مَلَكَة السخرية الفطرية لشعبنا … من الفشل المؤسساتي الحكومي في إدارة ثروته النفطية؟!

أ. د. جواد كاظم لفته الكعبي
مَلَكَة السخرية الفطرية لشعبنا … من الفشل المؤسساتي الحكومي في إدارة ثروته النفطية؟!

على مدى العقود الستة الأخيرة من تاريخ صناعة النفط في بلادنا (1968-2020)، وشعبنا يشهد بألم وسخرية بالغة ظاهرة ضياع ثروته النفطية. وقد حفل قانون شركة النفط الوطنية العراقية رقم (4) لسنة 2018 بالكثير من مواطن الخلل المؤسساتية الدستورية والقانونية والتنظيمية المُسببة لضياع كبير مُحتمل لثروة الشعب النفطية، الأمر الذي حدا بالمحكمة الاتحادية العليا إلى عدّ بعض أحكامه بعدم الدستورية. وعلى ما يبدو من أحكام مشروع قانون التعديل الأول لقانون الشركة، الذي أقرته الحكومة وقدمته إلى مجلس النواب لتشريعه في 17/8/2020، سيتواصل هذا الضياع المُنظم والمُمنهج مؤسساتيا لسنوات طويلة قادمة.

أولا. عباءة وعمامة وربطة عنق … في إدارة ثروة الشعب النفطية:
لا تسري أحكام قانون شركة النفط الوطنية العراقية لسنة 2018 على أنشطة الصناعة النفطية في إقليم كردستان، إذ لا يوجد نصا واحدا في القانون يُشير إلى سريان فعل أحكامه على هذه الأنشطة، ولم يتضمن مشروع قانون التعديل الأول لقانون الشركة، إدراج حقول النفط والغاز في إقليم كردستان ضمن الولاية المؤسساتية القانونية الحاكمة للشركة، وهذه الولاية لم تتناولها أيضا قرارات المحكمة الاتحادية العليا في 23/1/2019، المتعلقة بالطعن بدستورية بعض أحكام قانون الشركة. تخيلوا معي خطورة وتناقض المشكلة من الناحية الدستورية والقانونية والتنظيمية لهذه الولاية:
مساس القانون وتعديله بالحقوق الدستورية للشعب العراقي في ملكيته للثروة النفطية … “النفط والغاز هو ملك الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات” (المادة 111).
شاركت كتل الأحزاب الكردستانية البرلمانية في صياغة أحكام القانون والتصويت عليه … وأحكامه لا تسري على “نفطهم!”.
وافق وزراء الإقليم على قرار مجلس الوزراء بتعديل القانون، وستشارك كتل الأحزاب الكردستانية البرلمانية في التصويت على التعديل … والتعديل لا يشمل “نفطهم!”.
يشغل “وكيل وزارة الثروات الطبيعية بالإقليم” عضوية مجلس إدارة الشركة، سواء في القانون الأصلي أم بعد تعديله … وهذا المجلس لا ولاية له على “نفط الوكيل الكردستاني!”.
تُذَكُرّني هذا “الولاية النفطية” بقصة “مسمار جحا”، عندما أراد بيع بيته، مُشترطا على المشتري السماح له بزيارة مسماره “المدقوق!” بقوة في الحائط متى شاء (للتأكد من عدم نزعه أو استخدامه من قبل المالكين الجُدد). ماذا كان يُعلق جحا على مسماره؟ أُخمن … أنها ثلاث قطع من الثياب:
العباءة السوداء للحكومة المستقيلة، التي لفت بها تشريع قانون الشركة!
العمامة الحمراء لحكومة كوردستان، التي شَرَّع بها قانونه للنفط والغاز عام 2007!
ربطة عنق الحكومة الحالية (لا أعرف لونها)، مُلقية بها على عنق قانون الشركة لتعديله!
… لا أدري الكيفية التي يستخدم بها الفرسان الثلاثة قطع ثيابهم المُعلقة على مسمار جحا (قانون الشركة)، ولكن الذي أدريه تماما أن هذه القطع … تخنق الشعب وتُدمر قُوّته اليومي والمستقبلي!

ثانيا. “تريد كيمياوي … أخذ كيمياوي، تريد طاقوي … أخذ كيمياوي”:
في جلسته المُنعقدة بتاريخ 17/8/2020، اتخذ مجلس الوزراء قرارا يتضمن: “الموافقة على مشروع قانون التعديل الأول لقانون شركة النفط الوطنية العراقية”، و”تكليف السيد وزير النفط الأستاذ (إحسان عبد الجبار إسماعيل) بمهمات رئيس شركة النفط الوطنية العراقية (إضافة لوظيفته)”.
في قانون الشركة رقم (4) لسنة 2018 المُراد تعديله، ومشروع قانون تعديله، نقرأ:
أ. “تتمتع الشركة بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري”، ومشروع التعديل لم يَمُسه.
ب. “يرأس الشركة من ذوي الخبرة والاختصاص في مجال الطاقة”، ومشروع التعديل لم يَمُسه.
ج. “يرأس رئيس الشركة مجلس إدارتها”، ومشروع التعديل لم يَمُسه.
يُثير قرار مجلس الوزراء تساؤلات مشروعة حول طريقة ودوافع تقسيم “الأرانب والغزلان النفطية!” بين الجماعات السياسية الحاكمة، تنتظر إجاباتها القانونية والتنظيمية، ومنها الآتية:
1. ما الذي يتبقى قانونيا وتنظيميا من استقلالية الشركة، عندما يكون وزير النفط رئيسا لها ورئيسا لمجلس إدارتها في الوقت نفسه؟ لقد حل الوزير محل الكيان المؤسساتي المستقل للشركة!
2. لا يتمتع الوزير الحالي بالاشتراطات القانونية لإشغال منصب رئاسة الشركة، كخبرة مهنية واختصاص علمي في مجال الطاقة، إذ أنه كيمياوي وليس طاقوي!
3. ولضمان حصول “الكيمياوي” على المنصب، جرى تعجيل التفاعلات الكيماوية النفطية بتعديل سنوات خدمة “الطاقوي” من (25) إلى (20) سنة لتتوافق مع سنوات خدمة الكيمياوي!
4. في القانون، يحق “للشركة الاقتراض من أي جهة داخل وخارج العراق لتمويل استثماراتها بموافقة مجلس الوزراء”، ولكن في التعديل جاء هذا الحق … من دون اشتراط موافقة مجلس الوزراء؟!
… يبدو أن جماعات الأرانب والغزلان النفطية الحاكمة “داخلين على طمع” … كما قالتها بثقة عالية بالنفس أم الخطيبة ذات الجسد المُكتنز، في مسرحية الفنان عادل أمام الشهيرة … “الزعيم”!

ثالثا. الحكومة تُتَوّج وزير النفط … ملكا على عرش مملكة الشعب النفطية:
قالت الحكومة لوزير النفط الحالي، بعد تعيينها له رئيسا لشركة النفط الوطنية العراقية ورئيسا لمجلس إدارتها، وإلغائها لنص المادتين (3، 4) من قانون الشركة، أنها ستضع في يده تعديلا قانونيا يُتيح له سلطات تنفيذية مُطلقة في إدارة ثروة الشعب النفطية … من دون أية مساءلة قانونية:
1. اغتصبنا من الشعب عرش “ملكيته للنفط”، ووضعناه فوق رأسك على سبيل الخصخصة.
2. سنجعلك خطابا أيديولوجيا لحقبة النفط القادمة: “أنت هدف الإدارة … والإدارة هدفها أنت”.
3. وضعنا لك هدف مزاوجة “الإدارة، والتطوير، والتشغيل”، لإجراء تجاربك المختبرية الناجحة.
4. سمحنا لك الخلط الكيمياوي بين “الأهداف ووسائل تحقيقها” في مختبرك النفطي الجديد.
5. أبعدنا عن جلالتك وجع رأس تحقيق هدف “الاستغلال الأفضل للثروة النفطية والغازية”.
6. حررناك يا مليكنا من عبودية “الاستثمار في الصناعة التحويلية النفطية والغازية”.
7. أعفيناك من قيود استخدام “الأسس الفنية والاقتصادية” في إدارتك الحكيمة للأنشطة النفطية.
8. حذفنا من جدول أعمالك الملكي المُزدحم الالتزام بــ “ضمان أعلى العوائد وأدنى التكاليف”.
9. سمحنا لك أيها المُفدى بخرق المعيار الدستوري “أعلى منفعة للشعب العراقي” من نشاطك.
10. يُمكنك يا معبودنا “الاقتراض” والتصرف بالقروض كما تشاء من دون موافقتنا وعلمنا.
… “وصار البيت لمطيره … وطارت بيه فرد طيره”!

رابعا. النائب الأول لرئيس الشركة … ضائع الشخصية والهوية والوظيفة التنظيمية:
في مشروع قانون التعديل الأول لقانون شركة النفط الوطنية العراقية، مَسَّت تعديلاته شخص النائب الأول لرئيس الشركة، ولم يكن هذا المساس موفقا من ناحية الشكل والمضمون والموقع في الهيكل التنظيمي للشركة:
1. الشكل التنظيمي. في نص التعديل، نرصد عدم الدقة التعبيرية اللغوية والتنظيمية لحالتين:
للنائب الأول خبرتان، الخبرة الأولى في مجال الصناعة الاستخراجية (غير محددة المدة)، والخبرة الثانية غير معروفة (ولكن معروفة مدتها – لا تقل عن 20 عاما)!
للنائب الأول وظيفتان، الوظيفة الأولى غير معروفة، والوظيفة الثانية “… وكذلك ويشرف على الشؤون الفنية للشركة”!
2. المضمون التنظيمي. في نص التعديل (وكذلك في القانون):
لا يؤدي النائب الأول أية وظيفة إدارية أساسية أو مشتقة (باستثناء وظيفة الإشراف)، وهذا يعني أنه لا يمتلك الحق القانوني والتنظيمي في اتخاذ القرارات الإدارية!
تم اقتطاع إشراف النائب الأول “على الشؤون التعاقدية والاقتصادية”، وأبقوا له فقط “الإشراف على الشؤون الفنية للشركة”!
وبما أن النائب الثاني قد احتفظ بإشرافه “على الشؤون الإدارية والمالية والقانونية للشركة”، فليس معروفا من التعديل من سيشرف “على الشؤون التعاقدية والاقتصادية”، إذا علمنا أن رئيس الشركة بموجب التعديل قد فقد “الإشراف على رسم وتنفيذ سياسة الشركة وعملياتها”؟
3. الموقع في الهيكل التنظيمي. في نص التعديل والقانون، نرصد التداخل والتزاحم والتنافس التنظيمي في أداء الوكيلين الآتيين لصلاحياتهما وسلطاتهما وحقوقهما ومسؤولياتهما:
النائب الأول: المدير التنفيذي وعضو مجلس الإدارة “بدرجة وكيل وزير”.
عضو مجلس الإدارة: “وكيل وزارة النفط لشؤون الاستخراج”.
… هناك أغنية عاطفية قديمة بصوت نسائي شَجّي: “يا يمه ضيعت الدرب … ياهو اللي يدليني”!

خامسا. تفكيك وزارة النفط … وإلغاء الدولة … وتدعيم عرش معبد رئيس الشركة:
بعد أن ألحق قانون شركة النفط الوطنية العراقية لسنة 2018 جميع شركات وزارة النفط بهيكل الشركة، سيقود مشروع تعديل القانون إلى المزيد من تفكيك هيكل وزارة النفط، وإلغاء دور الدولة، وتدعيم هيكل الشركة:
1. تفكيك وإلغاء معبد النفط. أضاف التعديل “دائرة العقود والتراخيص البترولية” و”دائرة المكامن وتطوير الحقول”، وهما من دوائر وزارة النفط، إلى الشركات المملوكة للشركة:
على وفق أي معيار سيجري تفكيك وإضافة “تقسيمات تنظيمية” قادمة من هيكل مؤسساتي حكومي إلى “كيانات إنتاجية وخدمية تشغيلية” كما هو حال الشركات المملوكة للشركة؟
إن فك ارتباط “دائرة العقود والتراخيص البترولية” من الوزارة وإلحاقها بالشركة، سيعني نقل نشاطها في إبرام وتنفيذ ورقابة عقود التراخيص النفطية من دائرة الفعل السياسي المؤسساتي الحكومي المباشر إلى دائرة نشاط شركة إنتاجية مُشغّلة، وهو أمر يقود إلى فقدان الدولة لإدارتها وسيطرتها المباشرة على معبد النفط!
2. تدعيم عرش معبد رئيس النفط. لم تَمُس التعديلات حالة بقاء (سومو) ضمن الارتباط التنظيمي للشركات المملوكة للشركة، على وفق ما يفرضه الالتزام بقرار المحكمة الاتحادية العليا بتاريخ 23/1/2019، القاضي ببقاء (سومو) ضمن كيان وزارة النفط. في وقت نظر المحكمة بدستورية قانون الشركة، قاتلت الوزارة من أجل إبقاء (سومو) ضمن صفوفها وانتصرت، ولكن عندما قررت الحكومة تعيين وزير نفطها الحالي رئيسا للشركة، غضت النظر عن ذلك، لتبقى جوهرة معبد النفط العراقي (سومو) ضمن تاج عرش رئيس شركة النفط الوطنية العراقية!
… (“يا مسعده والكاعده على عرش معبد النفط: منين ما ملتي … غرفتي”) … حتى ولو كان ذلك بثمن تهديم هيكل المعبد على رؤوس أهل النفط وكهنته؟!

سادسا. الباحثون عن الملاذ البديل – “فنون الشطارة … في جنون الوزارة”:
في السنتين الأخيرتين 2018-2020، أصاب الجنون الحكومة: واحدة استقالت بأمر الشعب، والثانية أتت بأمر نواب الشعب، والثالثة ربما ستأتي قريبا ولا أحد يعلم من سيأمُر بها. وفي هذه الحكومات، يبحث قادة وزارة النفط بهمة عالية وبأدوات شطارة مُبتكرة وعجيبة وخطيرة عن ملاذ بديل لهم في قانون شركة النفط الوطنية العراقية (الشركة) وتعديله المُرتقب:
1. فككوا شركات وزارة النفط وألحقوها بهيكل الشركة.
2. جرت محاولة لتعيين وزير النفط الأسبق رئيسا للشركة، لكنها باءت بالفشل.
3. ادعّوا أن قانون الشركة يعاني من بعض الثغرات الطفيفة.
4. جمّدوا العمل بقانون الشركة.
5. لَبّت المحكمة طلبهم بإخراج شركة تسويق النفط من هيكل الشركة وإبقاءها ضمن هيكل الوزارة.
6. أجروا تعديلا على قانون الشركة، وأبقوا شركة تسويق النفط ضمن هيكلها.
7. طلبوا في تعديلهم لقانون الشركة فك ارتباط بعض دوائر وزارة النفط وإلحاقها بهيكل الشركة.
8. عيّنوا وزير النفط الحالي رئيسا للشركة إضافة لوظيفته.
9. يُمكن للحكومة الحالية ركوب موجة الجنون السياسي السائد في حالتين تنظيميتين مُحتملتين:
تفكيك ما تبقى من هيكل لوزارة النفط وإلحاقه بهيكل الشركة للحاق وزيرها الشاطر!
أو فتح نافذة الكترونية لتلقي طلبات الترشيح لمنصب وزير نفط راشد!
… في زمن الجنون المُطبق لا توجد ملاذات بديلة، لأن الجنون ينفي إرادة وحرية وهدفية الاختيار!

سابعا. مساحي بيد من يستحقونها … لحفر آبارهم النفطية:
على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، كتبت كثيرا عن ما تحمله أحكام قانون شركة النفط الوطنية العراقية لسنة 2018 من أدوات تهديم لصناعتنا النفطية، يضعها بيد من سيُفسرها وسيستخدمها لصالح منافع حزبية أو فئوية أو مناطقية ضيقة، عن طريق عملية “خصخصة مُبطنة” لثروة الشعب النفطية. لقد تجاهلت الحكومة المستقيلة ذلك، وزادت عليها الحكومة الحالية بتقديمها مشروع قانون التعديل الأول لقانون الشركة، يتجاهل ليس فقط ما كتبته وما كتبه غيري، ولكنه أيضا يضرب بعرض الحائط قرارات المحكمة الاتحادية العليا بشأن دستورية هذا القانون.
ليس لنا من سبيل، نحن الباحثون في شؤون إدارة ثروتنا النفطية، سوى التنبيه من المخاطر والاقتراح في المنابر ووسائل النشر المُتاحة لنا، واليوم أتوجه بمقترحين عمليين إلى اللجنة العليا لمكافحة الفساد، التي أنشأتها مؤخرا الحكومة الحالية، بشأن مخاطر القانون ومشروع تعديله:
1. تُخصص اللجنة جزءا من عملها للكشف عن مواطن الفساد الدستوري والقانوني والتنظيمي المُحتمل في قانون الشركة ومشروع قانون تعديله، للحيلولة دون وقوع الفساد مستقبلا.
2. بعد تحقق اللجنة من وجود مواطن الفساد المذكورة، تتحرى عن الأشخاص المُتسببة في نشؤها، وتقديمهم للمحاكمة، وإذا ثَبُتَ للمحكمة تورطهم في الجُرم، من جانبي أقترح عليها فرض العقوبة الآتية عليهم: إعطاء كل واحد منهم مسحاة ليقوموا بحفر آبارهم النفطية بأنفسهم وعلى سبيل الخصخصة لهم ولذريتهم. من فوائد هذا المقترح، الثلاث الآتية:
أ. سيضمن انشغالهم الشديد بالحفر، عدم توفر الوقت الكافي لهم للتآمر على ثروة الشعب النفطية.
ب. ستضمن البلاد زيادة إنتاجها النفطي من الجهد الوطني.
ج. ستضمن البلاد تخفيض تبعيتها لجهد عقود جولات التراخيص النفطية.
… وحسنا ستفعل المحكمة لو وضعت بيد كل عراقي مسحاة … قائلة له: أحفر بئرك النفطية لحسابك الخاص فهي ثروتك، وليست فقط ثروة من يتحكم برقبتها فسادا!
……………………………………………………………………………………
د. جواد الكعبي، تشرين الأول 2020
[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here