فرات المحسن
يقف المرء بدهشة وحزن شديدين، أمام العديد من المظاهر غير السوية والممارسات الغريبة المؤذية والغبية، التي اجتاحت حياة بعض الشرائح المجتمعية العراقية، وباتت وبالتحديد خلال أعوام قليلة،في تسارع وتصاعد لتتبلور كمظاهر قبيحة وطقوس اقرب للوثنية منها لشعائر دينية إسلامية. وهي تستحق التمعن والدراسة والمعالجة السريعة والضرورية.
فبعض طوائف الشعب العراقي تضخمت عندها مشاعر الدونية والضعة وتبخيس الذات، لتصبح نموذجا لمرض جمعي ينخر حياتها اليومية ويقف عقبة كأداء في طريق نموها وتطورها كمجتمعات إنسانية، ويأخذ بها بعيدا عن ما ترنو وتسير أليه باقي المجتمعات البشرية الحكيمة والذكية، الباحثة عن التقدم العلمي والثقافي والرقي الحضاري.وتحولت تلك المجاميع العراقية بسبب تخلفها وبغالبية أفرادها وأفعالها لمجرد ألآت تدور في عالم مأزوم من الكبت والشعور المستدام بتسلط الظلم والحرمان، الذي يدفعها لتكبيل الروح بالبكائيات واستدرار العواطف البائسة والبحث عن المنقذ المنتظر الذي مع قدومه، من المؤمل أن تكسر حلقات الخوف ومشاعر الدونية الراسخة في الذات الجمعية.
مع هذا المسار المريض والغير سوي واللا منطقي، تستمر عملية التنكيل الجمعي بالذات وأهانتها، والذهاب بها نحو أشد حالات اليأس والقنوط والضعف تجاه الحياة والمجتمع وحتى الطبيعة، جراء خضوع واستكانة الفرد والجماعة لوطأة مشاعر الاستلاب. فهذه المجاميع خائفة حائرة ودائما ما تكون أسيرة مشاعر ذاتية جامحة، بكونها أقل شانا وأكثر ضعة ودون مستوى قدرة الآخرين المجاورين لها حضاريا واجتماعيا وسياسيا.
مثل هذه المشاعر والأحاسيس المشوشة تنتاب الإنسان المقهور الذي سيطرت على روحه وعقله عوامل الإذلال المستمر والعزلة لفترات طويلة، والمترافقة برعب وتوجس دائمين وترقب وخوف من مباغتة.وهذا الرعب الذي سلط طويلا على بعض فئات وطوائف المجتمع العراقي، جعل منها ضحية مرض عصاب، يبدو أنه رسخ في ذاتها الجمعية، وجعلها تهرب نحو دواخلها وتخشى المجابهة أو المواجهة
هذه المجاميع أو الطائفة، دائما ما تعمل وفق ردود الفعل وليس الفعل ،وبنمطين من السلوك، الأول صناعة الخصوم والثاني تبخيس وأهانه الذات الفردية والجمعية.
ففي البحث عن الخصوم ورفع طبائع الحذر والشد الدائم والخوف المرتقب،يتهيأ الجميع استعدادا لمعركة مرتقبة،طالما تترافق والشحن الطائفي الداعي للنصر الناجز والقريب على الأعداء. وحين تنفرج لحظة المكنة، أي حين يتمكن الإنسان أو المجتمع المقهور من خصومه،ويجد فرصة امتلاكه لمصادر القوة، حينذاك نجده يذهب بتهور وشدة لممارسة الانتقام وإيذاء الخصوم كرد فعل على ما تعرض له من قهر وخيبه، ليتحول ضعفه وترديه في لحظة زمنية فارقة، لقدرة وحش كاسر لا يرحم، فيستخدم بانتقامه جميع ما يتوفر له من أدوات ووسائل غير قانونية وغير أخلاقية. وعادة ما يكون هذا تعبيرا انعكاسيا حقيقيا عن مشاعر حادة بالنقص والضعف والخوف، يتم تفتيتها برفع قيمة وفعل الكراهية الموجب توجيهه نحو الغير، وجعل الانتقام سلوكا مباشرا لأخذ الحيف عن ما تعرض له المجتمع المقهور وأفراده .
ولكن وبشكل ناجز ترتد عوامل الإحباط والإحساس بالدونية وبصيغ متعددة وبدون وعي نحو الذات، لتصبح عملية نكوص ظاهر داخل الأفراد و المجتمع، عندها يبدأ تقريع وتبخيس واستهانة بالقدرات الفردية والجماعية. وفي ذاك الزمن الذاتي الأرتكاسي يكون الفرد ومثله المجتمع ،قد فقد توازنه الروحي، وذهب للتوطن في أوهام تزيد في النهاية من توتره النفسي والاجتماعي، ويظهر دائما كمجتمع بائس ومهان. وكحل لهذا المأزق الكبير المتضخم، يختار المجتمع عندها صيغ وتصرفات استعراضية يلوذ بها ويجعلها غطاء لدونيته وضياعه، وتكون المعلم الأكثر تعبيرا عن واقعه المعاش. فالخوف وعشوائية الحلول يحجب القدرة على مقارعة سوء وطفح الفقر وضعف الروح وضعة النفس، فيذهب البعض وهم الكثرة نحو الخيار الأضعف والأغبى، ألا وهو الانتقام من الذات والمجتمع.
وزر كل ذلك الإحباط والفزع والضعف الروحي والعقلي ومشاعر الخزي الذاتي والدونية، ترتد على شكل عمليات تهديد للذات ومحاولة تدميرها لعجزها عن تحقيق فعل حقيقي مقنع، وتكون سببا مباشرا لضبابيه ومجهولية أفقهم المستقبلي.
هذا السلوك المتدني والفزع الروحي والضعف الفردي والجماعي، يتمثل اليوم في ازدياد وارتفاع وتيرة العنف الجسدي واهانة النفس واحتقارها والحط من قدرها، ويتمثل بتزايد وارتفاع وتيرة مسيرات حز الرؤوس وتطبيرها بالسيوف، وضرب الجسد بسلاسل الحديد، وتلك تعابير دموية يجترحها البعض المتخلف، لاستعراض ضعفه الروحي ورضوخه للذنب الضمني الذي يعتقد بحملة تاريخيا مثل صخرة سيزيف. وردة الفعل الدموية المتخلفة هذه، تطفح كصنو مبطن للإرهاب الموجه للذات المدانة والمحقرة. والفرد هنا ومثله المجموع، يسوم نفسه العذاب ويوجعها روحيا وجسديا، بعد أن يبتدع روحا ثانية تقوم بدور الذات الأخرى الآمرة بالتعنيف والإذلال والجلد.
والأشد شططا ودونية في التعبير عن المهانة والذل والقبح الروحي ، أبتداع مناسبات وطقوس غريبة ومستهجنة وهمجية، من مثل الزحف على الركبتين أو انبطاح الجسد والزحف على الصدر مع وضع الوجه ملاصقا للأرض وتعفيره بالتراب، أو لطع الأرض باللسان، وتقبيل ومسح أحذية زوار العتبات الدينية، أو التمرغ في الأوحال والبرك الطينية وذر الأوساخ والنفايات على الرأس والجسد، وابتداع طقس جديد لاحتقار المرء لذاته وتشبع روحه بالدونية، بضرب الرأس والجسد بالأحذية وصولا إلى ربط الفرد بالسلاسل وسحبه مثل الكلاب والحمير، وغير ذلك من البدع الكريه والوضيعة، التي تعبر عن مظاهر العدوانية على الذات وتدميرها باهانتها وإذلالها وتهشيم القيم المجتمعية النبيلة من خلال تحطيم الوعي ودرس الحكمة والعقلانية ورفع قيم النزوات المريضة واللاوعي المعتوه والمشاكس.
مثل هذا الوضع والدور القبيح يدعوا لممارسته ويلاقي ترويجا من لدن الكثير من رجال العشائر والمؤسسات الدينية، حيث يقوم الدعاة ببث مستمر لخطاب كاذب ودجل يتلبس الدين وروايات وأحاديث مفبركة لئيمة وسمجة، وأساطير وبدع لا علاقة لها بدين ودنيا،ليكون هذا الكذب والتزييف جزءا من عمل معد وممنهج لجعل المجتمع في النهاية عاجزا عن مقارعة الظلم وإجحاف واقع الحياة اليومي. لا بل يعتبر عمل هؤلاء محاولة لإبقاء غالبية الأتباع تحت السيطرة وفي خانة الخضوع والخنوع للواقع المؤلم والظالم كقدر لا مفر منه.
وهناك وسط المؤسسات الدينية من يعمل على أعطاء تلك المظاهر والروايات والأفعال، طابعا رمزيا، يرتبط بالظلم والحيف التاريخي الذي وقع على طائفة بعينها دون البحث في طبيعتها المهينة وعنفها النفسي والدموي المدمر والمؤثر على مستقبل أجيال قادمة من الطائفة ذاتها.
وبعد أن تخلت مرجعية الطائفة عن قدرتها في التصدي لمثل هذه الجرائم الوحشية وباتت أقوالها وتوجيهاتها غير مسموعة، لا بل غير مستحبة بين بعض أوساط الطائفة، لا بل حتى من بعض مريديها ومقلديها. فإن على السلطات المدنية والعسكرية العليا في العراق، أن تتخذ موقفا حاسما وحازما تجاه مثل هذه الجرائم والبشاعة والإذلال والاهانة للنفس والمجتمع،وتقوم بحملة تصدي وكبح لهذه الجرائم والابتذال المعنوي والجسدي، ومنع ممارستها حتى وإن كان الآمر يتطلب استخدام القوة ، مثلما درجت على فعله القيادة الدينية والعسكرية والمدنية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث تمنع مثل هذه الخزعبلات والطقوس القذرة، ولا توجد هناك مظاهر علنية ولا سرية لممارسة ما يماثل أفعال وجرائم أتباع ذات المذهب بأنفسهم مثلما يفعل في العراق اليوم.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط