الدكتور علي المؤمن يفكك جدليات الإسلام السياسي الشيعي

بقلم: د. وسام السبع
باحث وإكاديمي بحراني

في تتبع للمسارات الفكرية والسياسية والسلوكية للجماعة الإسلامية الشيعية السياسية العالمية الأولى، يقدم لنا كتاب “جدليات الدعوة: حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الاجتماع الديني والسياسي” للباحث العراقي الدكتور علي المؤمن، قراءة معمقة لمسارات الحزب الفكرية والاجتماعية والسياسية والسلوكية، منذ تأسيسه في العام 1957 وحتى العام 2017، مروراً بسلسة المنعطفات الأساسية في مسيرته كأكبر و أول تنظيم سري إسلامي شيعي في العراق والبلدان ذات الوجود السكاني الشيعي.
وفي (440) صفحة، تتبع المؤلف في كتابه الصادر عن مركز دراسات المشرق العرابي ودار روافد في بيروت في العام 2017، تتبع أبرز الظواهر والجدليات التي عاشها التنظيم في مراحله المختلفة خلال ما يزيد على (60) عاماً من انطلاقته، خصوصًا في عقدي الثمانينات والتسعينيات، وتتواصل متابعات المؤلف لمسيرة التنظيم الممهورة بدم ضحاياه مرورًا بالحدث الفاصل في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، عندما تحول حزب الدعوة أحد أبرز الأحزاب الحاكمة في العراق، وتوقف المؤلف عند الانعطافة التاريخية للحزب عند مفاجئة قيادته الحزب الفرقاء السياسيين في الاجتماع التاريخي في 13 آب/ أغسطس 2014، والذي انتهى بإعلان تنازل نوري المالكي عن حقه القانوني في الترشح لرئاسة الوزراء لمصلحة محازبة حيدر العبادي، كاشفًا عن بعض ملابساتها، والحراك الداخلي الذي صاحب القرار، والأطراف التي شاركت في صنعه: قيادة حزب الدعوة، والمرجعية العليا في النجف، والقيادة الإيرانية.
تستمد كتابات علي المؤمن في شؤون الحركة الإسلامية في العراق أهميتها من كونها تمثل نموذجًا صالحًا للتعبير عن صوت مثقفي الحزب، ممن يكتبون عن أدق تفاصيل مسيرته، متسلحين بالفهم العميق لفكره وتاريخه وسلوكه وقياديه ومنظّريه. فقد واكب المؤلف تحولاته دارساً ومراقباً وشاهد عيان ومقرباً من شخصياته القيادية ومفكريه وفقهائه لما يقرب من (40) عاماً، ما يجعله الأكثر قدرة على كشف المغالطات التي تقع فيها بعض الكتابات، وتصحيح المعلومات الصحفية والإعلامية المتعجلة التي تتناول تاريخ الحزب وتفتقر للدقة في المعلومة والموضوعية في الطرح، وإن كان المؤلف قد ترك تنظيمات الحزب في العام 2000، لكنه ظل مهتماً بمسارات الحزب بصفته باحثاً متخصصاً، من منطلق إيمانه بأن حزب الدعوة الإسلامية يمثل مادة مهمة جداً للبحث والدراسة.
وسبق للمؤلف أن عالج الموضوع في دراسة تحليلية تاريخية في كتابه (سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق 1957 – 1986)، وهي دراسة موسعة وشاملة للموضوع غلب عليها طابع التدوين التاريخي.
أما في هذا الكتاب (جدليات الدعوة) فقد اعتمد المؤلف مناهج علم الاجتماع في فروعه الديني والسياسي والثقافي، وجاءت الدراسة وصفية تحليلة للظواهر التي رافقت مسيرة حزب الدعوة الإسلامية، ونجح المؤلف إلى حد بعيد في استعراض معلومات ومعطيات تفصيلية على جانب كبير من الأهمية، ولعلها تعرض أمام القراء لأول مرة، وتوفر أرضية لفهم مسيرة الحزب وتعقيدات ما مرَّ به واكتنفت تجربته الطويلة وما رافقها من ظواهر.
صحوة الشيعة والبدايات الصعبة
تناول الفصل الأول من الكتاب (بدايات حزب الدعوة)، وهو أطول فصول الكتاب وأكثرها تشويقاً. وناقش فيه المؤلف الدوافع الواقعية لانبثاق حراك إسلامي شيعي، عندما كانت الحاجة إلى العمل التغييري المنظم الذي ينشد التغيير في واقع الأمة الثقافي والسياسي في الوسط الشيعي على أشدها، لأن الوسط السني سبقهم إليه، فقد برزت ـ يذكر المؤلف ـ منذ نهاية العشرينات تنظيمات وتجمعات إسلامية سنية كبيرة، كالإخوان المسلمين في مصر، وحزب التحرير في بلاد الشام، والجماعات الإسلامية في الهند وباكستان وتركيا وغيرها. ومن جانب آخر فإن التنظيمات الشيعية الرائدة، كجمعية النهضة الإسلامية وحزب النجف، والجمعية الإسلامية الوطنية وغيرها، كانت تجمعات آنية تشكّلت لأغراض محدودة وانتهت بانتهائها. أما الجمعيات الإسلامية الشيعية التي تأسست في الخمسينات، كحركة الشباب المسلم ومنظمة المسلميين العقائديين وغيرها، فكانت هي الأخرى محدودة وذات إمكانات متواضعة تنسجم مع أهدافها، ولم تسمح لها ظروفها باستعياب الساحة.
في هذه الأجواء، انبثقت فكرة تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، الذي شكلت ولادته انعطافة غير مسبوقة في الوسط الشيعي على مستوى الممارسة التنظيمية والرؤية التأصيلية لعملية التأسيس العصري للدولة الإسلامية وفق منظور مدرسة أهل البيت.
ورغم أن مداولات تأسيس الحزب استمرت بين أصحاب الفكرة وأقرانهم حتى أوساط العام 1957، وعقد خلال هذه الفترة أكثر من اجتماع تأسيسي تحضيري في النجف الأشرف معظمها في بيت السيد محمد باقر الصدر.
وتوقف المؤلف عند سنة التأسيس وحسم الجدل بشأنها، وقال إن حزب الدعوة تأسس في النجف في آب/ أغسطس عام 1957، وأن اجتماع النجف الأشرف في بيت السيد محمد باقر الصدر هو الاجتماع التأسيسي، وقد حضره ثمانية، وأن اجتماع أداء القسم في كربلاء في بيت المرجع الديني الأعلى السيد محسن الحكيم هو أول اجتماع رسمي للحزب، وحضره سبعة، بينهم ستة ممن حضروا اجتماع التأسيس في النجف. وبذلك يؤسس الدكتور المؤمن معياراً مقبولاً في منهج الكتابة التاريخية، وهو أن من حضر أحد اجتماعي التأسيس في النجف وأداء القسم في كربلاء فهو ضمن المؤسسين. وبذلك يكون عددهم عشرة، و هم: السيد محمد باقر الصدر، السيد محمد مهدي الحكيم، عبد الصاحب دخيل، السيد طالب الرفاعي، السيد مرتضى العسكري، السيد محمد باقر الحكيم، محمد صادق القاموسي، المحامي السيد حسن شبر، الدكتور جابر العطا، المهندس محمد صالح الأديب.
وتحدّث عن الرعيل الأول للحزب الذي شارك في إكمال عملية التأسيس، ثم الجيل الأول من الدعاة، متناولاً الدور المحوري الأبرز للسيد محمد باقر الصدر في تأسيس الحزب وقيادته وتجليات هذه القيادة المهيمنة على مستوى التأسيس والتنظير الفكري والزعامة الروحية. كما توقف عند موانع الاجتماع الديني والسياسي أمام انتشار الدعوة، وأبرز القادة الذين أفرزتهم المراحل التاريخية المتعاقبة التي خاضها الحزب في ظل الظروف الصعبة غير المواتية التي مثلها: استبداد السلطة ومخاطره الأمنية، وتعقيدات الوضع الديني في النجف، والتحدي الأيدلوجي للتنظيمات العلمانية القومية (حزب البعث) واليساري الإلحادي (الحزب الشيوعي)، وانعكاسات كل ذلك على مسار تجربته.
نظرية الحزب: الاستجابة للصيحات العالمية
يبتعد المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب عن حقل التاريخ ويلج الميدان الفكري، ويدرس نظرية حزب الدعوة الإسلامية والمثالية التي كانت تطغى على فكره السياسي، مستعرضاً تحولات فكره النظري. ومن المواضيع التي يناقشها في هذا الفصل: نظام الحكم في نظرية الدعوة، وإعيادة بناء هيكل الدعوة، وتجديد تعريف الداعية، ومفكروا الدعوة ومجدّدوها.
يقف المؤلف ملياً عند المثالية التي تطفح على أفكار الحزب، بالنظر إلى طبيعة نظرية الدعوة وعقائديتها وغاياتها وأهدافها وأفقها العالمي ((وهي نظرية مثالية في الكثير من ركائزها)) كما يقول.
ويعزو المؤلف هذا الجنوح المثالي إلى عاملين: طبيعة أعمار وحجم خبرات الشباب المؤسس والرائد والمنظّر، الذين كان أغلبهم شباباً في العشرين، ويعيشون حماسًا دينيًا متقدًا واندفاعاً حركياً كبيرًا. أما العامل الثاني فيتمثل في تأثر هؤلاء الشباب بضجيج الأيديولوجيات للأحزاب التغييرية الشمولية العابرة للحدود، والتي كانت سمة ذلك الوقت، كالشيوعية والناصرية والبعثية والإخوانية والتحريرية، وجميعها كانت مشبعة بروح تغييرية تستهدف إعادة صياغة العالم.
على أن معظم التحولات داخل حزب الدعوة منذ العام 1971 لم تكن حصيلة قرار حزبي، بل هي انفعالات وانجرارات قسرية ضاغطة كان للظروف المحيطة بالدعوة الأثر الأبرز في حدوثها بطرق غير مسبوقة ربما في أي من حزب أيدلوجي كبير في العالم.

“الدعوة” والأفق العالمي
“جدلية الوطنية والعالمية في نظرية الدعوة”، هو عنوان الفصل الثالث، وفيه يناقش المؤمن ركيزة عالمية الدعوة، ويعرض لثلاث نماذج من التنظيم العالمي للدعوة في كل من لبنان والبحرين وإيران، والمراحل التي مرّ بها منذ التأسيس وحتى خفوت نجمه وانحساره.
ففي لبنان، وقبل مبادرة السيد موسى الصدر إلى تأسيس حركة المحرومين في العام 1974 وجناحها المقاوم (أمل) في العام 1975، ثم المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، كان حزب الدعوة هو العنوان الإسلامي الشيعي السياسي الوحيد. وقد دخل الحزب لبنان في وقت مبكر، ربما لايتجاوز السنة الأولى من تأسيسه في العام 1958. وكان السيد موسى الصدر لا يرى في حزب الدعوة منافساً لحركته ومقاومته ومجلسه، بل مكملاً فكرياً وداعماً عقائدياً لها. كما أن الكثير من الكوادر العقائدية في حركة أمل كانوا أعضاء في حزب الدعوة، فضلاً عن قيادات المجلس الشيعي الأعلى، وفي مقدمهم نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
ويؤكد المؤلف إن تنظيم حزب الدعوة في لبنان كان ثاني أهم تنظيم دعوي بعد العراق، فقد كان الدعاة اللبنانيون، بحكم تميزهم العددي والنوعي، هم الأكثر تأثيراً في عمل الحزب بعد الدعاة العراقيين. بل تجاوز تأثيرهم الدعاة العراقيين في الفترة من العام 1971 إلى العام 1979، حين أصبح القيادي اللبناني محمد هادي السبيتي هو الرجل الأول في قيادة الحزب، حتى أن المؤلف يرى أن الدعاة اللبنانيين قد هيمنوا على قرارالحزب في هذه المرحلة.
وحين قررت إيران بعد انتصار ثورتها الإسلامية احتضان الإسلاميين اللبنانيين الذين كانوا يتوافدون عليها منذ العام 1979 بهدف المبايعة والتنسيق وطلب الدعم، كان الكثير منهم من الدعاة، وهو ما انتهى في العام 1982 إلى تأسيس حزب إسلامي جماهيري مقاوم يؤمن بولاية الفقيه، حمل اسم “حزب الله” وكان حزب الدعوة اللبناني عموده الفقري، إذ تشكلت الهيئة التأسيسية لحزب الله من تسع شخصيات، هم بالأساس قيادة حزب الدعوة اللبناني وعدد من كوادره، أبرزهم أمناء الحزب: الشيخ صبحي الطفيلي، والسيد عباس الموسوي، والسيد حسن نصر الله وآخرون.
ثم يستعرض تجربتي الحزب في البحرين وإيران التي توسع فيها تنظيم الدعوة مع موجات التهجير من العراق إلى إيران بدءاً من العام 1970، إلا أن القيادة العامة للحزب في إيران سرعان ما أصدرت في العام 1982 أمرًا بحل التنظيمات الإيرانية للحزب لإيصال رسالة إيجابية للجمهورية الإسلامية.
تبدأ نقطة إنحسار حزب الدعوة العالمي في العام 1982 مع تأسيس حزب الله وحل حزب الدعوة اللبناني، وكذا حل حزب الدعوة الإيراني في العام 1982، ثم حل حزب الدعوة الكويتي وتأسيس حزب الله في الكويت في العام 1983، و حل حزب الدعوة البحريني في العام 1984. كما تم حل تنظيمات الحزب في السعودية وعُمان والإمارات في أواسط الثمانينات، وفي باكستان أواخر الثمانينات، وفي أفغانستان في العام 1988. ثم توالى إنهيار باقي تنظيمات الدعوة في الأقاليم والمناطق، وتمخضت كل هذه التحولات عن إلغاء القيادة العامة (قيادة التنظيم العالمي)، وإفراز قيادة عراقية فقط، ولم يبق من تنظيمات حزب الدعوة سوى التنظيمات العراقية وبعض الدعاة غير العراقيين المقيمين في أوروبا وأمريكا.
“الدعوة” وإشكالية العلاقة بالمرجعية الدينية
يطرح المؤلف في الفصل الرابع من الكتاب موضوعاً حساساً تحت عنوان “علاقة الدعوة بالمرجعية الدينية وولاية الفقيه”، باحثاً موقف حزب الدعوة من المرجعية الدينية وولاية الفقيه، ومعطيات الوسط العراقي الديني المناوئ لحزب الدعوة، وموقف المناصرين للمرجعية من الحزب، وموقف أنصار ولاية الفقيه منه، وانعكاس هذه المواقف على تحريك دوافع الانشقاق عند بعض “الدعاة”، ثم يبحث قرائن التصاق حزب الدعوة بالمرجعية ويعرض شواهد لها، مفندًا مقولة التباعد والمباينة المزعومة بين الدعوة والمرجعية الدينية.
الانشقاقات: اختلاف القراءات وصراع الارادات
تطرق الفصل الخامس لموضوع “جدلية الانشقاق في الدعوة”، حيث درس المؤلف فرضيات وأسباب الانشقاق، وعرض لأجنحة الدعوة الإسلامية، وأبرز المحطات التاريخية للتصدّعات والانشقاقات التي ألمت بالحزب.
ويوضح المؤلف أن الانشقاق والتمرد والخروج والتساقط ظاهرة إنسانية طبيعية. وتكثر الإنشقاقات في الجماعات الأيدلوجية (إسلامية، عنصرية، ماركسية…)، وتزداد كلما ارتفع منسوب الأيدلوجيا؛ لأن الأيدلوجيا تنطلق من مفهوم احتكار الحق والحقيقة، بينما تقل الإنشقاقات في الجماعات الليبرالية والمصلحية؛ لأنها تتعامل مع مفهوم الحق باعتباره نسبي ومتعدد، وتتحمل الخلافات الداخلية ووجود الأجنحة والتكتل داخلها.
وبخصوص حالة حزب الدعوة، يوضح المؤلف أنه نشأ في بيئة النجف الخاضعة للمرجعيات والبيوتات العلمية، وهي بيئة ضاغطة على أعضائه وطاحنة لانتمائهم الفرعية، من هنا (( كان الإنتماء لحزب الدعوة يشكل انتماءً فرعياً لعلماء الدين وليس انتماءً أصلياً، على عكس انتماء غير المعممين أو المعممين من خارج الاجتماع الديني النجفي)). (ص 251). ويناقش المؤلف ثمانية عوامل تسببت في الانشقاقات التي مني بها الحزب في مراحله التاريخية المختلفة.
شهد الحزب ثلاثة أنواع من الانشقاقات الفردية والجماعية: تمثل الأول منها في الخروج على القيادة والتنظيم. والثاني الخروج على النظرية والفكر. والثالث والأخير أخذ شكل الخروج على التنظيم والفكر والمنهج معاً.
يتوزع الدعاة العراقيون حالياً على خمسة تنظيمات تمثل أجنحة مدرسة حزب الدعوة الإسلامية:
الأول: حزب الدعوة الإسلامية، وأمينه العام نوري المالكي، رئيس وزراء العراق الأسبق ورئيس ائتلاف دولة القانون أيضاً، وهو الحزب الأكبر حجماً والأهم نوعاً، وفيه يجتمع معظم قيادات الحزب التاريخية والكوادر الأساسيين.
الثاني: حزب الدعوة الإسلامية ـ تنظيم العراق، وأمينه العام السيد هاشم الموسوي، وهو ثاني أكبر تنظيم كمّاً ونوعاً. وهو جزء من ائتلاف دولة القانون، وكان أمينه العام الراحل السيد هاشم الحمود الموسوي من الرعيل الأول للحزب، إذ انتمى إليه في العام 1959، وكان مسؤولاً عن نشرة الحزب الداخلية (صوت الدعوة).
الثالث: حزب الدعوة الإسلامية ـ تنظيم الداخل، وأمينة العام عبد الكريم العنزي، وهو انشقاق عن تنظيم العراق، وهو جزء من ائتلاف دولة القانون.
الرابع: تيار الإصلاح الوطني، ويرأسه الدكتور إبراهيم الجعفري الأشيقر، رئيس الوزراء الأسبق. وأحد أبرز قادة الحزب في الفترة من العام 2001 وحتى عام 2006.
الخامس: حركة الدعوة الإسلامية، التي كان يتزعمها عز الدين سليم، رئيس مجلس الحكم الانتقالي الذي اغتيل في العام 2014. وهي أقل تنظيمات الدعوة فاعلية على المستوى السياسي والحكومي بعد رحيل أمينه العام.
ويقدّم المؤلف عرضاً توصيفاً لظاهرة الخروج والانشقاق في حزب الدعوة، ويؤكد أن “معظم أسبابها وعللها لاتزال قائمة”. ويذكر أن أول خروج من الحزب كان في العام 1959 هو خروج محمد صادق القاموسي أحد المؤسسين، ولم يكن بسبب خلاف فكري أو سياسي، بل بسبب تفضيل القاموسي التفرغ للعمل في إطار جمعية منتدى النشر في النجف.
أما أول خروج شبه جماعي في العام 1961؛ هو خروج: السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد مهدي الحكيم والسيد محمد باقر الحكيم، بعد انكشاف ارتباطهم التنظيمي بالدعوة من حسين الصافي، أحد مسؤولي حزب البعث في النجف، والذي فاتح السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي بخطورة الحزب على الحوزة والنجف والتشيع. (ص 263). و يكشف المؤلف النقاب عن تسعة عشر انشقاقاً أو تجميد للعضوية حدثت خلال مسيرة الحزب.
“الدعوة” اليوم: الإرث الصعب والواقع الهجين
ويتسم الفصل السادس والأخير براهنية خاصة، إذ يطرح فيه المؤلف جملة من المواضيع المتعلقة بحاضر العراق السياسي وموقع الدعوة في جدلية الحل، مشددًا على أهمية القراءة العلمية لأزمات العراق، فهي وحدها الكيفلة بوضع المعالجات الواقعية للعراق الجديد. ومن أبرز المواضيع التي يناقشها الفصل موضوع التعايش الوطني. ويتوقف مطولاً عند مقولة فشل الإسلام السياسي وحلم البديل العلماني، واضعاً إطاراً تاريخياً للمشكلة الطائفية في العراق، ومحاولة فهم ركائزها الغائرة في بنية المؤسسة الحكومية.
يقول المؤمن: ((إن أزمات العراق لصيقة بتكوينه الخاطئ بعد معاهدة سايكس ـ بيكو، التي أورثت العراق كل موبقات السلطنة العثمانية الطائفية، ثم بقيام ما عرف بالدولة العراقية في العام 1921، وما ترشح عنها من مركب سلطة طائفية عنصرية، تحمل الإرث العثماني والأموي في مضمونها، ولون الاحتلال والاستعمار البريطاني في شكلها، ويحكمها ملوك مستوردون من الخارج، وبإفرازات ما عرف بأفكار الثورة العربية… وقد تبلورت الأزمات بأفقع ألوانها بتأسيس نظام البعث العراقي بعد انقلاب العام 1968، واستدعائه لكل مفاسد الموروث الطائفي العنصري، بدءاً بالموروث الأموي، وانتهاءً بفكر وزير المعارف في العهد الملكي ساطع الحصري، وعنصرية حكم عبد السلام عارف وطائفيته، وأيديولوجيا مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق. ونتج عن كل ذلك ثقافة مجتمعية مأزومة، وثقافة سلطوية قمعية، ونظم سياسية وقانونية مولّدة للأزمات، ومراكِمة لها، ومفكِكة لبنية المجتمع، ومدمِرة لوحدة الدولة، ومثيرة للحروب والصراعات الداخلية بين مكونات الشعب العراقي)). (ص 292). وهو الإرث المأزوم والمفخخ بالأزمات، والذي أعاد إنتاجها وتوليدها نظام البعث، واستثمر إمكاناته التدميرية الكامنة في فرض جبروته واستبداده على كافة شرائح المجتمع العراقي، وسحق مناوئيه.
وقفة نقدية للكتاب
وإذا كان ثمة ملاحظة نقدية على الكتاب، فيمكن القول إن أبرزها يكمن في غياب المعلومات المتعلقة بأجواء الصراع الفكري والاجتماعي المحتدم الذي اضطر حزب الدعوة في فترة تأسيسه الأولى لمعايشته في مواجهة خصومه من التنظيمات اليسارية في مختلف مدن العراق، والتي اتخذ منها حزب الدعوة ساحة عمل لنشاط خلاياه كالنجف وكربلاء وبغداد والبصرة.
اكتسب النجف الأشرف في هذا الإطار خصوصية، لأنه تحول بحكم رمزيته الدينية إلى ميدان تنافس بين مختلف التنظيمات السياسية للكسب الحزبي، حتى بات معقلاً مهماً لنشاط الحزب الشيوعي الذي تمكن من اختراق بيوتات العلماء وأبرز الأسر النجفية، وتسلّلت عناصره إلى مواكب العزاء الحسينية، وبات لها نفوذ بالغ فيها، وما نجم عن هذا الصراع مع القوى الدينية من تأثيرات على كلا الخصمين.
ومن المعروف أن عناصر من الحزب الشيوعي العراقي، خصوصاً في فترة التحالف المعلن مع حزب البعث الحاكم الذي وجد الحزبان العلمانيان في تنامي الظاهرة الدينية خطر يتهددها، ومن هنا كان للشيوعيين أدوار دنيئة في الإيقاع بالكوادر الإسلامية النشطة، وشاعت في تلك الفترة الوشايات والأحقاد، مما تسبب في تكبد الدعوة خسائر فادحة حدّت من فاعليته وأعاقتها نتيجة لأجواء الرعب التي فرضها النظام، ولتغييب كوادره في غياهب السجون، والقليل منهم نجى من المصير الذي انتهى إليه أغلبهم بالإعدام.
وفي مطلع السبعينات، عندما فرض حزب البعث الحاكم جبروته على العراقيين، كانت أجهزته الأمنية تتفوق في نشاطها الاستخباراتي على أجهزة الحكومة في تعقب كوادر حزب الدعوة ورصد حركتهم اليومية، وكل هذه الارهاصات مهدت للقرار 449 للعام 1980 الموقع من صدام حسين، والقاضي بإعدام كل من ينتمي إلى حزب الدعوة ويروج لأفكاره ويعمل على تحقيق أهدافه.
لم يضعنا المؤلف في خضم هذه المرحلة؛ ربما لأنه أشبعها بحثاً في مؤلفاته ودراساته الأخرى، وأهمها “سنوات الجمر”. فضلاً عن أن كثيراً من الكتابات التاريخية العامة، والمذكرات الشخصية، والدراسات التاريخية المتخصصة أولت هذا الجانب بعض الاهتمام ونجحت في بيان جزء من تفاصيلها المروعة.
إلى ذلك، يلاحظ أن المؤلف نجح بالفعل في إثارة شهية القاريء وتحفيز فضوله لمعرفة المزيد عن (التنظيم العالمي للدعوة)، وتنظيمات الأقاليم في كل من لبنان وإيران والكويت والبحرين والسعودية، وهو ما يشعر معه القارئ أن المؤلف لديه إلمام شبه كامل بتفاصيله استنادًا على إرشيف وثائقي ضخم. ومع ذلك نجد المؤلف يقدّم معلومات تجنح للعموميات في أحيان كثيرة، خصوصاً عند حديثه عن التجارب التنظيمية في دول الخليج. لكن هذه الملحوظة تتضاءل أهميتها عندما نعرف أن المؤلف يشتغل على إعداد كتاب جديد بعنوان “الحركية الشيعية العاليمة: إرث حزب الدعوة الإسلامية في لبنان والكويت والبحرين”، قال إنه يتضمن تفاصيل عن انتشار تنظيمات حزب الدعوة في خارج العراق، وأسرار انهيارها وهي في ذروة قوتها.
إن إسهامات الدكتور علي المؤمن في توثيق مسارات جماعات الإسلام السياسي الشيعي، وأهمها الحركة الإسلامية في العراق، تستحق أن يقف أمامها الباحثون والمهتمون بتاريخ وفكر الحركات الإسلامية في المنطقة، لأنها تقدم قراءة معمّقه وفاحصة وبقدر كبير من الموضوعية للحركية الإسلامية الشيعية، ليس في العراق وحسب، بل في امتداد جغرافي واسع من منطقة من الشرق الأوسط تمثل بؤرة الاهتمام في السياسية العالمية اليوم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here