أسرارُ آلعشق – ألحَلقةُ آلثالثة

أسرارُ آلعشق – ألحَلقةُ آلثالثة

بقلم : ألعارف ألحكيم عزيز الخزرجي

منذ آلصّغر كنتُ أبحث عن حُبٍّ حقيقيّ أزلي يُخفّف عني آلام الحياة و يُخرجني من الغربة التي أحسستها منذ ولادتي و التي بدت و كانّها لا تنتهي .. حبٌّ يُعيد لي توازني ألذي فقدته في عالم ممتلئ بآلقسوة و العنف و عبادة الذات بغطاء الأسلام, حُبٌّ صادق لعلّه يُحقّق لي معنى الوجود و يُمكّنني إرواء عطشي ألرّوحي للأصل الذي إنقطعت عنه بإرادتي أو بغيرها – لا أعلم – لسرٍّ في تفسير و قبول شهادتي على نفسي لقبول هذه الحياة بعد ما عجزت كتب الفقه و الأدب و الشعر و غيرها من تفسير ذلك .. فأنا روح شفافة للغاية لم تلطخها عبث الآخرين,؟

فجهدت نفسي باحثاً عن ذات الحبّ الكونيّ الذي فقدته لأنقطاعي عن الاصل بسبب الأقدار و آلهجر و بعض النفوس الشيطانيّة وكل البشر يحوي شيئاً من الشيطان بذاته, و حين رأيتهُ – أي حبيّ ألمجازي – في غفلة من ذلك الزّمن الذي لا يُمحى؛ ثبتَ لي بعد أسفارٍ أرضيّة مريرة .. أنّ هذا النوع من العشق ألمجازي لا يستجيب و لا يُمحي الغربة لانه عاجز عن إرواء و ملأ الفراغ الكبير الذي بدى مُمتداً في قلبي إلى اللانهاية, و حقاً كان كذلك, ففي المحطة الأولى لمدن العشق الأرضية (1) تحطّم كلّ شيئ و خاب ظني و أملي من خير الأرض, حتى يئست .. لأصل آلآخرة و أنا حيّ أُرزق بعد ما رأيت المحبوب قد إنغمر بحبّ مخلوق بشريّ أرضيّ آخر أنسته كل ساعات و أيام و أزمان العشرة و كأن شيئا لم يكن .. فأحسست بأنيّ مخطئ و مغبون في نفس الوقت و حقيّ ضائع و تهت بعد ما علمت بفقدان العدالة في الأرض .. و بدأت أكرر قصيدة (محمد صالح بحر العلوم) ؛ (أين حقيّ)(2) و طالما رددت قوله بجانب قصيدة أبو ماضي حتى صرت أحنّ للقائهما, ومطلعها:
رحت أستفسر من عقلي وهل يُدرك عقلي .. محنة الكون التي إستعصت على العالم قبلي .. أ لأجل الكون أسعى أنا أم يسعى لأجلي؟ و إن كان لكل فيه حقّ .. أين حقيّ؟

و هكذا كنت أحاول منذ الصغر وصول مدينة العشق الأبديّة للخلود فيها أبداً بعيداً عن هذا الخلق والعالم الغريب .. أبحث عن حبٌّ لا تؤثر فيه كل قوى الطبيعة و مادّياتها و نفوس هذا البشر الملوث بجذور الخيانة, و تهت في آلكثير من المتاهات و واجهتني الكثير من الأخطار و المهالك التي نجوت منها, ربما كانت إرادة الله أن أبقائي لليوم كي أسطر هذه الملاحم لتكون منهجاً لنجاة آلتائهين في دهاليز العشوق المجازيّة التي حطمت آمالهم حتى مسختهم من دون أن يعلموا بعد ما جرى عليهم عملية الأستدراج ثم المسخ .

شُعراء و علماء كثيرون من مختلف ألبلاد و آلأمصار, ظهروا و خلّفُوا تُراثاً غنيّاً و دواويين شعريّة مُعبّرة و خالدة و حتّى روايات و حكايات دالة عن آلعشق و آلعرفان وعن جانب أو جوانب ألحياة ألماديّة وآلمعنويّة!

إلّا أنّ هُناك من بين أؤلئكَ آلرّجال ألألهيّين ألّذين برعوا حتى في العلوم الغريبة(3) بجانب التقوى و الزهد و الأسفار الكونيّة؛ في العلوم ألأدبيّة و آلتّقليديّة و ألصُّوفيّة – ألعرفانيّة – ألفلسفيّة .. ظهر بينهم شخصيّات قليلة فذة – عرفانيّة – أخلاقيّة إستثنائية وصلوا القمة حتى درجة (العارف الحكيم)(4) بإبداعهم و نظرتهم آلعميقة للوجود, فخلَّدتهم فوانين الوجود, و يُمكن رؤية و إستشفاف عمق الأدب وآلجّمال و آلبُعد آلكونيّ في آثارهم تلك آلتي تركوها للناس الذين لم يعودوا يقرؤون للأسف .. أجملها بنهج ألخلود مع وجود آراء أخرى مخالفة تماماً لهذا التقييم تتهمهم بآلأنحراف و حتى الزندقة بسبب قصور في المعرفة بهم, حدّ الفساد الأخلاقي! حيث إختلفت ألتّقيمات ألأدبيّة و الدّينية و العرفانية بحقّهم من ناقد عنيف يقابله مادح مُحبّ حدّ التقديس ؛ و من مدرسة إلهيّة لأخرى إلحادية أو شيطانية؛ أو عقائدية لأخرى وجودية, و هكذا و السبب هو إصابة آلنُّخب الثقافية و العلماء و المدعين للدِّين بآلأميّة الفكريّة و الانا!

من هؤلاء العظام بعد آلرّسل و أهل البيت(ع) هم محمد باقر الصّدر و الأمام الخميني و السلطان شاه آبادي و الحكيم محمد حسين الطباطبائي سبقهم جمعٌ آخر معدودين أمثال محي الدّين بن عربي و فريد الدين العطار ألنيشابوري و الحسين بن منصور الحلاج و با يزيد البسطامي و إبراهيم الأدهم سلطان نيشابور و جَلالُ ألدِّين ألرُّوميّ و شمس التبريزي و آلسّهروردي القتيل و غيرهم كثير, لك الذي برز في ميدان العرفان و الحِكم بعد الأمام الراحل و الصّدر الأوّل هو شمس التبريزي و صاحبه ألرّومي قبل 800 عام, فمن هو هذه الشخصيّة التي بدأت تبرز أكثر فأكثر كلّما تقدم الزمن!؟
وسنتحدث عن هذا آلشّاعر ألعارف جَلال ألدِّين ألرُّوميّ, لأنّ قصته غريبة حقّاً و قد فصلنا الكلام عنه في كتابنا (حقيقة جلال الدين الرومي)(5)!

فما هي حقيقتهُ و سرّهُ؟ و كذلك:

ألمُعجزة آلّتي سبّبت تعلّقهِ بشمس آلدِّين ألتّبريزيّ:

ألأثر آلـذي تركهُ على آلطـرق ألصُّوفيّة ألشّـرقيّة ؟

و لمـاذا تأخّر آلعرب و حتى آلعَالَم في معرفتـــــه ؟

وما آلأثر ألذي تركه في أوساط ألمُثقفين والأدباء؟

و مدى مصـداقيّته في تقرير أقواله وملاحظاتـــه ؟

و كيف إختتمت حياته, و ما هو موقف ألنّاس منه؟

وأخيراً ألأدب ألفلسفيّ في قواعد ألعشق ألأربعون.

ألتفاصيل لمن يريد معرفة عالم مرموز بآلأسرار:

إنّ مجرّد الولوج في هذا العالم ألمرموز إبتداءاً ؛ يشعر الأنسان معه بآلتهيب و الوجل و آلتريّث و الأغتراب, حيث يعتريه حالة غريبة يحسّ معها بأنه كآلسّابح في محيط مترامي من الجّمال و الورع و الجلال و النشوة و الولج في العشق و العرفان .. مع إحساسٍ رائع يداخلك ممزوج بهيبة و أمان!

و أنت تغوض هذا العالم اللامتناهي تشفق على نفسك و تتواضع بلا إرادة و بكل كيانك وسط ذلك الوجود الجديد الذي لم يسبق أنْ خضته من قبل, و تشعر كم أنك تافه و ضئيل و جاهل بمعلوماتك و مدّعياتك قبل ولوجك في هذا الكون السّحيق!

إنه لأعجب من العجب, أنّك و لمجرد الأبحار ثمّ التحليق في هذا الفضاء الرّحب اللامتناهي تشعر أن روح الفضاء و ذاك المحيط المترامي حاضرة في وجودك, و هذا الجّمال و العظمة لا يمكن أن يوصف .. لأن الجّمال يحتاج لجمال يتحدث عنه!

يعني؛ بعد أن يُنوَّر تلك الهالة من الأجواء العجيبة أسرارنا و ضمائرنا يميل صاحبه إلى الهدوء و السكون و الصّمت, لذلك كثيراً ما يكون العارف ألنائل لتلك الكرامات مستورة في العالم لأنه قلّما يظهرها أمام الناس و حتى أمام المؤمنين الذين لا خبر عندهم عن عوالم القلب .. و يفتخرون – لجهلهم – بمدى عقليّ محدود جدّاً توصلوا إليه بآلقياس مع آلمدى آلكوني, لأنه قد يرى بعض المسافات الظاهريّة فقط من غير التأمل في أعماق الأشياء و الوجود!

و هذا الأمر لا علاقة له بآلمذاهب و الدين و العقائد .. إنّما هي علوم و أسرار يتوصل لها العقل الباطن .. لا الظاهر .. الذي و كما أشرنا يفتخر به الناس و العلماء و الفقهاء.

لهذا مولانا آلرّومي ألذي مرّ على ميلاده 800 عام و قبله أهل البيت(ع) و ألأنبياء العظماء(ع) ما زالوا مجهولين كآلأوصياء .. كما الكثيرين من أقرانهم و على رأسهم أئمة الهدى, و سيبقون مستورين عن العالم ما لم يفتح الأنسان ألعارف قلبه الباطن ليُبصر حقائق الوجود العظيم!
لكن لماذا لا يستطيع البشر و حتى الأنسان الذي يعلو على البشر بدرجة(6) .. أن يكشف حقيقة هؤلاء و يسير بطريقهم !؟

هل لأننا سطحيون ….!؟
هل لأننا تمسكنا بآلدّنيا؟
هل لأننا لسنا عاشقين؟
هل لأننا لسنا مُتيّمين ؟
هل قطعنا حبال الوصل مع المعشوق؟
هل لأننا نجهل الفنّ ألعميق .. كوانين الأفئدة؟

قال إقبال اللاهوري معظماً مقامه – أيّ الرّوميّ – بعد رؤيته في المنام:
صيّر الرّومي طيني جوهراً. . من غباري شاد كوناً آخراً

و قال بعض العرفاء كالنورسيّ في آلرّوميّ:

[علّمني الرّومي أنّ ألف حكيم أحنوا رؤوسهم للتفكير لا يُضاهون كليماً واحداً كآلرّومي].
و قد أكدّ هذا المعنى عارفاً آخر هو (أبو سعيد أبو الخير) على لسان ألحكيم (إبن سينا), الذي قال عن مكانته:
[ما نراه نحن بفكرنا يراهُ أبو سعيد بعينه].

إنّ ما يكتبه العارف الحكيم هو آلذي يخلد .. بل لا يشيخون أبداً, إنّهم شُبّان دائمأً.

تجلّى آلحقّ أمامهم في الوجود, بمشيئة الله الذي قال:
[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ](7).

هذه الدّرجات العلا لا يصلها إلا مَنْ سار على نهج الحقّ المُبين و أدّى الحقوق و صدق مع ذاته و مع الله و طبّق شرع الأسلام, و الذين يُسقطون آلأحكام ألشّرعيّة بدعوى أنّهم وصلوا؛ كاذبون, و كما قال عارف حكيم:

إسألوا هؤلاء المدّعين: أَ عَرَفتُم ما عَرفهُ آلرّسول(ص)؟

فإن قالوا : نعم, فقد كذّبوا!
و إن قالوا لا, فهذا إقرار بوجوب إتّباع نهجه و أحكامه!

سألوا با يزيد البسطامي بعد ما قال شيئاً عجيباً مُعَظّماً نفسهُ: (سبحاني ما أعظم شأني)!
أيُّكُما أعظم : أَ محمد بن عبد الله الذي قال؛ (سبحان الله و بحمده …) .. أم أنت يا أبا يزيد البسطامي الذي تقول؛ (سبحاني ما أعظم شأني)؟
قال مُبيّناً علّة ذلك : لأنّ رسول الله على عظمته و شأنه إنّما كان يقول: [سبحان الله و بحمده .. و أنا أقول؛ سبحاني سبحاني ما أعظم شأني]!؟
لكون الرسول(ص) قد وصل مقام التوحيد فكان يُسبّحه تعالى بعد ما عرفه, أما أنا (با يزيد) فما زلت مشغولاً بنفسي ولم أصل الذي وصله الرسول!

ألعاشقون لا يسمحون بدخول حبّ شيئ في وجودهم إلا بمقدار رضا الله, فكلما دخل في قلبك حبّ شيئ ؛ خرج شيئا من حبّ الله منه.
لهذا قالوا: [إن علماً لا يصل بك لله؛ ألجّهل منه أفضل].
لذلك فآلواصلون يعبدون الله حقّ عبادته بإخلاص, و يقولون؛ إسألوا المشعوذين الذين حرّروا أنفسهم من العبادة و الألتزام بدعوى كونهم قد وصلوا الحقّ!؟
أَ عرفتم ما عرف محمد(ص) و أهل بيته و أصحابه من الحقّ؟
فإن قالوا نعم؛ فقد كفروا فإحصروهم, لأن بقائهم إفساد للأمة.
و إن قالوا لا؛ فهم زنادقة .. يُريدون التّحرر من الفرائض و العبادة و الألتزام لنيل الشهوات!

هناك مقام للمعشوق ومقام للعاشق:
ألمعشوق؛ له هيبة و سلطان عليك.
و العاشق؛ له ثلاث مراتب هي ؛
أعلى – أوسط – أدنى!

و تحدّ مقامات العاشقين ثلاث خطوط حدودية :
ألخط الأول : خطٌّ أقرأه أنا و تقرؤونه أنتم.
ألخط ألثاني : خطٌ أقرؤوه أنا ولا تقرؤونه أنتم.
ألخطّ الثالث: و خطٌّ لا أفهمه أنا و لا أنتم, إنه ما وراء الحقيقة تختصّ بآلذّات المقدسة.

فالحَلّاج(ألحُسين بن منصور) المُلقّب بشهيد العشق الإلهي قد وصل بداية المقام العاشر .. لأنهُ يختلف عن العالمين.
و أما شمس التبريزي فقد وصل أعلى مقام .. إنه ملك أصحاب المقامات الثلاثة, و سنتحدث عن الحلاج في الحلقة القادمة إن شاء الله بآلتفصيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كما للكون أسفار .. فللأرض أسفار أيضاً, و أوّل من أشار لها مجموعة من العلماء كآلشيخ الأكبر و الأنصاري و الشاه آبادي و غيرهم, ونشير هنا إلى أسفار العارف الحكيم العطار ألنيشابوري و هي سبعة : [ألطلب – العشق – المعرفة – التوحيد – الإستغناء – الحيرة – الفقر و الفناء].
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=4244(2)
(3) ألعلوم الغريبة كثيرة منها: علم الجفر ؛ علم السّيميا ؛ علم ألسّحر و قراءة المستقبل و غيرها.
(4) ألدّرجات أو المراتب العلميّة الكونيّة, هي كآلتالي : قارئ – مثقّف – مفكّر – فيلسوف – فيلسوف كونيّ – عارف حكيم.
https://www.noor-book.com/en/ebook-%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D9%87-(5)
%D8%AC%D9%84%D8%A7%D9%84-
%D8%A7%D9%84%D8%AF-%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1-%D9%88%D9%85%D9%8A-pdf
(6) ألمراتب الكونيّة للبشر بحسب الفلسفة الكونية هي: [(البشرية) وهي المرتبة الأولى , ثمّ (الأنسانية) و هي المرتبة الأرقى الثانية, ثم (آلآدميّة) و هي المرتبة العظيمة التي معها يحصل المخلوق الآدمي على درجة التواضع التي يستحق معها الخلافة الألهية. للتفاصيل راجع كتابنا:[أسفارٌ في أسرار الوجود] المُجلّد الرابع.
(7) سورة فصّلت / 53.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here