أفكار المكان ومقتضيات الزمان!!

أفكار المكان ومقتضيات الزمان!!
لكل مكان أفكاره , ولكل زمان موجباته , ولا يمكن للأمكنة والأزمنة أن تتطابق , ولا يجوز فرض حالة مكانية وزمانية على غيرها , فمثلما لا يمكن عبور النهر مرتين , لا يمكن التواجد في المكان والزمان مرتين , بمعنى أن يكون المكان ثابتا وكذلك الزمان.
وسبب ذلك أن الأرض تدور ولا تعرف التوقف عن الحركة ولو للحظة واحدة , مما يعني أن التغيير ديدن الوجود فوق التراب , ومنهج الحياة , فلا حالة تبقى على حالها , ولا يمكن الجزم بالثبات لأنه يتنافى وإرادة الدوران التي تتحكم بالموجودات الأرضية.
ووفقا لإرادة الأرض ونواميس الكون المحكومة بها فأن آليات الرؤى والتصورات والتقديرات والتقيمات تتبدل , وتكتسب معاني متفقة وما أدركته أو توصلت إليه , فما نراه اليوم لا يتوافق تماما مع ما سنراه غدا أو بعد غد , وما كان فيما مضى غير كائن فيما حضر.
وهذا يعني أن النسبية فاعلة في الوجود على مستوياته المتنوعة , وأن الإطلاقية لا وجود لها ولا أساس , فلا مطلق إلا الذي لا ندركه ولا نراه , وهذا المطلق نعجز عن تصوره وتحسسه , لأنه خارج المدارك الحسية للمخلوقات ومنها البشر.
وعليه فأن الإعتماد على رأي أو تصور متحقق في مكان وزمان ما , وإستحضاره لمواجهة ما هو حاصل في مكان وزمان آخر لا يتوافق ومنطق الدوران ومناهج الأكوان.
وهذا السلوك هو الذي أوقع البشرية في متاهات ومطبات خسرانية مروعة , فلو أخذنا مواقف الفقهاء في قرن ما إزاء حالة ما , وعملنا بها في زمننا المعاصر , فأننا نهينها وندمر ذاتنا وموضوعنا , وهذا ما يتأكد في الحركات التي تدعي الدينية , وتتبع هذا الفقيه أو غيره وتستهدي بآرائه وأفكاره , وتعزله عن مكانه وزمانه والضرورات التي حتمت عليه القول بما قاله ورآه.
فلو أخذنا منطلقات الفقهاء في القرن الثالث عشر , لتبين بأنها ذات قيمة عملية في مكانها وزمانها , وقد أدت دورها وحافظت على الوجود العربي والدين , وحمته من الإنقراض الأكيد والإبادة الحتمية التي عصفت به بعد سقوط بغداد على يد هولاكو وإندفاعه نحو بلاد الشام ومصر , ولو أنه تمكن منهما لما بقي للإسلام والعرب مقام ودور في الدنيا , لكن أولئك الفقهاء والأمناء على الأمة رفعوا رايات التحدي والجهاد وإنتصروا على الهولاكيين , وأدلوا بفتاواهم ورؤاهم التي حافظت على العرب والدين.
وما أطلقوه في مكانه وزمانه لا يصلح لأي مكان آخر وزمان غير زمانهم , وقد ينفع إستخلاص المعاني والعبر مما إجتهدوا به , لكن لا يمكن للتبعية الحرفية العمياء أن تكون دواء وإنما داء فتاك.
وأكثر الفقهاء العرب الذين أثروا في مسيرة الأمة ومقامها هم من الجهابذة النبغاء , الذين إمتلكوا قدرات ذكائية معرفية متميزة إستطاعوا توظيفها لخدمة الصالح العام والحفاظ على الدين , ولا يوجد تناقض بينهم وإنما رؤاهم ذات زوايا متعددة وإقتراباتهم محكومة بمكانهم وزمانهم , ولهذا الكثير منها أدت غرضها وإنتهت.
وعلينا أن نعرف مكاننا ونعي زماننا وننطلق في تقديراتنا من العناصر الفاعلة في المكان والزمان , أما الإقرار بنفي المكان والزمان , والعمل بآليات عمياء ذات شحنات عاطفية هوجاء ولصقها بفكرة أو عقيدة ودين , إنما يشير إلى جهل مرير وإندحار خطير.
فهل من وعي لمقتضيات المكان والزمان؟!!
د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here