محنة العالم السنهوري في زمن حُكم العسكر!

خالد جواد شبيل

أول الكلام:

في عام 1995 كنت في زيارة الى مصر، مكثت في القاهرة أياماً زرت أهم معالمها وتعبت من زحامها وفوضى منبهات السيارات المكتظة في مساربها وتلوث هوائها؛ فزرت الاسكندرية الجميلة وعدت الى القاهرة، واقترح علي مدير الفندق أن أزور الفيّوم حيث الهدوء والطبيعة الجميلة وفطرة الناس الطيبة، فعملت بما نصح مشكورا..

ليس في الفيوم أثار ومعالم تاريخية لكنها لاتعدم الآثار الفرعونية، وأهمها ما يعتقد أنها أقدم مسلة فرعونية تتميز بأن ذروتها منحنية وليست مدببة؛ وفي المدينة هناك السواقي التي تدير ماءها نواعير قديمة أو ما يشبه النواعير! ثم خرجت الى ما يحيط المدينة من مزارع وبساتين النخل والمانغو والتين والكروم.. خاصة في قرية “عيون السليين” العصرية، وتوغلت أكثر لأزور بحيرة قارون المالحة التي يشيع البعض أن تحتها كنوز قارون!! واستمررت في زياراتي وأنا مبتهج لأنها ذكرتني في طفولتي وصباي حتى حسبت نفسي أنني في مدينتي الصغيرة لولاغياب دجلة الخير!

وأنا أتنقل من موضع الى آخر ومن قرية الى أخرى حتى وصلت “سَنهور” وكان معي ثلة من طلاب جامعة الفيوم عائدين الى أهليهم فلمع في ذهني سؤال: يا أساتذة، هل العالم السنهوري ينحدر من هذه القصبة؟ فكانت المفاجأة أنهم لا يعرفون الفقيه القانوني وأستاذ التشريع الدستوري العالم الدكتور عبد الرزاق السنهوري؟!!

وأنا أتابع ما يكتبه الأستاذ الجليل الدكتور سعيد عدنان من مقالات هامة لا أفوّتها حتى وإن كنت “في عافية” على حد التعبير البلاغي حين يعبرعن السيء بضده تخفيفاً لوقعه، وكانت مقالته عن الأدباء والأساتذة المصريين الذي عملوا في العراق وقد عدَّدهم وذكر منهم العالم عبد الرزاق السنهوري، الفقيه القانوي.. فتذكرت الحادثة الآنفة وذكرتها معلقاً باقتضاب، أعني بها عن سؤالي للطلاب في قصبة سنهور حيث أنكروا عالِمهم خجلين! فأبدى الدكتورعدنان سعيد استغرابه بمثل ما أستغربت قبله! فما الحكاية؟!

***

عبد الرزاق السنهوري من مواليد الأسكندرية عام 1895 وفي سن صغيرة توفي والده الموظف في بلدية الاسكندرية وترك أرملة وسبعة من القُصَّر بنين وبنات..وعانى الطفل عبد الرزاق إذن من شظف العيش هو وأخوته.. لكنه وُهِب فطنة جعلته متفوقاً في كل مراحله الدراسية، فقد تخرج من الثانوية ومن ثم من مدرسة الحقوق عام 1917، حاصلاً على درجة الليسانس وفي مراحله هذه غرف من التراث العربي نثراً وشعراً وفلسفة، وكان يستوعب ما يقرأ حتى من الآداب الأجنبية، وعندما اندلعت عام ثورة عام 1919 لم يؤيدها وحسب بل ساهم فيها بحماس.. فكوّن له قاعدة معرفية واسعة وعميقة شفعتها تجربة حياتية زاخرة.. لذا عاقبته السلطات الاستعمارية لينقل من المنصورة القريبة إلى اسيوط الجنوبية النائية نائباً قضائياً.. ونظراً لكفاءته أصبح مدير النيابة القضائية ثم أستاذاً في مدرسة القضاء ثم يُبتعَث الى فرنسا عام 1921 ليرجع مكللاً بالدكتوراه في التشريع، وغدا أستاذاً بارزاً في كلية الحقوق في الجامعة المصرية…وظل يسعى للتدريس والإصلاح والتجديد والانفتاح على التشريع العالمي بدلاً من

الانغلاق على الشريعة الإسلامية الجامدة التي لم تعد تلائم روح العصر مما أثار حفيظة الرجعيين والمتزمتين ففُصل عام 1934، ثم استدعاه العراق بدعوة من الحكومة الملكية عام 1935ليحوّل مدرسة الحقوق الى كلية عصرية للحقوق، ويؤلف لها كتباً هامة مقررة للدراسة، وليحرر مجلة متطورة ” مجلة القضاء” ووجد تشجيعاً وترحيباً من أستاذ الحقوق العراقي المتنور منير القاضي ووضع مشروع القانون الرئيسي للدولة “الدستور” وقد اطلع على المذهب الجعفري وأعجب ب مؤلف “جواهر الكلام” لرجل الحوزة سماحة محمد حسن الجواهري، حيث وجد السنهوري فيه أكثر قانون متقدم للأحوال المدنية وخاصة في ضمان حق الزوجة في الطلاق! وفق ما كتبه الجواهري الشاعر في مذكراته، ومن المعروف بل من الشائع أن هناك من العوائل السنية تعقد لبناتها عقد زواج على المذهب الجعفري..

أُعِيد للخدمة أستاذاً للحقوق في الجامعة المصرية وعين عميداً لها عام 1937، ثم أخرج منها للمرة الثانية لصلابة موقفه في التحديث، واستوزر للمعارف العمومية ثم إرجع وأخرج عدة مرات بين وزير ونائب وزير ويبقى الرجل ثابتاً على مواقفه لا يتزحزح.. أسس جامعة الاسكندرية وجعل دراسة الحقوق فيها متقدم بفضل مؤلفاته التي جعلها مقررة للدرس.. عاد للعراق عام 1943 ليكمل مشروع الدستور وليراجع مادته من جديد لكن حكومة العراق خضعت لإرادة الحكومة المصرية وأنهت عمله فاستقبلتة دمشق ليحث دستورها وقوانينها المدنية، وكذلك بوضع لائحة قانون جامعة الدول العربية، وكذلك وضع دستورالسودان وليبيا بعد استقلالها وحتى الكويت!

أكتفي بهذا القدر القليل من مسيرته المهنية ونضاله ومن يريد الاستزادة عن مؤلفاته فليبحث عنها بنفسه في محرك “غوغل”، أما مقالة الأستاذ زهير جمعة المالكي في ” المثقف” بعنوان “هل السنهوري هو من كتب القانون المدني العراقي؟” ففيها غمط غير مقصود لجهود السنهوري واختزال لأعماله الجليلة التي لم ينتقص منها رجال القانون العراقيون ولا السوريون ولا السودانيون ولا الليبيون ولا الكويتيون، مشفوعة بمؤلفاته وبتأسيسه للكليات ووضع مناهجها ناهيك عن جهوده في مجال تعديل وسد الثغرات وتحديث الدساتير بما لا يمكن نركرانها وجحودها.. ويكفي أن تكون جهوده ورجاحة عقله قد أهّلته أن يتبوأ عضوية فعّالة في المجمع العلمي المصري..

وقف السنهوري مع الانقلاب العسكري في 23 يوليو عام 1952 على النظام الملكي، كان أبرز رموزه اللواء محمد نجيب والبكباشي (المقدم) جمال عبد الناصر ومجموعة من الضباط، حيث أيد الدكتور التغير بقوة وكانت علاقته منسقة مع الرئيس محمد نجيب الذي توسم فيه دعوة للحريات الديمقراطية وأرى أن موقفه هو امتداد لمواقفه السابقة منذ تحمسه لثورة 1919 ومساهمته فيها ودفعه الثمن!

وتوجسه من العسكر ازداد مع إزاحة محمد نجيب ووضعه تحت الاقامة الجبرية حتى مماته وهي بداية سطوة الصاغ (وهي رتبة أقل من البكباشي ربما استخدم السنهوري أسلوب التصغير!) جمال عبد الناصر الذي حجّم وأبعد الضباط الذين لهم دور فاعل في تفجير عملية الانقلاب التي كان لولبها الضابط الشيوعي يوسف صديق بينما كان جمال يريد تأخيرها دون علم صِدّيق الذي استمر بتنفيذها بحنكة وشجاعة قل نظيرها أجبرت الآخرين على الالتحق به، في حين كان السادات في السينما مع عقيلته جيهان، لقد قرّب جمال المتملقين السائرين خلفه، وحجّم دور مجلس الدولة الذي هو أعلى سلطة قضائية وكان يرأسه السنهوري بغية حلِّه وجعل مجلس قيادة الثورة هو البديل بصلاحية مطلقة، ما جعل الدكتور السنهوري يقف ضده بكل صلابة بقناعته أن مجلس القضاء هو الذي يحكم بين الثورة والشعب، وقال إن الغاء الحريات الديمقراطية هي بداية لدكتاتورية العسكر وامتهان للقوى المدنية وتجهيل الشعب بحقوقه في الحرية والديمقراطية..

هبّت الجماهيرالشعبية في ظهيرة 29 آذار 1954 بتحريض من “الصاغ” جمال عبد الناصر ورجاله نحو بناية مجلس القضاء في الجيزة وكانت بوابتها مغلقة بسلاسل حديدية والجماهير أمامها يهتفون بسقوط عدو الثورة السنهوري ويسبّون ويلوِّحون بالقبضات والهِراوات ويقف ضابط أمام البوابة الذي ذهب الى الدكتور عبد الرزاق السنهوري في مكتبه ليخرج للناس كي يوضح لهم المسأله ويهدئهم، فتحت البوابة واجتاحت الغوغاء الحديقة، ويطرح الدكتور السنهوري على أرض الحديقة وليوسع ضرباً بالقبضات ولتناله الهراوات والأحذية والعالم الجليل ينزف من رأسه ووجهه ويصاب إصابات في جسمه حتى كاد أن يلفظ أنفاسه لولا صد بعض حرّاس المجلس الضربات عنه ثم حضورالضابط صلاح سالم (عضو مجلس قيادة الثورة) الذي لف الدكتور عبد الرزاق السنهوري ببساط من أرض البناية وليسرع به الى المستشفى حيث ضُمًدت جروحة .. وحين أفاق قال بصوت عال: إن الاعتداء مبيت ويقف وراءه الصاغ جمال عبد الناصر وسيأتي لزيارتي، وخاطب زوجته: إن جاء أطرديه!! وهذا ما حصل بالضبط!

وهكذا بقي السنهوري في داره مجبراً يؤلف الكتب القانونية ويمنع من مغادرة داره عدا مرة واحد لن تتكررعام 1960 بضغط من حكومة الكويت ليضع القانون المدني الكويتي ويقدم استشارات هامة في تسيير شؤون الدولة الفتية ثم رجع الى بيته مع تعتيم عليه حتى توفي في 21 تموز عام 1971..

ولله درُّ شيخِ المعرة حيث قال:

أُلو الفَضلِ في أَوطانِهِم غُرَباءُ – تشِذُّ وتَنأى عنهُمُ القُرَباءُ

في بانغكوك الخامس عشر من أيلول 2020

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here