علاء كرم الله
لازال العراقيين تحديدا والعرب عامة يحنون الى الزمن الجميل الذي طالما يتذكرونه في محاولة للهروب من واقعهم المر الذي هم فيه، كأنهم يأخذون جرعة أفيون لينسوا بها أوجاعم وآلامهم ولو لساعات!. ومثلما لكل زمان دولة ورجال فأن لكل زمان جيله ، وشاءت الأقدار وظروف الحياة أن تجعل من جيل الخمسينات والستينات عنوانا كبيرا لما يسمى بالزمن الجميل، الذي أدمن العراقيين على الحنين أليه والحديث عنه ليتذكروا به حياتهم البسيطة الجميلة بكل ما تحمل من براءة وطيبة وسلام ومحبة. فالواقع المأزوم بكل صور المآسي والآلام الذي يعيشه العراقيين اليوم، هو الذي يدفع الكثيرين منهم بالعودة الى الماضي الى الزمن الذي أسموه بالزمن الجميل!. وينظر الى هذا الجيل من خلال هذا العنوان الذي يحمل الكثير الكثير من المعاني الراقية والمتحضرة والقيم والمباديء السامية. وحقيقة أرى وانا ابن هذا الجيل بأن هذا الجيل يمثل بيضة القبان!، بين الأجيال التي سبقته وبين الأجيال اللاحقة من بعده ، ومن مفارقات هذا الجيل أيضا أنه يعتبر الجسر الرابط بين ماضي جميل زاه في كل شيء وبين حاضرمؤلم في كل شيء!. ومثلما عاش أبناء هذا الجيل جمال الحياة بكل معانيها وصفائها وحلوها وتألقها فهم أيضا ذاقوا وعاشوا مرارتها أيضا حيث كان رجال هذا الجيل اليد والقوة الضاربة للدولة في كل حروبها التي خاضتها منذ عام 1980 ولحين حرب أحتلال الأمريكان للعراق عام 2003!. وهنا لا بد من الأشارة بأن فترة الخمسينات والستينات وبعدها فترة السبعينات هي في الحقيقة فترة الزمن الجميل على مستوى العالم! رغم الأحداث الكبيرة التي كان يعيشها العالم آنذاك، وذلك لوجود الأتحاد السوفيتي بقوته وهيبة قادته ورجاله حيث كان يمثل صمام الأمان للعالم!، الأتحاد السوفيتي المعروف بدعمه لكل حركات التحرر في العالم، ولكل تطلعات وثورات الشعوب المناضلة من أجل حريتها وكرامتها، وليكبح جماح أمريكا العدوانية في التدخل في شؤون دول العالم وبوقوفه ندا لها، فأمريكا وكما معروف تمثل عنوان للأمبريالية العالمية ولكل عناوين الشر والتطرف والعنجهية والغطرسة ومحاولة السيطرة على العالم. ولكن ومع الأسف حدث ما كان يخافه العالم والشعوب الفقيرة والمضطهدة عندما أنهار الأتحاد السوفيتي نهاية ثمانينات القرن الماضي فتسيدت أمريكا العالم كله وبذلك (أنتهى الزمن الجميل) وبدأ زمن أمريكا زمن البلطجة زمن الهم والخوف والقلق والتآمر على الشعوب زمن الحروب وأثارة القلاقل والفتن الطائفية، فبدأت امريكا بتوزيع شرورها على هذه الدولة وعلى تلك. أن الزمن الجميل الذي أتكلم عنه كان عالميا وليس عراقيا فحسب، فكل شيء كان جميلا في عراقنا في ذلك الوقت حتى الصراع بين الأحزاب السياسية الريادية ( الشيوعي وحزب البعث ) كان جميلا!. كانت الجياة السياسية رغم مكائدها وصراعاتها جميلة! وهكذا بالنسبة الى بقية الأوضاع والحياة الأجتماعية والأقتصادية ، كان المجتمع العراقي جميلا في كل شيء وحتى التفاوت الطبقي والأجتماعي فيه جميلا ومقبولا!. أن جيل الخمسينات والستينات حقا هو جيل الزمن الجميل، هو هكذا بشهادة الأجيال التي جاءت بعده ، فهو جيل الكبار والهيبة جيل الثورة والتقدم والبناء، جيل الأمة العربية وتقدمها ونهوضها على كل المستويات السياسية والأجتماعية والأقتصادية والثقافية. هذا الجيل الذي مثلما تربى على لغة الحب الدافيء وعلى الرومانسيات الجميلة والرقة والتهذيب والعواطف الصادقة من خلال أغاني (أم كلثوم وعبد الحليم وفريد الأطرش وعبد الوهاب، وتربى على أشعار الجواهري ونزار قباني والسياب وعبد الرزاق عبد الواحد وعبد الوهاب البياتي، ونازك الملائكة وأشعار مظفر النواب)، فأبناء هذا الجيل، تناغموا أيضا وعشقوا ورددوا وتأثروا الى حد كبير بالأغاني الثورية الصادقة التي تتغنى بقضايا الشعوب وقضايا الأمة العربية وقضية فلسطين مثل أغاني ( ثوار ثوار، وأغنية أصبح عندي الآن بندقية الى فلسطين خذوني معكم لأم كلثوم، واوبريت الوطن الأكبر لعبد الوهاب وغيرها الكثير من الأغاني الوطنية والثورية)، كما عاش هذا الجيل وتربى على أفلام الجمال والعشق الروحي والحب المهذب والتضحية كما في أفلام (مريم فخر الدين وعبد الحليم حافظ ونادية لطفي وزبيدة ثروت وعمر الشريف وفاتن حمامة وأحمد رمزي ورشدي أباظة و نور الشريف ومحمود عبد العزيز وأنتهاء بآخرالراحلين من هؤلاء الكبار الفنان المبدع محمود ياسين). حيث كانت هذه الأسماء الفنية الكبيرة تمثل أجمل أنشودة للحياة بأجمل أنغامها وبأبهى صور الرومانسية والحب والرقي الأنساني والوجداني. فقد كان هذا الجيل يرى صورته وتألقه وجماله، في صور عمرالشريف ونور الشريف ومحمود ياسين وحسين فهمي وهم في قمة تألقهم! وشبابهم وعطائهم ورقيهم الفني والأخلاقي الكبير. فقد كان صوت عبد الحليم وأم كلثوم يشيع فيهم دفء الحب الصادق النقي الطاهر، حب ودفء لم ولن تعرفه الأجيال من قبل ومن بعد!. كما كانت خطابات وصوت الزعيم جمال تثير فيهم روح العروبة والقومية. حقيقة أن جيل الخمسينات والستينات هو جيل الأصالة والعلم والمعرفة فكل القامات العلمية والأدبية والثقافية والفنية الكبيرة وبمختاف الفنون والأداب وباقي العلوم الأخرى كانت من أبناء هذا الجيل. ومن الطبيعي لم يبق من أبناء هذا الجيل ألا أعداد قليلة ممن أسعفهم الحظ ومشيئة الله أن يبقوا على قيد الحياة!، فغالبية أبناء هذا الجيل غابوا وتوفوا بسبب الحروب والأعتقالات والأغتيالات والتغييب القسري والأمراض وتقدم العمر والتشرد في بلاد المهجر وغيرها من الظروف الطبيعية وغير الطبيعية التي قضت على هذا الجيل الذهبي!. أخيرا نقول، ان أنقراض هذا الجيل في العراق صحيح أنه سوف لن يؤدي الى توقف الحياة، ولكنه بالتأكيد سيؤدي الى محوا كل ذكريات الزمن الجميل لكون أبناء هذا الجيل يمثلون صدى ذلك الزمن الذي ذهب ولن يعود ولن يتكرر بكل تفاصيله!.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط