الطب والشعر / قصة واقعيّة عن الشجاعة والوفاء

الطب والشعر / قصة واقعيّة عن الشجاعة والوفاء
د. حسن كاظم محمد
قصتنا تعود إلى ستينيات القرن الماضي عند تخرجي من كلية طب بغداد وتم تنسيبي للعمل في منطقة نائية وعرة (بموجب تحكّم الحظ والواسطة) بحسب الترتيب المعمول به بما يُعرف بالقرى والأرياف. وهي فرصة مناسبة لاكتساب الخبرة العملية وخدمة الناس البسطاء في مستوصف متواضع وبسيط وذلك لحين انتهاء المدة المقررة البالغة سنتين عادةً، والعودة بعدها إلى المدينة الواسعة إن شاء الله.
معظم الحالات التي أعالجها كانت على الأغلب للأطفال ولحوادث بسيطة مثل لدغة الحية، ولسعة العقرب وغيرها، أما التي تفوق إمكانية المستوصف فتُحال إلى أقرب مركز طبي أو مستشفى. جاءنا أحد الأيام طلباً للعلاج أحد القرويين يضع على رأسه (العرقچـين) ولافّاً يده اليسرى بيشماغه التقليدي المنقّط وكأنه ملاكم جاهز للنزال. طلبت منه أن يشرح لي ما جرى، فأجاب بأن ذئباً كبيرا وشرسا قد هاجم قطيعه أثناء رعيه الغنم في إحدى القرى البعيدة وفتك بأحد خرافه، فما كان منه إلا وهجم على الذئب، فأدخل يده اليسرى لحد المعصم في فم الذئب اللعين حاملاً خنجره بيده اليمنى وطاعناً صدره بشدّة حتى سقوطه ميتاً على الأرض. حينها التفتَ إلى يده الممزقة فلفّها باليشماغ وركب بغلته متوجهاً إلى المستوصف.
كشفت عن الأضرار التي أصيبت بها يده وهو يتطلع إليّ بكل هدوء وكأن شيئاً لم يكن، وأخبرته بأن الأضرار شديدة وتتطلب ترميمات كثيرة وتخدير عام في حين لا يتوفر لدينا حتى التخدير الموضعي، وقلت له معتذراً بأنني سأحوّله إلى مركز المدينة. بَدَت عليه علائم التعجب والانزعاج وقال (دكتور الله يخلّيك ويطوّل عمرك، إيدي بحلگ الذيب ماكو وجع، معقولة إيدي بإيدك أكو وجع؟ مو عيب توكّل واشتغل على كيفك).
باشرت بإجراء المطلوب له وأنا غير مصدّق بأنه سيتحمّل الألم. أجريت المطلوب له وتم الترميم ما يشمل التنظيف والتعقيم وخياطة الجروح، واستغرقت العملية حوالي الساعتين بكل هدوء ولم تصدر عنه خلالها أية شكوى أو انزعاج. عَـلّـقتُ يده على صدره وطلبتُ منه أن يراجعنا بعد ثلاثة أيام للمتابعة. عاد إلى قريته شاكراً الجميع، وشُفيت يده بعد فترة وجيزة وعاد يمارس عمله كالمعتاد، وانتهى الأمر.
بعد أكثر من شهر زارني الراعي في المستوصف شاكراً وقدّم لي بخجل هدية بسيطة، استلمتها منه بكل امتنان وهي عشر بيضات طازجة من النوع الخشن موضوعة في سلة صغيرة محلية الصنع.
عِبرة من الراعي؛ مستوى شجاعته وطريقة دفاعه ببساطة سلاحه، ونوع الوفاء إلى الخراف والطبيب المعالج، شكّلت تجربة لا تُنسى من تجارب الحياة.

الأبوذيّة
هِـمّه وْوِفـه عِـزّ وشَرف ماجـوده*
يـوَفّي مُـحِـب ويضَحّي له جوده **
جَـرِّب شـوف گـول وفِـعِـل جـوده
مَوقِـف صَلِـب، ثابِت گول وَيْ خَـيّه
*بمعنى جاهزة
**بمعنى حياته
∞ ∞ ∞ ∞
شَـهِـم يِـحميك لا تْـگلّي بسّ آوه*
شِفِـت إنته إلاهك كُـلشي ساوه ؟
عَـيـن وإذِن وِيـد ثْـنين ساوّه**
شجاعه تْـزيد لو طُـبجَـن سِـويّـه
*بمعنى آوى
**بمعنى خَلَـق
وإلى اللقاء

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here