يوميات نصراوي: سالم جبران – اديب، اعلامي ومفكر طليعي

نبيل عودة

توجد بين اوراقي عشرات التسجيلات عن نشاطي الإعلامي والفكري مع الشاعر والمفكر والإعلامي سالم جبران. عمليا أستطيع ان أقول إني منذ بداية عام 1962، ارتبطت نشاطا وفكريا واعلاميا بسالم جبران. كنت وقتها في الصف التاسع، نشرت قبل ذلك قصة قصيرة في مجلة الجديد، وكنت أصغر الكتاب المحليين الذين تنشر لهم مجلة الجديد الثقافية قصة قصيرة في ذلك الوقت.

بداية تعرفي على سالم كانت حين قدت نضالا طلابيا في المدرسة الثانوية المهنية “اورط عمال”، اذ كمدرسة عربية لشبكة يهودية، لم يجر تجهيز المدرسة بماكينات لأشغال الحدادة الفنية. كان سالم محررا لمجلة الغد الشبابية الشيوعية، حضر لمدرستنا ليكتب عن الاضراب، تعرفت عليه وعرفني من قصتي ودعاني للتواصل معه في مجلة الغد، ثم جندت عددا من الزملاء للقاء اسبوعي في نادي الشبيبة الشيوعية في الناصرة، حيث قدم لنا سلسلة محاضرات تثقيفية وفكرية أثرتنا واثرت على خياراتنا السياسية فيما بعد.

بدأت، بناء على طلبه، احضر الاجتماع الشهري لهيئة تحرير مجلة الغد ومقرها في حيفا، وكلفت بعدة مهام سهلة، مثل الكتابة عن النشاطات المسرحية والغنائية والندوات المختلفة التي كانت تعقد في الناصرة (اليوم تلاشت تقريبا) وعن بعض الكتب التي صدرت وقتها، أي أدخلني لعالم النقد، الأمر الذي ترك أثره على تطوري الثقافي والإعلامي والصياغي اللغوي، حيث أنى اكتب حتى اليوم دون المام جيد بقواعد اللغة العربية. نشاطي تحت اشرافه بمجلة الغد أثرى قدراتي التعبيرية واللغوية، الى جانب استيعابي لمفاهيم فكرية وثقافية جديدة، بعد فترة من نشاطي الصحفي، كلفت بكتابة تقارير صحفية عن واقع المجتمع العربي، هدم المنازل، مصادرة الأرض، اضرابات ومشاكل طلابية تعليمية مختلفة، الى جانب مواد أدبية نشرت بعضها في الغد.

سالم ليس مجرد كاتب آخر، انما سياسي مجرب تمرس في أعظم مدرسة سياسية عرفها العرب في اسرائيل، والتي تخرج منها أبرز المثقفين والأدباء والصحفيين والمناضلين، ومنهم اولئك الذين يغنون اليوم بصوت نشاز موالاتهم القومية او النضالية المدعية والتي وجه لها سالم صفعة مدوية في مقالاته المختلفة، طبعا نشأ سالم في مدرسة الحزب الشيوعي وصحافته السياسية والثقافية والفكرية، وقد تلاشت هذه الصحافة (بقيت صحيفة الحزب اليومية “الاتحاد”) وضعف الحزب والتنظيم الشيوعي. بدأت مرحلة اضمحلال الحزب وسيطرة الشيخوخة الفكرية والثقافية على كوادره القيادية ونهجه وتنظيمه. وكان استبعاد سالم عن رئاسة قائمة الجبهة/ الحزب الشيوعي، للكنيست هي المفصل الحاسم ببدء اضمحلال مكانة الحزب الشيوعي وجبهته.

عملت معه في مجلة الغد لمدة ثلاث سنوات، أي فترة كوني طالبا ثانويا، ثم واصلت دراستي لهندسة الميكانيكيات لسنتين قبل ان يوفدني الحزب الشيوعي لدراسة الفلسفة والاقتصاد السياسي والعلوم الاجتماعية في موسكو. بعد دراستي عملت محترفا حزبيا حتى استقلت لأسباب لا مجال لأوردها هنا، ودخلت سوق العمل بالصناعات الثقيلة كمدير عمل وفيما بعد مديرا للإنتاج، رغم أنى كنت أتوقع اختياري للعمل الإعلامي بعد انتصار الجبهة في انتخابات بلدية الناصرة. لكن يبدو ان ما ناضلنا لإسقاطه سياسيا واداريا من فساد، استبدلناه بما هو أشد فسادا وانتهازية، مما دفعني لسوق العمل بالصناعة وليس بالإعلام او الحصول على وظيفة او التعليم. طبعا خلفيتي الهندسية كانت أكبر مساعد لي للتقدم المهني والإداري.

عام 2000 أقيمت صحيفة جديدة هي صحيفة “الأهالي” (لصاحبها علي دغيم من سخنين)، وكنت بتلك الفترة مصابا بحادثة عمل. دعاني سالم للانضمام اليه في تحرير صحيفة “الاهالي” التي صدرت أسبوعيا ثم نصف اسبوعية، ثم ثلاث مرات في الأسبوع. وقد أصر سالم على صاحب الجريدة ان يقع الخيار على شخصيا وليس على صحفيين لهم اسمهم وتجربتهم في الصحافة المحلية، وليس مدير عمل في الصناعات المعدنية كما كنت اعرف وقتها.

عملي مع سالم في الأهالي، وانا كاتب متمرس وورائي مئات النصوص الأدبية والنقدية والسياسية، ككاتب مستقل، كشف امامي قدرات سالم ومواهبه النادرة، وأفخر بالقول أنى تخرجت من جامعة سالم جبران الصحفية والفكرية، ولا اظن انه توجد جامعة في مستوى جامعتي. حقا حملت القلم منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري، عندما نشرت قصتي الاولى، الا انني لا أستطيع القول أنى اصبحت صحفيا، وصاحب رأي مستقل، الا بعد عملي مع سالم في تحرير ” الاهالي ” التي حولناها، الى منبر مميز، والى تجربة صحفية لا سابق لها في الصحافة العربية في اسرائيل على الأقل، اثارت قلق كل الفلق الحزبية من قومية وشيوعية واسلامية، فاتحدوا في الضغط على صاحب الجريدة لإبعادنا عن ” الأهالي” او اغلاقها.

كان يفرحنا عندما يتصل معنا رفاقنا الشيوعيين الكبار في السن، ليقولوا لنا انهم يقرأون الاهالي لمعرفة الموقف الشيوعي الصحيح. وكانت تلك أحسن شهادة لصحة فكرنا ومواقفنا، وأعظم اجر يعوضنا عن معاش الفقر الذي قبلنا به على مضض في سبيل بناء منبر فكري متنور وغير مهادن للعفن الفكري والسياسي. وربما يتفاجأ البعض إذا قلت ان عدد الصحفيين العاملين في “الاهالي ” لم يتجاوز الأثنان، سالم جبران ونبيل عودة.

سالم جبران يذكرني بالمفكر الشيوعي الايطالي الرائع ” غرامشي “، وقد حثني على قراءة كتاباته، التي طرح فيها رؤياه الفكرية الماركسية المبدعة، بدون اجترار دوغماتي للمقولات، كعناصر دينية غير قابلة للتحسين والاضافات. وعالج بجرأة ورؤية حديثة في وقته، للعديد من القضايا الملحة للمجتمع الايطالي، وللمسائل الفكرية العامة للماركسية. وقدم نموذجا للمفكر الماركسي المنفتح على مجمل الحركة الفكرية بلا تزمت ماركسي -ديني. وللأسف الشديد، عنما اعود الى غرامشي وكتابات ما يعرف بالتيار الماركسي الغربي أجدهم أرقي بمراحل هائلة عن الفكر والمناهج الشيوعية التي ما زال البعض يرددها كالببغاوات منذ مطلع القرن العشرين. وما زالت معظم الاحزاب الشيوعية الشرقية تسجن نفسها داخل غرف مغلقة بإحكام، خوفا من “الانحراف” عن التوراة “الماركسية – اللينينية -الستالينية”. واكاد اكون واثقا مما اقوله، بأن الكثيرين من القيادات التي تحسن الضجيج، هم اشباه اميين ماركسيا، والمامهم لا يتعدى بعض المفاهيم السياسية والشعارات التي عفى عنها الزمن.

الماركسية الغربية تشكلت من مجموعة مفكرين ماركسيين رفضوا فكر السيادة المطلقة للدولة السوفييتية، وانطلقوا بنضال عنيد من أجل “ماركسية صحيحة” ثورية إنسانية جوهرية، ضد كل التشويهات التي شهدتها الماركسية في الشرق والغرب. وبرز خلال سنوات العديد من المفكرين الماركسيين، أمثال جيورغ لوكاتش (هنغاري) وكارل كورش (ألماني) وانطونيو غرامشي (ايطالي) وارنست بلوخ ( ألماني) وروجي غاروديه (فرنسي) وغيرهم.

رأيت من واجبي ان الفت النظر لهذا المفكر الطليعي البارز، سالم جبران، لما شكله فكره من رؤية عقلانية متزنة، ومن تجربة حياتية فكرية وسياسية نادرة، انعكست في كتاباته ونشاطه الفكري والسياسي المتشعب في الوسطين العربي واليهودي.

الى جانب نشاطاته الإعلامية كان الشعر معشوقة سالم الأولى. وسالم شاعر مبدع، وكان ضمن شعراء المقاومة الذين أشار إليهم الشهيد غسان كنفاني.

اريد ان اكشف انه بعد انقطاع قسري عن الابداع الشعري، تحت عبء المسؤوليات السياسية والتثقيفية والصحفية التي قام بها وهو في الحزب الشيوعي، عاد الى الابداع الشعري اثناء نشاطه كمحرر لصحيفة الأهالي، وانا شخصيا مارست الضغط عليه ليبدأ بنشر جديده الشعري، كنت ارجوه ان يبدأ بنشر قصائده، نشرت له قصيدتين، احداها رثائه لمحمود درويش والتي كتبها أصلا باسم سعيد الحيفاوي. والثانية بعد انسحابه من الحزب الشيوعي على أثر الانقلاب ضده، وموقف قيادة الحزب المتخاذل، الذي كان بداية تفكك وضعف التنظيم فكريا وسياسيا. سمى تلك القصيدة باسم “عاشق النهر”.

كنت اتمنى ان أقرأ قصائده منشورة على المواقع الى جانب كتاباته السياسية والفكرية …

للأسف كتاباته الشعرية التي كتبها اثناء تحريره للأهالي مفقودة حتى اليوم، وخاصة ديون غزلي قراته، وقرأ مقاطع منه امام عدد من الأصدقاء بجلسة خاصة، لكنه رفض ان ينشر قصائد منه وقال انه سيؤجل ذلك لوقت مناسب أكثر، لكن الحياة لم تمهله، وعبثا بحثنا انا وزوجته عن ديوانه المفقود.

وثيقة: قصيدة “عاشق النهر” لسالم جبران

عندما تدافعوا إلى المنصّة

مثل قبيلة مندفعة إلى الثأر،

فيهم العربيد والمهرّج

فيهم اللاعق والسارق

فيهم السكران والنصّاب

فيهم الحثالات التي تطرب لصوت تصفيقها

فيهم الهتّافون المحترفون

فيهم مشلولو التفكير العاجزون عن الحلم –

قرّرتُ أن أنزل عن المنصّة

لا مهزوما ولا هاربا

بل رافضا أن أشارك في المهزلة

رافضا المشاركة في المسؤوليّة عن الفضيحة

هم صعدوا إلى رقصة الانتحار

وأنا لم أنزل، بل صعدت

صعدتُ إلى ذاتي الحرّة، صعدت إلى جبل الحريّة

بقيتُ مع الناس، واحدا من الناس

الشمس في قلبي

لم أستبدل حلمي بحلم آخر

بل نفضتُ عن حلمي الغبار

ليس عندي وقت حتى لاحتقار

القبيلة التي اندفعتْ للثأر

بعد انعتاقي فقط،

أعرف تماما الفرق بين المستنقع والنهر

أنا حليفُ النهر

أنا عاشق النهر!

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here