نسي البعض فلسطين وذهب للاستظلال بمظلة الذل والهوان والرذيلة

د.كرار حيدر الموسوي

لم يعد سرا توجه بعض الحكومات العربية لتطبيع علاقاتها جهارا مع الكيان الصهيوني ونزع قناع السرية عنها، وما حدث في جامعة الدول العربية خير دليل على توجهات هذه الحكومات الرجعية التي رفضت مشروع القرار الفلسطيني بإدانة التطبيع الإماراتي مع الكيان، وانحازت بشكل فاضح ووقح لدولة الإمارات تشجيعا لها ولدول أخرى بالسير قدماً في التطبيع وعقد مزيد من اتفاقات الخيانة معه.

تخاذل الجامعة العربية اثار سيلا من الادانات الفلسطينية والتي اجمعت على أن رفض المشروع الفلسطيني تأكيد إضافي على خواء وسقوط مؤسسة الجامعة العربية، وتحولها عملياً إلى أداة استخدامية من قبل دول التبعية والخيانة لتمرير ودعم سياساتها المناقضة لمصالح شعوب الأمة العربية وقضاياها العادلة، وفي القلب منها قضية فلسطين، داعين منظمة التحرير الفلسطينية إلى مواجهة موقف الجامعة العربية بسياسات نقيضه، تتخلص فيها من الاتفاقيات المعقوده مع الكيان الصهيوني وسحب الاعتراف به، والـتمسك بكامل الحقوق التاريخية في فلسطين، وبناء علاقات مع الشعوب العربية، بديلاً عن الرهان على الأنظمة العربية وعلى الجامعة.

جامعة الدول العربية تخلت عن فلسطين، وانحازت إلى جانب الكيان الصهيوني في موقفها من التطبيع العربي معه ولكن فلسطين بفصائلها الاسلامية والوطنية عاهدت بان تبقى تقاتل وحدها في مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني، الساعي لتصفية القضية الفلسطينية وتجريد الشعب الفلسطيني من حقوقه كافة وللهيمنة على غرب آسيا.

واعتبر جاريد كوشنر مستشار الرئيس الأميركي أن عدم الإدانة يشكل تحولا مهما في المنطقة، زاعما أن صبر الدول المناصرة للفلسطينيين قد نفد وأنها باتت تسعى للتطبيع مع إسرائيل بما يخدم مصالحها، فيما قال رئيس زراء الاحتلال بنيامين نتنياهو “سأتوجه الأحد إلى واشنطن حيث سنوقع اتفاق سلام تاريخيا بين إسرائيل والإمارات. لقد حققنا سلاما على طريقتنا، سلام مقابل سلام، وهذا يفتح عهدا جديدا بين إسرائيل والدول العربية“.

وسبق السقوط المدوي لجامعة الدول العربية، معلوات كشفت عنها القناة الثانية عشرة العبرية قالت ان رئيس الموساد يوسي كوهين يجري اتصالات مكثفة مع مسؤولين بحرينيين للاعلان عن تطبيع العلاقات بين الجانبين بعيد توقيع الاتفاق الاماراتي الاسرائيلي في واشنطن، واذا صح ما كشفته القناة الثانية عشرة العبرية عن اتصالات مكثفة يجريها رئيس الموساد /يوسي كوهين/ مع مسؤولين بحرينيين لتعبيد الخط السريع الذي يربط تل ابيب بالمنامة فهذا يعني ان عقد القران بين الجانبين بات منجزا او يكاد ولا ينتظر سوى الاشهار، وما الذي يمنع فالاشارات التي بعثتها البحرين تجاه الجانب الاسرائيلي خلال الاشهر الماضية احتوت الكثير من الود وعدم الاستعداء فالاعلام العبري ذهب ابعد من الحديث عن اتفاق تطبيع قد يعلن وحدد موعدا مفترضا لذلك.

القناة الثانية عشرة رجحت اعلان التطبيع البحريني برعاية امريكية نهاية ايلول/سبتمبر الجاري اي بعيد توقيع الاتفاق الاماراتي الاسرائيلي في واشنطن المقرر الاسبوع المقبل.

وبجميع الحالات لا يبدو ذلك مفاجئا للكثير تماما كما حدث مع الامارات التي استبقت التطبيع بما دل على توجهها بخطى ثابته نحوه لكن السؤال الاهم يبقى عن موقف السعودية التي فتحت اجواءها امام الطيران الاسرائيلي المتجه من والى الامارات ولا يغيب عن الواجهة ايضا محاولة توظيف الخطاب الديني في اعطاء مظلة للتطبيع كما قرأ كثيرون في خطبة الجمعة الماضية التي القاها امام الحرم المكي الشيخ عبد الرحمن السديس.

ومن الواضح ان الولايات المتحدة والكيان الاسرائيلي لايريدان الاكتفاء بالتطبيع العربي بل يعمدان لاستغلال اي فرصة لتوسيع مروحته اسلاميا ودولة كوسوفو مثالا وهي التي تغازل الاحتلال طمعا بدعمه في مسعاها لانتزاع اعتراف دولي بـ كوسوفو ولكن اتى اليوم كما يبدو وقت استثمار الموقف سياسيا فسارع الرئيس الامريكي دونالد ترامب الى اعلان تطبيع العلاقات رسميا بين برشتينا وتل ابيب وتفاخر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بكون كوسوفو شتكون اول بلد مسلم يفتتح سفارة في القدس المحتلة.

خرجت العلاقة بين أبو ظبي وتل أبيب إلى العلن، رغم أنها كانت حديث العالم كله وكانت خيوطها المخفية ظاهرة للعيان في مستويات متعددة، بدت غالبا ضد القضية وأصحابها، وانحيازا للمحتل في محطات ولحظات حاسمة.

اختار الحاكم الفعلي للإمارات محمد بن زايد أن يعلن الزواج السياسي بين أبو ظبي وتل أبيب بعد خطوبة استمرت عدة سنوات، واقترف فيها الطرفان كل المحرمات عربيا وإسلاميا، ورغم ذلك فقد نال هذا الزواج السياسي مباركة هيئة الإفتاء الإماراتية ببيان صادر عن رئيسها العالم الموريتاني عبد الله بن بيه الذي رأى أن مثل هذه العلاقات هي شأن سيادي للحاكم.

بين الإمارات وإسرائيل حبال وصل قديمة، وأخرى غرستها الأجيال الجديدة من أبناء الشيخ زايد، وتتراوح هذه الحبال بين أسباب تتترس وراءها الإمارات في وجه غضب عربي عام، وبين أخرى هي الأصل والهدف الحقيقي، ومن أبرز هذه الأسباب:

هذا هو المبرر الأبرز الذي قدمته الإمارات لخطوتها المثيرة للسخط عربيا وإسلاميا، فقد أجمعت التصريحات الرسمية وشبه الرسمية الإماراتية على التركيز على هذا المبرر، بيد أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يتأخرا كثيرا في نفي ذلك.

فقد سارع ترامب للتأكيد على أن ما سيحصل هو تجميد لخطة الضم، وكذلك فعل صهره ومستشاره جاريد كوشنر، أما نتنياهو فنفى بشكل قاطع أي نية لإلغاء الضم، وقال إن ما يجري هو مجرد تجميد، علما بأن خطة الضم كانت في الأصل في حالة تجميد، وتأخر تنفيذها أكثر من مرة عن وقتها.

يعاني رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليوم من أزمة مركبة وذات أوجه متعددة (سياسية وقضائية واقتصادية)، فمن الأزمة السياسية التي أدت إلى ثلاث انتخابات لم يستطع حسمها، إلى الملاحقات القضائية في ملفات فساد تلتف حول عنقه، ويخشى أن تقوده إلى أحد السجون، وتقضي على ما بقي لديه من طموحات سياسية.

هذا فضلا عن الأزمة الاقتصادية واستفحال البطالة في صفوف الإسرائيليين وما خلفته جائحة كورونا من متاعب على الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعاني منذ سنوات.

تأتي صفقة التطبيع محاولة من أبو ظبي لمد حبل إنقاذ لنتنياهو الغريق في بحر تلك الأزمات السياسية والقانونية والاقتصادية.

وصف ترامب صفقة التطبيع باعتبارها اتفاقا تاريخيا، وأضافها لقائمة طويلة من المكاسب والهدايا التي قدمها لإسرائيل منذ وصوله للسلطة، مثل قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة واشنطن إليها، والاعتراف بسيادتها على الجولان.

يبدو ترامب اليوم في وضع صعب جدا، خصوصا بعد التأثيرات الكبيرة لوباء كورونا على أداء الاقتصاد الأميركي وما تسببت فيه من خسائر بشرية واقتصادية كبيرة في الولايات المتحدة.

صفقة التطبيع بين الإمارات وإسرائيل تمثل هدية كبيرة لترامب في وقت حساس جدا، لتعزيز حظوظه في الانتخابات، وللتقرب من الدوائر اليهودية في الولايات المتحدة التي تمنح أصواتها عادة للديمقراطيين.

في ظل موقفه المعلن من السعودية، وربما من المحور الذي يعتمد عليه ترامب حاليا في المنطقة العربية، تتوجس الإمارات خيفة من فوز بايدن وعودة الديمقراطيين مرة أخرى إلى الحكم.

استثمرت الإمارات ومثلها السعودية كثيرا في ترامب، وتتهم الإمارات على نحو خاص بمد يد العون للحملة الانتخابية للرئيس ترامب في العام 2016، ومحاولة التأثير على الانتخابات الأميركية، وهي تهم بالغة الحساسية والخطورة في الولايات المتحدة.

يتوقع بعض المحللين أن اتفاقية التطبيع بين الإمارات وإسرائيل في هذا التوقيت الحساس هي بمثابة خطوة استباقية تسعى من خلالها الإمارات للاحتماء بإسرائيل من الديمقراطيين إذا فاز جو بايدن في الانتخابات، وضمان وقوف اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة إلى جانبها إذا ما قرر الديمقراطيون معاقبتها أو التأثير على مصالحها، خصوصا أنه لن يغفروا لها بسرعة ما تردد من اتهامات لها بالتأثير في الانتخابات لصالح خصمهم العتيد ترامب.

يرى خبراء ودبلوماسيون أن تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات قد يمهد الطريق أمام بيع الولايات المتحدة مزيدا من الأسلحة للدولة الخليجية.

فقد قال سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل ديفيد فريدمان خلال مقابلة مع الإذاعة العامة الوطنية إنه “كلما أصبحت الإمارات صديقة لإسرائيل وأصبحت شريكة لإسرائيل وأصبحت حليفا إقليميا للولايات المتحدة، أعتقد بوضوح أن هذا سيغير تقييم التهديد، وقد يعمل في صالح دولة الإمارات” فيما يتعلق بمبيعات السلاح في المستقبل.

كما قال مدير مشروع العلاقات العربية الإسرائيلية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ديفيد ماكوفسكي لوكالة رويترز، إن هذا الاتفاق “مكسب للإمارات، التي ستكون مؤهلة دون شك للمبيعات العسكرية التي لم يكن بوسعها الحصول عليها بموجب قيود التفوق العسكري النوعي بسبب الخوف من إمكانية استخدام تكنولوجيا معينة ضد إسرائيل“.

من التفسيرات المنطقية للخطوة الإماراتية أنها مجرد تتويج لمسار طويل من العلاقات السرية بين الطرفين، وإعلان رسمي لما كان مكتوما ومخفيا خلال السنوات الماضية، رغم أنه أطل برأسه أكثر من مرة على شكل زيارات أو لقاءات أو رسائل سياسية في مقالات أو تغريدات أو غيرها.

يذهب الصحفي البريطاني إيان بلوك في مقال بصحيفة غارديان (The Guardian) إلى أن أحد أسباب خطوة التطبيع الإماراتية يعود إلى اختلاف الأجيال الحاكمة في الإمارات، حيث كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات، من أبرز المؤيدين للقضية الفلسطينية، التي باتت عرضة للتهميش في أوساط النخب الخليجية هذه الأيام، في حين ينصب اهتمام نجله محمد بن زايد على إرضاء دونالد ترامب وإبقاء الولايات المتحدة منخرطة في شؤون الشرق الأوسط.

ويخلص إلى أن مؤسس الدولة الشيخ زايد ونجله -الذي خلفه عمليا في الحكم- لديهما من الاختلاف في الأفكار والقيم ما يجعل طريقتهما في قيادة العلاقات الخارجية متضاربة ومتعاكسة الأهداف.

حاولت الإمارات في السنوات الأخيرة بسط أشرعتها عبر مساحات واسعة من منطقة الشرق الأوسط وشمال وشرق أفريقيا، وكان المدخل في الغالب اقتصاديا، قبل أن يتحول في معظم الأحيان إلى مخابراتي وأحيانا إلى عسكري وسياسي، وذلك عبر نشر مليشيات مسلحة وقوى سلفية وجيوش من المرتزقة هنا وهناك.

يقول الكثير من المتابعين إن الدور الذي يحاول ولي عهد أبو ظبي لعبه تجاوز قدرات وإمكانات ومكانة بلده، وهو ما يعني أن لعبة النفوذ والسيطرة قد تنقلب عليه في أي وقت، فالكلفة المتعاظمة للتدخل خارج الحدود وفي صراعات وأزمات ذات حساسية عالية كبيرة جدا، ليس فقط ماليا، بل -وهو الأهم والأخطر- أمنيا وإستراتيجيا، خصوصا مع تعاظم السخط الشعبي على سياسيات الإمارات في أكثر من بلد ومنطقة.

ترى الإمارات -بعد أن توغلت في أزمات عديدة، وحملتها الشعوب العربية مسؤولية فشل ربيعها ورأى أنها سفكت دماءهم ودمرت أوطانهم- أن إسرائيل قد تشكل أفضل حام لها في هذه الظروف.

يأتي التطبيع الإسرائيلي الإماراتي أياما قليلة بعد التهديدات التي وجهها وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إلى الإمارات العربية المتحدة، حينما قال إنها قامت بأعمال مضرّة في ليبيا وسوريا، وستحاسبها تركيا على ما فعلت في المكان والزمان المناسبين.

ويعتبر بعض المحللين أن هرولة الإمارات إلى إسرائيل والإعلان عن الاتفاق على إقامة علاقات بينهما ليس بمعزل عن التهديد التركي، فالإمارات متأكدة أنه لا قبل لها بمواجهة تركيا منفردة، وتسعى للاحتماء بإسرائيل، وبالتالي بأميركا تحسبا لأي خطوات تصعيدية ضدها من قبل تركيا، لا يعرف أحد حتى الآن متى وكيف ستكون.

بات معروفا أن الإمارات استفادت خلال السنوات الماضية من العديد من أنظمة التجسس الإسرائيلية لملاحقة المعارضين وللتجسس حتى على بعض قادة الدول، فضلا عن نشطاء وساسة بارزين في المنطقة وغيرهم.

ولكن يرجح أن رفع السرية عن العلاقة سيسرع من استفادة الإمارات من بعض الإمكانات الأمنية والتكنولوجية الإسرائيلية، وهو ما تحدث عنه صراحة وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش حين قال إن القضايا التي تهم الإمارات هي الزراعة والأمن الغذائي والدفاع السيبراني والسياحة والتكنولوجيا.

مع تزايد انكشاف الدور الإماراتي في خلق وصناعة الأزمة الخليجية، وعجزها عن حشد التأييد لموقفها داخل الدوائر الغربية والأميركية، فضلا عن حالة الانكشاف الكبيرة لها في المنطقة العربية والإسلامية، تتضاءل فرصها في الخروج بأقل خسائر ممكنة من تلك المستنقعات الدموية التي حفرتها في أجساد الأوطان العربية، مما جعلها تهرب إلى الأمام، خصوصا مع التحديات المتعاظمة والصورة المتآكلة عنها في العالم العربي والإسلامي.

تعاني الإمارات من تراجع صورتها وسمعتها في الولايات المتحدة لأسباب عديدة من بينها الحرب اليمينة، ومحاولتها التأثير بأشكال غير قانونية في القرار الأميركي وفقا لما تشير إليه بعض التقارير.

وفي العام الماضي قالت وكالة أسوشيتد برس إن رجل الإمارات القوي وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد وجد نفسه متورطا في تقرير المحقق الخاص روبرت مولر الخاص بالتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية.

وكان ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد الحاكم الفعلي للإمارات، الزعيم الأجنبي الوحيد الذي ورد اسمه في تقرير مولر المكون من 448 صفحة، وتم إدراج اسمه بسبب دوره الغامض في اجتماع جرى عام 2017 في جزيرة سيشل بين رجل قريب من ترامب ووسيط روسي للرئيس فلاديمير بوتين.

تتحسب الإمارات للتداعيات المستقبلية لذلك، وتدرك تماما مخاطره وتأثيراته، ولعل في إحجام بن زايد عن زيارة الولايات المتحدة منذ أزيد من عامين ترجمة لتلك الهواجس والمخاوف التي قد تزداد إذا غادر الحليف ترامب كرسي الرئاسة في البيت الأبيض.

تتعدد أسباب التطبيع الإماراتي الإسرائيلي بين الظرفي والإستراتيجي بين الطرفين، ومما لا شك فيه أنه لا يوجد أي سبب يمنع حاكم الإمارات من أن يتخذ خطوة أخرى كبرى من تطبيع العلاقات، ربما لا يزال إشكال التسمية فقط هو ما يحول دون ذلك، فخلال السنوات الأخيرة أبانت الإمارات عن قدرة هائلة على السير عكس تيار الشعوب دون وجل ولا حرج!

كيف ضاعت فلسطين؟ سؤال طرحته أجيال ومضت.. أما اليوم, فلم يعد هذا السؤال مجدياً لو استعرضنا صفحات الخذلان العربي لفلسطين. لم يعد مجدياً في زمن صارت فيه الخيانة -حتى الوصول لتصفية القضية- وجهة نظر معتمدة لدى الأنظمة التي توارثت ذاك التخاذل. إنه الزمن الذي صارت فيه الخيانة” أن تكون” دون خيار ثالث, فكأنّنا في زمن ” الشجب والتنديد” كنا بخير.. أما الزّمن الحالم الذي سبق عهود الشجب, فإن أنصاره كانوا يردّدون دوماً, بأنّ العرب بما لديهم من إمكانيات بشرية واقتصادية ومالية كانوا قادرين على تحقيق ما يريدون لو أرادوا، لكنهم تخاذلوا بإصرار. فلسطين تلك التي لا يمكن حجبها, ولا يمكن أن نراها إلا من زاوية واحدة رغم كل ذاك التآمر الفادح. كان سهلاً جداً أن تمر صفقة القرن في زمن بلغت درجة انحطاط بعض الأنظمة العربية مبلغاً لاحد له. مرت مثل كل خيانة بدأت خيوطها تُنسَج في أروقة القرار الأمريكي أولاً, ولمحنا بعضها بافتعال الأزمة الخليجية وزيارة” آل ترامب” إلى السعودية عام 2017. فالخيانة الأخيرة التي حصلت برعاية صهر ترامب اليهودي “كوشنر” وزوجته “إيفانكا” تستحضر في الأذهان أسماء كثيرة مرت عبرها الخيانات, فليس لورانس العرب وحده, بل أسماء كثر, ويلمع  بين هذه الأسماء,مثلاَ, اسم تسرّب في ذلك الزمن من بين صفحات الجرائد, هو الجاسوسة الصهيونية الملقبة ب” كاميليا” التي أُبرِمَتْ بجهودها صفقة الأسلحة الفاسدة عام 1948.

كل تلك التفاصيل مرهقة ومؤلمة, ساهمت بشكل أو بآخر إتمام صفقات التآمر لأنظمة لم تستطع حتى اللحظة أن تبرهن لشعوبها ” منطق اللاوصول” الذي رسمته. لكن بين الوهم والمنطق هناك من يستطيع أن يرسم الحلم بجدارة متقنة ولو اغتالوا منافذه. ولازلنا-على الأقل- نحاول أن نرسمه كما رسمه ناجي العلي ذاك الفلسطيني الذي اغتاله الموساد ليسكت صوته. وهو الذي قال يوماً : ” أرسم لأصل فلسطين”. مات ناجي العلي وانقضى زمنه, وبقي حنظلة ذلك التائه في الوجدان العربي يلملم خطاياه التي لم تحترق, ومنذ ذلك الوقت وحتى اللحظة كل الطرق التي رُسِمتْ لم تصل فلسطين, لكننا نلمحها في كل ثورة تقتل من الاستبداد شيئاً, فناجي هو ذاته الذي قال أيضاً: “الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة إنها بمسافة الثورة”. لكنَّ زمن الثورات الذي فيه بقايا من حبر ناجي العلي عاد ليجد مرة أخرى من يسرقه.

فمن يسرق زمن الفجيعة منا؟ فنحن مصابون بها, مصابون بإدمان قراءة التاريخ بأحداثه المخضبة بالخُذلان والضياع, لكننا لا نأخذ العبرة, بكل أسف. نعم, نحن أضعنا الطريق إلى القدس منذ زمن بعيد, ليس في تلك اللحظة التي جلس فيها عبد الله بن زايد يبحث في الورقة عن المكان المخصص لتوقيع ” اتفاقية التطبيع”. القصة لم تبدأ بصفقة القرن وإعلان القدس عاصمة لإسرائيل على خطى وعد بلفور. فهو زمن ترامب الذي لعب الدور واختصر أدواراً. ترامب الذي يقال بأنّ الإمارات ساهمت بصعوده وتمويل حملته الانتخابية عام 2017.وذاك ليس بغريب, فإن لها سوابق  في تمويل المتطرفين وأحزابهم في الغرب. إسرائيل اليوم تعيش أوج نشوتها بوجود أنظمة تتسابق مجاناً وبأرخص الأثمان لطلب رضاها, إسرائيل لم تحلم يوماً بأنظمة حكم عربية تكون أقرب إليها من هذه الأنظمة التي فاقت الحدود في الارتماء في أحضانها. ليجد ذلك الارتماء مرحلته الأخيرة في اتفاقيات التطبيع المعلنة.  وهل التطبيع إلا تلك الخيانة التي ما فتئت “تنخر” النظام العربي السياسي..! ثم إن ألغينا التطبيع كمفهموم مرتبط بخيانة الأمة, أفليس هو التساوي بين ندين متكافئين, وليس بين العبد وسيده..! ليس لأنّنا نضع الإمارات بموضع العبد, بل لأنهم هم من وضعوا أنفسهم بذاك الحال عندما ساروا إليه بخطوات مدروسة.  بدأ بحبر على ورق وانتهى بالتطبيق, ففي العام المنصرم على سبيل المثال, قام السفير الإماراتي لدى واشنطن يوسف العتيبة بتدشين الفعل ببضع كلمات, بنشر مقالٍ بصحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، “يصف فيه علاقات حكومة أبوظبي مع إسرائيل بالحميمة. وأن بإمكانهما خلق تعاون أمني مشترك وأكثر فعالية”.  فلم يكن إعلان الإمارات وإسرائيل عن اتفاق التطبيع بينهما سوى تتويج لمقدمات علنية وسرية متتالية في السنوات الماضية، كالتعاون والتنسيق بين أبو ظبي وتل أبيب في المجال السياسي والعسكري، فضلاً عن مختلف أشكال التطبيع الرياضي والثقافي وغيرهما.                الإمارات التي دمرت بمالها مدناً عربية, ومولت خرابها لأنها ثارت على جلاديها, حرصت في الوقت ذاته على إعمار إسرائيل, فهل نتفاجأ الآن بخيانتها, ومنذ متى كانت على وفاء.!؟

الإمارات التي أعادت اليمن قروناً إلى الوراء, مع البقاء على العامل الحوثي كسبب مباشر طبعاً. اليمن الذي كان  يوماً سعيداً, صار بين جوع وخراب. كانت البداية, كما العادة, عندما تآمرت السعودية والامارات على ثورته ومكاسبها. فالتصابي الذي انتهجه الثنائي الخليجي ضيَّع على الأمة الكثير من قضاياها العادلة. تجويع لليمن وتدمير لبلدان الثورات, وعبث بها, مقابل ضخ الأموال في جيب الغرباء الذين أيضاً أحسنوا استثمار الأزمة الخليجية بذكاء. حتى في سوق أوروبا استطاعت الإمارات أن تستثمر. كما عملت عبر أذرعها في الغرب على التحريض ضد المسلمين وتمويل الأحزاب اليمينية المتطرفة خاصة في النمسا وألمانيا..

مال يذهب لتدمير المجتمعات العربية والمسلمة, ومقابله مال في جيب العدا. وهاهي “هآرتس” الإسرائيلية قد كشفت وقبل اتفاق التطبيع المعلن, عن عرض شركة أمنية إماراتية على ضباط سابقين في الاستخبارات الإسرائيلية العمل لديها برواتب فلكية تصل إلى مليون دولار سنوياً.. كل هذا المال مقابل عبث وافقار مدروس للبلدان العربية..

الإمارات بإعلامها ومرتزقتها عملت على تهيئة النفس العربية لامتصاص الصدمة التي سبقتها خطوات كثيرة.. لكن العبور أو القفز فوق عقول تلك الأجيال وعواطفها بات مستحيلاً, حتى تلك الأجيال التي عاشت زمن الهزائم الكبرى, من النكبة مروراً بالنكسة, وشهدت ذلك كله, ليمر أمامها ما تبقى من خراب أخير, يبلغ ذروته في خيانة علنية تحت مسمى التطبيع. لكن هذا الجيل عاش حلماً آخر, إنه جيل  يحلم ألا يرى شيئاً من بقايا تلك الأنظمة التي باعت فلسطين, وبقي لديه الأمل الأخير بالعودة يوماً ما, وهو حق غاب أصلاً من المفهوم العام للسياسة العربية. فكيف نعلّق المفاتيح على باب الخذلان العربي المهترئ.؟!  جيل عاش شاهداً على المرارات والانطفاء والألم, ألم  أعمق من جذور الإمارات وعمرها السياسي. وشيء من ذاك القبيل عبَّرت عنه تلك السيدة الفلسطينية العتيقة التي رفعت مفاتيح بيتها لتقول:” هذا المفتاح أقدم من الإمارات نفسها”.  ماذا سيحكي ساسة الإمارات لأولئك اللاجئين الذين انتثروا في الأصقاع سنيناً, على أمل العودة يوماً ماً, ويصرون ألا ينطفئ أملهم  بعدما شاهدوا فصول الحكاية الأخيرة من حكايتهم التي بدأت بصفقة القرن حتى إعلان التطبيع.. حكاية ما انتهت فصولها يوماً, فالدور المتخاذل الذي لعبه العرب تجاه فلسطين هو ذاته الذي لعبوه تجاه سورية, وتركوها رهينة نظام مارس كل أنواع الاجرام..

وعندما كسرت الشعوب حاجز الخوف من جلاديها, أعادها لصوص الثورات عصوراً إلى الوراء. فكيف يمكن للعدو أن يخاف من أنظمة تخاف من” هاشتاغ” افتراضي يدعو إلى “خفض الأسعار”. أي ضعف ذاك الذي فينا, ليس كأنظمة بل كشعوب تجاهلت أو خافت أن تعبّر عن غضبها, بأنْ تجوب شوارع بلادها العربية رفضاً للتطبيع. ولطالما كان الضعف في الموقف العربي نقطة انطلاق العدو. يوماً ما قال حاييم وايزمان: ” لا داعي للخوف من العرب, فهم ضعفاء بطريقة بائسة”. هذا ما قاله وايزمان الذي لعب الدور الأكبر باستصدار وعد بلفور.

لكن ماذا نقول في هذه اللحظة التاريخية الحالية للعرب, حيث صارت الخيانة منهجاً ووجهة نظر, وكل الأسباب كانت كافية لتمويل الخراب والانقلاب على الربيع العربي -مثلاً- من أنظمة تورطت في دم شعوبها لتصنع وهم التطبيع. إن تاريخ فلسطين وقضيتها يبين لنا لماذا لا يمكن أبداً تحقيق الحرية بالاعتماد على الدبلوماسية وهذه الأنظمة. إن الربط بين النضال من أجل تحرير فلسطين بالنضال ضد الأنظمة التي خانتها حقيقة لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاهلها, بل هي الطريق الصحيح تماماً لتحريرها. كما يقول ابن فلسطين, الشاعر مريد البرغوثي الذي يلخص الحالة تماماً: “كلما سقط ديكتاتور.. كلما اقتربت فلسطين أكثر”.

فالتآمر على الربيع العربي هو بحد ذاته مؤامرة على فلسطين, فتلك الأنظمة وبقاياها وموروثاتها السياسية إنما هي من ذاك الزمن الذي باع فلسطين وتوغل بالتخاذل.. فهناك للضياع قصص..  وهل كان مفاجئاً بالنسبة لنا ما خطته الامارات, وهي التي قامت بخطوات تدميرية كارثية, لا تقل خطورة عن اتفاق التطبيع, وهل الخيانة تتجزأ, وهل ذاك “دور المخرّب” الذي لعبته الإمارت يقل عن فعل التطبيع؟!                                    فالخيانة لا تعني التطبيع فقط. فالانقلاب على الثورات وربيعها خيانة, والتحريض على المسلمين بضخ المال وتوظيف المرتزقة خيانة, وحصار اليمن وتدميرها خيانة, وما يحدث  في سورية على مرأى العرب خيانة, وترك العراق في مخالب القهر والظلم والاستعمار والميليشيات الطائفية خيانة.. وتقسيمات ليبيا خيانة, والسيطرة وسرقة الأوطان وتجويع الشعوب خيانة. فكيف لكل هؤلاء الخونة المجرمين أن يحرروا فلسطين..؟!

إن العلاقات العربية مع إسرائيل والتي يُرَوَّجُ لها على أنها -سياسياً- تخدم قضيتهم, وهذا استخفاف بالعقل, لا تفضي سوى إلى مكاسب دنيئة لها, لأنَّ العلاقات مع إسرائيل كطرف قوي بفعل ضعف العرب لن تكون كذلك, وفي ظل مجتمع دولي لم يستطع أن يطالب إسرائيل يوماً إلا بضبط النفس.

إن تلك العلاقات القائمة على مبدأ العبد وسيده لن ولم تحكمها إلا مصالح تلك الأنظمة التي تبرر فعلها على أنه مصالح قومية للأمة, لذلك غالباً ما كان يصاغ الخطاب على أن نقطة الانطلاق في العلاقات, هي المصلحة القومية, وحتى في مفهوم الصراع فإنه يبدو صراعاً بين القوميين وإسرائيل. لكن الأنظمة التي تسمي نفسها قومية, وتحت هذا المفهوم استخدمت الفلسطينيين كأدوات أو أوراق لتحقيق مكاسب تعود عليها لا على القضية الفلسطينية, كما فعل ولازال يفعل النظام السوري من الأب حافظ حتى بشار الابن. فهذا النظام الذي انبثق أصلاً واستمر من نقطة “أمن إسرائيل” وحراستها, وبيع الشعوب شعارات مهترئة زائفة لتعبئة الجماهير ونفخها -إن صح التعبير- بالعداء لإسرائيل, ليس كرهاً بإسرائيل, بل لصرفها عن مطلب الحرية ضد هذه الأنظمة, وامتصاص كل احتقان ضدها  عن طريق ” التنفيس” بالعداء لإسرائيل. فالممانع حافظ الأسد الذي سلم القنيطرة لإسرائيل في حرب 1967 عندما كان وزيراً للدفاع, ثم وفق “صفقة” باع هضبة الجولان للعدو الإسرائيلي, وكان ذلك ثمناً لوصوله سدة الحكم. ثم  ما فتئ يتغنى بالمقاومة والممانعة, مقاومة لا يمكن أن تمر إلا من فرع فلسطين, وقتل الفلسطينيين وإخفائهم قسراً كما السوريين. وهو جزار مجزرة تل الزعتر الذي أطلق عليه   ياسر عرفات حينها لقب: شارون العرب عندما قال ” شارون العرب يحاصرنا من البرّ وشارون اليهود يحاصرنا من البر”.

 لذلك فإن كل ثورة في بلد عربي تقرِّب المسافة من  فلسطين أكثر, فلا يمكن الفصل بين فلسطين وحريتها عن سورية وحريتها مثلاً. ولايمكن بناء جدار بين الحريتين, فكلاهما يؤدي إلى الآخر, فالتحرر من الأنظمة يفضي بالضرورة إلى تحرير فلسطين. فتلك الأنظمة التي تقف بانتظام لتتسول دعم ترامب وبيته الأبيض, وتتقرب من إسرائيل لكي تبقى على عروشها التي وصلت درجة التمسك بها حد الإدمان بعد موجة الثورات، ستظل العائق الأهم أمام تحرير فلسطين, ولهذا كانت المؤامرة على الثورات، حتى لا تتحرر تلك الشعوب وتبقى تحت سلطة القمع والترهييب فإبصار الطريق أو الوصول إلى آخره, يعني نهاية حتمية لها, وبداية لتحرير فلسطين .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here