمة الكهربائية شكلت عوامل دفع في فضاءات الشرق حيث أخذ يتحسس مواطن الحضارة الغربية ليفهمها ثُمّ ليستوعبها ، وخلال كل هذا الصراع قد يشعر بالدونية ويعيش الجلد الذاتي على تأخرهِ هذا ، كان ” توفيق الحكيم ” سباقاً إلى طرح تلك العلاقة (روائياً) وفتح الأبواب لتجارب أخرى جاءت بعدهُ مثل ” قنديل أم هاشم ” ل يحي حقي 1940 والحي اللاتيني لسهيل أدريس 1954 ثُمّ ” موسم الهجرة إلى الشمال ” للطيب صالح ، فكانت رائعة توفيق الحكيم ” عصفور من الشرق ” موفقاً في توظيف تقنيات الفن الروائي وأبعادها عن الخطابية والتقريرية التي طفت على ما قبلها ، ورسم الأحداث والشخصيات بشكلٍ مقنع يدعو القاريء للغوص فيها ، وكان الحكيم فناناً محترفاً وواعياً بتقنيات الكتابة الروائية التي تختلف كليا عن الكتابة الخطابية الوعظية ، ففي هذه الرواية بالذات أعطى الأولوية للحدث الذي يتحرك ويتطوّرْ ليترك القاريء أستنتاج الدلالات ، وكشف الحكيم في الرواية مآخذ تلك الحضارة الغربية في : مادية الحضارة الغربية التي غيّبتْ روحانيتها وخلوها من روح الفن وهنا يتجاوز الحكيم مفهوم الصراع إلى مفهوم أعمق هو التأكيد على فقدان الروحانية في الحضارة الغربية الحديثة ، ومن جانبٍ آخر طرح الحكيم في روايتهِ بعض المشتركات والمقاربات التأريخية والحضارية الفنية بين الشرق والغرب ، وشكلت الرواية مدخلاً وأساساً لمنظري السلام وحوار الحضارات في القرن العشرين ، مؤكداً على غياب ( الكمال المطلق ) في كليهما الشرق والغرب ، والرأي للكاتب الروائي الحكيم يطرح من خلال شخوص المسرحية الروائية : أن الحضارة الغربية لا تسمح للناس ألا أن يعيشوا في عالمٍ واحد فقط بينما الحضارة الشرقية تكمن سر عظمتها أنها جعلت الناس يعيشون في عالمين دنيوي وآخروي أو سماوي وأرضي .
الفروق الجدلية بين الحضارتين وقراءتها حداثوياً !
تعد الدراسة أنعكاساً حقيقياً لحال المجتمع الفرنسي في زمن حياة الحكيم في ثلاثينيات القرن الماضي ، وتكمن مغزى الرواية في صراعات الحضارات والنظريات المطروحة في محاولة الروائي البحث عن الحلم المفقود .
وقد قرأتُ الرواية في الخمسينات وجدتُ فيها من كل زهرة لون بها من الحب ربيعهُ والعمر صحراءهُ ومن الروح شفافيتها ، وبعاطفة شبابية متأججة تقمصتُ تأييد الحكيم في كل ما طرح من رؤى عن الغرب والشرق ، واليوم ونحن في الألفية الثانية من القرن 21 وأصبح زمن الروائي الحكيم عن بعد أكثر من تسعين عاماً وتحت تأثري بالمعطيات الحداثوية المعصرنة طلقتُ أفكار الحكيم لتأثري بالواقعية والتأمل بدل أحلام اليقظة الغيبية وتمسكتُ بأهل الأرض لتحسسي بأوجاعهم وطموحاتهم المشروعة في الرغيف والحرية ، ووجدتُ في الرواية :
أنها محاولة بائسة وجريئة أقتحامية فقدت زمكنتها لكونها أسيرة وقتها فقط ، لقد تبين اليوم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ونحن نعيش الأضواء الكاشفة في رفاهية الحضارة الغربية وثقافاتها وتطورها الرقمي خصوصاً في فرنسا أم الدنيا بنظري .
وأهم هذه الفروق هي :
-الفرق الدستوري تعتبر المجتمعات الشرقية على العموم مبتلاة بأنظمة شمولية دكتاتورية قمعية ، بينما الأنظمة الغربية محمية بأنظمة وقوانين عادلة في حقوق الأنسان ، وهل أطلع الحكيم – وهو في فرنسا – على مباديء روسو في الحرية والمساواة .
– القدرات العلمية عند الغرب متعددة ومتجددة وقابلة للتطور وتولت اختراعات الغرب في كل مجالات الحياة ، أما الشرق لم ينتج أي شيءٍ نافع ولم يكملوا ما بدأ الأجداد في حقول الطب في زمن أبن سينا وأبن الهيثم بل أعتمدوا الأتكالية والأستهلاكية الطفيلية .- الفرق المعماري والبيئي أتجه الغرب في التفنن في ريازة العمارة والحدائق والمنتزهات والنصب التذكارية ، بينما العرب ليس فقط أهملوا هذا الجانب بل تفنن المتطرفون الأسلاميون في تخريب وأزالة العمارة والنصب التأريخية وقد فجعونا في الموصل العراقية في نسف منارة الحدباء التأريخية وأزالة مدينة الحضر التأريخية ، فهي أمة بدوية سالبة كما قال العلامة المغربي أبن خلدون في كتابه المقدمة .
– الفروق الفلسفية في الثقافة الشرقية تعتمد على الأسلامية والبوذية والكونفوشية بعموم شمولية القارة الآسيوية بينما تعتمد المسيحية والتلمودية وتنحو بأتجاه العقلانية المنطقية ، الثقافة الشرقية تستند على الأبدية بينما الغربية تستند على الفلسفة المسيحية في كل شيء لهُ بداية ونهاية ، والشرقية تستخدم التأمل الروحي من خلال الذات أما الثقافة الغربية تعتمد على المنهج العلمي بمنجز عملي في البحث خارج الذات من خلال البحث والتحليل ، تعتمد الثقافة الشرقية على الوسائل الروحية والغيبية في تحليل الظواهرالطبيعية والأجتماعية بينما الثقافة الغربية تعتمد على التحليل المادي الملموس للظواهر السوسيولوجية للمجتمع .
– قابلية الحضارة الأوربية على التطور خلال القرنين السادس عشر والعشرين شملت مجالات الفلسفة وتطوير طرق التربية والتعليم وأزدهار العلوم الأنسانية وأنفتاح العقل الغربي ومشاركته الفعلية والعملية في عصر التنوير ، وظهور مباديء ومصطلحات جديدة مثل الديمقراطية ، أما الحضارة الشرقية على العموم أنها بدأت في وادي الرافدين ووادي الكنج والسند والأردن منذ أكثر من سبعة آلاف سنة أن شعوبها علمتْ الغرب أبجديات الحروف والكتابة ولكنهم لم يحافظوا عليها وأهملوها ولم يخضعوها للتطوير بفعل التركيبة الذاتية السايكولوجية المتقوقعة للعربي والنظم الأستبدادية الشمولية المستلبة ووقع في المحذور حيث الأنعزال والأتكالية بأخذ قشور الحضارة الغربية وترك جوهرها وأصلها كما قال نزار قباني في هذا الموضوع : ( لبسنا ثوب الحضارة والروح جاهلية )
أخيراً/قد أختلف مع الروائي المتألق وهو من الكبار- ليعذرني – في أنعدام حياديته بين الحضارتين أذ أنحاز بشكلٍ كلي في روايته الرائعة ” عصفورٌ من الشرق ” ذاكراً سلبيات الحضارة الغربية دون الأشارة إلى أيجابياتها وتنويرها العالم المادي بالمعرفة والتكنلوجيا ، وأنتقاده لماركس الذي فك لغز الأنعتاق للطبقات الفقيرة والمسحوقة في الشرق والغرب ، وغاب عنهُ أن يذكر مستلبات وسلبيات النظام الرأسمالي المتعدد الرؤوس في أستعمار الشعوب وسلب مقدراتها المادية والأرثية الثقافية ، وتكلم عن الفاشية الماركسية وتغافل عن ذكر الفاشية النازية والرأسمالية الجشعة الطفيلية والمتوحشة اليوم التي أشعلت الحربين الكونيتين التي أبادت الملايين من بني البشر وتخريب البنى التحتية والفوقية لنصف العالم تنازلا لعراب الأقتصاد الرأسمالي ( مالثوس ) ، وللحقيقة لم يكن في طرحهِ عدلاً ، وهنا تكمن الهفوّة التي وقع فيها الروائي الحكيم متجرداً ومنحازاً كلياً للشرق مسلفناً أفكارهُ بأثنية قبلية تحامل بطريقة غير موضوعية على الحضارة الغربية بالوقت الذي الغرب هو الذي حقق أحلام البشرية من خلال الأنجازات العلمية ، بيد أن الحكيم أصر خلال سرده الروائي على عمق زمكنة الحضارة الشرقيىة ، أي نعم ولكنهم لم يحافظوا عليها أو يطوروها لخدمة البشرية ، وهو يقول : على لسان ( أيفان ) بطل روايته عصفور من الشرق : آه— آه النور يشرق من بلاد الشرق ليغرب في بلاد الغرب ص180 ، ليتهُ (حياً) ليرى ماذا أقدم عليه عصابات خارج التأريخ وهم مسلمون من تكفير الغرب والشرق وفرض الجزية على الشعوب ونصب دكات النخاسة لبيع وشراء المرأة ، ومعاول وبلدوزرات جيشها أتت على الأخضر واليابس ، وهو يعترف بضياع الشرق في متاهات السخافة القشرية لما تسمى بالحضارة الغربية حين يقول في ص186و187 : حتى أبطال الشرق قد ماتوا في قلوب الشرقيين /أنتهى — نعم اليوم لا يوجد شرق !؟ أنما هي غابة بين أشجارها مجموعات متناحرة مفككة تلبس زي العرب على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا أدراك .
وتلك هي رسالة أدعوا الشرقيين – وأنا منهم – إلى الأمام ليجعلوا من شرقهم رمزاً حقيقياً وليس مشوّهاً .
كُتب في أيلول 2020
كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here