حوارات في الترجمة : التنظير للترجمة مع سوزان باسنيت

حوارات في الترجمة : التنظير للترجمة مع سوزان باسنيت

ترجمة: ا.د. كاظم خلف العلي
استاذ اللسانيات و الترجمة
كلية الآداب – جامعة البصرة
[email protected]

يمكن وصف سوزان باسنيت التي لديها أكثر من عشرين كتابا بصورة مناسبة بأنها ملكة عرش دراسات الترجمة. و من بين مجموعة أعمالها أصبح كتابها “دراسات الترجمة Translation Studies” بطبعة 2002 نصا لا يمكن الاستغناء عنه في مقررات الترجمة في جميع أنحاء العالم. و باسنيت هي أستاذة الأدب المقارن في جامعة ووروك ، و هي أيضا زميل في الجمعية الملكية للأدب ، و هي الجمعية الأدبية الرئيسة في المملكة المتحدة. و فضلا عن كونها أكاديمية في اختصاص الترجمة فباسنيت هي أيضا شاعرة و ناقدة ثقافية. و في 2002 أطلقت كتابها المميز “مقايضة الحيوات: قصائد و ترجمات Exchanging Lives: Poems and Translations” حيث دخلت فيه “بمحاورة” مع اليخاندرا بزارنك Alejandra Pizarnik بوضع قصائدها الشخصية جنبا إلى جنب مع ترجماتها للشاعرة الأرجنتينية المرحومة. و تشير باسنيت بذلك للعالم على أنها ليست مترجمة فقط بل هي في الحقيقة مؤلف مشارك. و مقايضة الحيوات هو نتيجة فقط للعديد من مشاركاتها البحثية التي تمثل مسيرة باسنيت. و حررت باسنيت في 1998 أيضا كتاب “الترجمة ما بعد استعمارية : النظرية و التطبيق “Post-colonial Translation: Theory and Practice مع الناقد الهندي هاريش ترايفيدي Harish Trivedi و فيما بعد في 2006 “المترجم بوصفه كاتبا The Translator as a Writer” مع الفائز بالجائزة المترجم البريطاني بيتر بش Peter Bush. و عملت باسنيت أيضا على كتابين مع المرحوم المنظر الترجمي أندريه لوفيفر Andre Lefevere و هو أحد أساطين حقل الترجمة. و من بين الأشياء التي تسري في خطابها رؤيتها إلى الترجمة على أنها فعل عظيم يمكن أن يتلاعب بـــ (الآخرين) مثلما يمكن أن يحررهم. و تتكلم في كتابها مع ترايفيدي عن نظرية “الوحوشية Cannibalisation” للترجمة ما بعد استعمارية حيث يتم “التهام” النص الأصلي من قبل المترجم أو المترجمة الذي ينتج نصه أو تنتج نصها بديلا عنه. و كان هذا توسعة لوجهة نظر قدمتها باكرا في 1998 مع لوفيفر في كتابهما ” بناء الثقافات: مقالات في الترجمة الأدبية Constructing Cultures: Essays on Literary Translation” مفادها أن المترجمين يحوزون على اهتمام أعظم من قبل القراء بوصفهم وكلاء منظورين في عملية أنتاج النصوص. و بالرغم من شهرتها في الميدان فإن باسنيت التي أعرفها بوصفها مشرفتي الأكاديمية هي شخص غير بعيد عن مشاغل الأنسان العادي . و في ربيع 2010 عندما حاورتها أول مرة من أجل نشرة إذاعية بعنوان “المعتقدات بوصفها سرديات Faiths as Narratives” تشير باسنيت إلى حالة أب مكلوم قتلت أبنته قبل سنين. و تقتبس هذه الحالة لتبين كيف أن الأدب و الدين يمكن أن يجتمعا سوية لتخفيف ألم الأنسان العادي. و تلاحظ باسنيت أن “ما يقوم به الشعر، و أفترض أن ما يقوم به النثر الجيد كذلك ، يكمن في التشكيل shaping. و الصلاة تدور حول التشكيل أيضا، فأنت تشكل هذه المشاعر مهما كانت و أنت تشكلها إلى شيء ما ” .و المحاور نزري بهراوي هو طالب دكتوراه بقسم اللغة الإنكليزية و الدراسات الأدبية المقارنة بجامعة ووروك و تشرف سوزان باسنيت على أطروحته.
بهراوي: الترجمة فعل تقني بالنسبة لغير المتمرس. و هذا هو ما أستنتجه من حوارات متعددة مع الأصدقاء و المعارف حول القهوة أثناء الغداء، بل و في التجمعأت الأكاديمية . و بالنتيجة فهي فعل، عندما يتجلى كمنهج أكاديمي، لابد من تعيينه كعلم تطبيقي. إن التصديق بوجهة النظر هذه تمثل حقيقة أننا نعيش في عالم رأسمالي حيث ينظر لفعل الترجمة بوصفه وسيلة لجني الأرباح. فنحن نتعلم مهارة ، و ليس فلسفة. كيف تستجيبين لهذا المنظور الشائع نوعا ما بوصفك باحثة مميزة في دراسات الترجمة؟
باسنيت: أنت على صواب بصورة مطلقة عندما تقول أنه بالنسبة للناس غير المرتبطين بالترجمة تبدو الترجمة على أنها شيء تقني. هناك وجهة نظر شائعة بشكل كبير بأن أي شيء يقال أو يكتب بلغة ما يمكن نقله بسهولة إلى لغة أخرى. و بالنسبة للناس الذين لا يشتركون بالحركة بين اللغات يستطيعون، و أفترض ذلك بمنطقية جدا، ألا يروا سببا لوجود أية صعوبة في نقل الأفكار و الحقائق إلى لغات أخرى. و غالبا ما تمسكت بوجهة النظر التي يقدمها إدوارد سابير Edward Sapir بأن اللغات المختلفة تمثل وجهات نظر مختلفة عن العالم، و أن الأمر ليس قضية تتعلق بإعادة الصياغة عندما ينتقل أحدهم إلى لغة أخرى فحسب، بل إعادة تشكيل و التي تعني إعادة التفكير. و أبسط مثال يمكنني تقديمه هو المثال الأوضح للصيغ المختلفة و المقبولة كلية للبلاغة السياسية السائدة في ثقافات مختلفة. فلو نظرنا إلى نوع البلاغة القادمة من ليبيا التي هي حاليا في حالة نزاع فإننا سنرى أن العرف يقضي باستخدام ما يعرف في الإنكليزية بالمبالغ به جدا hyperbolic حتى ليبدو أنه تافه. إن العرف الإنكليزي البريطاني في ألقاء الخطب هو التواضع بالقول understatement. و لذلك عندما يكون لديك نظام يستخدم المغالاة بالقول hyperbole / overstatement و نظام يستخدم التواضع بالقول فمن الجلي أن الترجمة المباشرة للخطابات التي تقوم بها شخصيات سياسية مختلفة في تلك الثقافات لابد من أن تقدم لنا المشاكل. لقد كتبت في مكان آخر عن صعوبة ترجمة الخطابات المبالغ بها بصيغة مقبولة في الإنكليزية و بالمقابل الترجمة السيئة جدا للتواضع الإنكليزي في ثقافات لا تقيم التواضع إطلاقا. و ما هو واضح جدا بالنسبة لي بعد سنوات من العمل في جوانب مختلفة من الترجمة هو أنها فعالية معقدة جدا و تتطلب مهارات مختلفة طبقا لأنواع مختلفة من النصوص. فلو أن أحدهم يترجم وثيقة تقنية أو وثيقة قانونية أو كتيب تشغيل جهاز ما فإن الدقة تصبح جوهرية و يصبح جوهريا أيضا أن النص يجب أن يعاد تشكيله طبقا لأعراف الثقافة الهدف. إن الكثير مما كتب عن الترجمة مع انه لا يعني النصوص التقنية بل الأدبية و هو في الحقيقة المكان حيث حصل معظم التنظير و حيث تكمن معظم المشاكل. و لذلك فإنني أود القول نعم، الترجمة مهارة و إن ترجمة الكثير من انواع النصوص يمكن أن تدرس و هي حقا تدرس و تنفذ بصورة فاعلة. لكننا حين نأتي إلى ترجمة النصوص الأدبية فإنها ليست بمهارة. هنا تصبح الترجمة إعادة كتابة بصورة فاعلة.
بهراوي: هناك تراث غني من التنظير عن الترجمة في معظم الثقافات . و ربما يستشهد بعضهم في أوربا بأمثال فالتر بنجامن Walter Benjamin بينما يستطيع اليابانيون أن يشيروا إلى نوغامي تويوأجيرو Nogami Toyoichiro . إذا أمكن توصيف الترجمة إطلاقا على أنها مشروع فلسفي، فما الذي يمكن أن تقدمه للعالم الأوسع؟
باسنيت: يعنى التراث الغني بتنظير الترجمة أساسا بالنصوص الأدبية و الفلسفية. و النصوص التي ينظر لها على أنها قيمة ، ليس لأي غرض تجاري بل لأغراض جمالية و أخلاقية، تتطلب عناية عظيمة في عملية الترجمة. و مرة ثانية و حول العالم و خلال الألفية نجد منظري ترجمات يؤكدون على حاجة المترجمين لأن يكونوا واعين بتعدد الوجوه و الطبقات لما يقومون بترجمته. إن المفهوم الغربي للكلمة مقابل كلمة (word for word) بالضد من المعنى مقابل المعنى (sense for sense) كان موجودا لأكثر من ألفي سنة و لا زال موجودا في أنظمة ثقافية أخرى أيضا. أنت تطرح السؤال عما تستطيع الترجمة كمشروع فلسفي أن تقدمه للعالم الأوسع. و وجهة نظري أنها تستطيع أن تقدم الآتي:
اعتراف بأن الأفكار عن الجمال يمكن نقلها عبر الزمان و المكان لكن أن مثل هذه الأفكار تتغير أيضا.
إن الترجمة تمكننا لكي يكون لدينا مدخل للعمل الذي من دونه لا نكون قادرين مطلقا على مواجهته.
إن الترجمة تمكن كتابة الشخصيات العظيمة من الماضي من البقاء و الأستمرار في أن تقرأ من قبل الأجيال اللاحقة.
و فوق هذا كله، فما أعتقد أن التنظير عن الترجمة يقوم به هو أنه يجعلنا واعين بالأبعاد السرية لما نقرأه. و هذا واضح بصورة جلية في حالة ترجمة النصوص المقدسة و سأعطيك مثالا واحدا فقط: في الليلة السابقة قرأت نسختين من نصوص مقدسة لمترجمين أثنين من أزمان مختلفة (أحدهما كان من القرن السادس عشر و الآخر من القرن العشرين) و وجدت نفسي مندهشة بالاختلافات ليس بسبب المنظور فقط و إنما بالمعتقد أيضا الذي دشنه اختيار المترجمين للكلمات.
يهراوي: بوصفك باحثة في الترجمة، قمت ببعض الجمل التحريضية. و ما صدمني كطالب أدب مقارن كان عندما أشرت إلى أن حقل الأدب المقارن “أنتهى زمنه” (ص 161) في كتابك “الأدب المقارن: مقدمة نقدية Comparative Literature: A Critical Introduction و الذي نشر في 1993. “ينبغي علينا أن ننظر اليوم إلى دراسات الترجمة على أنها المنهج الرئيس من الآن فصاعدا و أن الأدب المقارن هو حقل موضوع ثانوي قيم” (المصدر ذاته). و بعد أكثر من عقد ذكرت في مقالتك “تأملات في الأدب المقارن في القرن الحادي و العشرين Reflections on Comparative Literature in the Twenty-First Century المنشورة في 2006 أن هذه الملاحظة الأولية كانت معابة بصورة جوهرية. و في تلك المقالة جادلت بدلا من ذلك بوجوب النظر إلى الأدب المقارن و دراسات الترجمة على أنهما طريقتان للاقتراب من الأدب. و لدي سؤالان يتعلقان بذلك. أولا ، هل يمكنك أن تصفي لنا الأسباب وراء تغير وجهات نظرك؟ و ثانيا، هل تقولين الآن أن وجهات نظرك عن الأدب المقارن و دراسات الترجمة قد عدلت أكثر أخذين بعين الاعتبار قدوم الأدب العالمي كمنهج أكاديمي؟
باسنيت: أرحب بهذين السؤالين إذ أنه من المهم أن نعيد النظر بمسيرة المرء و أن نتأمل بأن الأفكار يمكن أن تتغير. عندما كتبت كتابي عن الأدب المقارن الذي نشر في 1993 رأيت نفسي كثيرا جدا كما لو أنني لا أزال أناقش الحالة بالنسبة لدراسات الترجمة التي كانت تمثل العلاقة السيئة للأدب المقارن. و رأيت أيضا الأدب المقارن على أنه قلق بصورة عميقة و حقيقة احتضنت غياتري سبيفاك Gayatri Spivak فيما بعد القضية ذاتها في مقالاتها المجموعة بكتابها “موت منهج ” The Death of a Discipline الصادر في 2003. و ما أردت القيام به في ذلك الكتاب كان أولا و قبل كل شيء الإتيان بالدراسات الما بعد استعمارية سوية لأن الأثنين بدا كما لو كانا ذاهبين بصورة عبثية في اتجاهين مختلفين و أردت أيضا أن أؤكد أهمية دراسات الترجمة التي أنزلت سابقا إلى الهامش في الأدب المقارن. و كان نموذجي يتمثل في الاقتراح قبل عقد أو قبل ذلك أنه بدلا من النظر إلى السيميائية على أنها من فروع اللسانيات فإنه يجب النظر للسانيات على أنها من فروع السيميائية. و لذلك اقترحت أن تكون دراسات الترجمة هي المنهج الشامل و يكون الأدب المقارن خطا من خطوط البحث ضمنها. و عدت لأغير رأيي لأنني شعرت أن دراسات الترجمة لم تمض قدما معرفيا بمنظور تنظيرها بالسرعة التي أبتدأ بها الأدب المقارن حالما أرتبط بالما بعد استعماري و بقضايا العولمة . و أعتقد اليوم أن الأدب المقارن يعيد صناعة نفسه و أن تطور الأدب العالمي هو من الواضح شيء أرحب به. و أعتقد أيضا أن كان هناك الكثير من التفكير المتقن جدا حول الترجمة قام به المنظرون الأدبيون بحيث أنه و للمفارقة يتخذ مسارات جديدة حتى أن بعضهم يعرفون أنفسهم على أنهم باحثين في دراسات الترجمة كانوا خوافين جدا من استكشافها. و يكمن الجدل بأن النجاح المحض لدراسات الترجمة كموضوع في الجامعات حول العالم ( و هو نجاح ربما تكون له علاقة بالطلبة الذين يأملون أن يكتسبوا مهارات تقنية تساعدهم في الحصول على أعمال أفضل) أفضى إلى ندرة الأفكار الجديدة عن الترجمة. ذلك التفكير الجديد، كما يبدو لي، يأتي ضمن الأدب العالمي على وجه الخصوص في الوقت الحاضر.
بهراوي: هناك خيط شائع يسري في كتاباتك فكرته أن الترجمة يندر أن تكون فعلا غير مرئي، و بدلا من ذلك فهي مغطاة بالقوة و السياسة. إذ كنت أستطيع أن أستشهد بسطر من كتاب آخر لك هو “المترجم بوصفه كاتبا” الصادر في 2006 و الذي قمت بتأليفه مع بيتر بش تدعين أن قراء الأعمال المترجمة يجب أن “يدركوا أن الترجمة فن يجب الاحتفاء به ، لا أن يتم إخفاؤه”. و ربما يفسربعض المترجمين هذا على أنه تشجيع لهم لإهمال الأصل ، بل و حتى “وحشنته / التهامه cannibalise it” لجعله نصهم – و هي فكرة تناولتها في كتابك “الترجمة ما بعد استعمارية: النظرية و التطبيق” الصادر في 1999. فهل هم على صواب بافتراض ذلك؟
باسنيت: هذا سؤال صعب جدا. و هو سؤال شغل منظري الترجمة منذ بداية الترجمة و سيستمر في إشغالهم لأنه سؤال ينطوي على مسؤولية المترجم. أساسا تقع على المترجم مسؤولية مزدوجة: أمام النص الأصلي الذي يسعى أو تسعى لترجمته و من هنا مسؤوليته إزاء المؤلف و القراء. و وجهة نظري هي أن الواجب الأساس للمترجم هو خلق نص في اللغة الهدف يمكن تقييمه من قبل القراء و يبين في الوقت عينه الاحترام للمصدر. لكن كيفية تفسير الاحترام يمثل السؤال الشيق. أنا لا أرى أن على المترجم أن يتبع الأصل بصورة صاغرة. حقا، أنا أؤمن أن واجب المترجم / المترجمة هو أن يعيد كتابة و يعيد رسم سياق مهما كان يترجمه أو تترجمه. لقد كتبت مقالة للتو أجادل فيها أن سونيتة كتبها الشاعر الايرلندي مايكل لونغلي Michael Longley و رواية كتبها الكاتب الأسترالي ديفيد مالوف David Malouf يمكن النظر إليهما على أنهما “ترجمات” للكتاب الرابع و العشرين لإلياذة هوميروس. و بوضوح فإن لا أحد منهما هو ترجمة حرفية و لا يحاول أيا منهما فعلا أن يتبع بنية الأصل ، لكنني أنظر لكلا العملين ، كل من القصيدة و الرواية، كترجمتين لأن لا أحد منهما كان يمكن أن يكتب من دون هوميروس في المقام الأول. قد يتباعدان عن الأصل بصورة معتبرة، و قد يعتبران، إن رغبت بذلك، عملين وحوشيين، لكن إن فكرنا بالترجمة كإعادة ترجمة بنية خلق شيء جميل و جدير بالأصل فإن كلا من لونغلي و مالوف من ثم يقومان بالشيء ذاته.
بهراوي: يؤمن الكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو Ngugi wa Thiong’o أن التحدث بلغة المستعمر يجعل المرء يفكر مثل رجل أبيض. و هذا الاعتقاد هو ما جعله ينتقل من كتابة الروايات بالإنكليزية إلى كتابتها بلغته الأم الغيكويو Gikuyu. هل تؤمنين أن اللغات تحمل داخلها قيما خاصة بحضارة ما بحيث أن بعض التجارب غير قابلة للترجمة؟

باسنيت: أفهم كلية القضايا هنا حول مشكلة القوة غير المتكافئة للغات. و جزء من الصعوبة التي كان الكتاب الأفارقة يناضلون من أجلها ليس فقط قضية هيمنة لغات المستعمرين من منظور الاستعمال بل الهيمنة من منظور دور النشر و تسويق الكتب و الاقتصاد عموما. لقد كتب الكثير من الكتاب الأفارقة بطرق نيرة عن هذه المعضلة. أما فيما يتعلق بكون اللغات تحمل داخلها قيما خاصة بحضارة ما، إذن نعم أعتقد ذلك. اللغات تتطور عبر الزمن. و الكلمات تكتسب مضامين. الكتاب و القصاصون يأتون بعبارات و طرق جديدة الى لغة ما و إلى أذهان الناس الذين يستخدمون تلك اللغة. و يتبع ذلك على هذا الأساس أن تكون هناك بضعة نصوص متعلقة بتجارب محددة غير قابلة للترجمة من حيث أن لها القليل من المضامين او لا مضامين خارج سياقها الأصلي.
بهراوي: عندما يتعلق الأمر بالدين ، يمكن أن تصبح الترجمة فعلا خطرا. فنحن نعلم على سبيل المثال أن المترجم الياباني لرواية سلمان رشدي Salman Rushdie “الآيات الشيطانية “The Satanic Verses ، و هو كتاب أغاظ المسلمين ، قد قتل. و هوجم أيضا مترجم الكتاب الإيطالي. مع ذلك فلو قارن المرء ترجمة النصوص المقدسة مثل القرآن الكريم و الإنجيل يستطيع أن يجد بالتأكيد ظلالا من المعاني بين النسخ المختلفة . هل يجب أن يتبع مسعى ترجمة الدين (بجميع تجلياته) مجموعة من القوانين تختلف عن أية أفعال أخرى من الترجمة؟ باسنيت: لا أومن أن مسعى ترجمة الدين يجب أن يتبع مجموعة مختلفة من القوانين تختلف عن الأفعال الأخرى للترجمة الأدبية بل يجب أن يكون هناك وعيا لما تم القيام به مسبقا. و ممكن أن يكون هذا الاختلاف الرئيس عن أنواع أخرى من الترجمة. فلو كنت تترجم سونيتة لشيكسبير ، على سبيل المثال، قد تجد النظر في نسخ سابقة قام بها مترجمون آخرون امرا شيقا لكن ربما لا تقرر أنه أمر ضروري. و على أية حال فإن كنت تترجم كتابا مقدسا ، أعتقد أنه من الأساسي أن تنظر في عمل المترجمين السابقين، و لذلك فإن القراءة الواعية هي ، كما أؤمن، جزء حيوي من ترجمة النصوص المقدسة. لقد بينت بصواب كبير أن الترجمة يمكن أن تكون خطرة و نحن نعلم أن تاريخ ترجمة الإنجيل ، على سبيل المثال، حافل بقصص اضطهاد و فعلا إعدام المترجمين. على مترجم أي نص مقدس أن يكون واعيا جدا بما يفعله أو تفعله و يمكن أن يأتي ذلك الوعي فقط من فهم كامل لما قام به السابقون.
بهراوي: أنت لست فقط أكاديمية في دراسات الترجمة. أنت شاعرة و مترجمة أيضا. كيف يساعدك التفاعل بين هذه الأدوار في أن تفلسفين فكرة الترجمة؟
باسنيت: لقد تم تغذية كتاباتي الخاصة دوما في تنظيري. فعندما تترجم فإنك تتعامل مع الواجبات العملية في ترجمة شيء مكتوب من قبل شخص آخر إلى شكل مقبول لقراء جدد. و أنت على هذا الأساس ترتبط مع النص بطريقة مختلفة تماما عما لو كنت ببساطة تقرأه بلغة واحدة. لقد جعلتني الترجمة واعية بصورة عظيمة بالمسؤولية إزاء كل من القراء و الكاتب الأصلي. و جعلتني أيضا أرى بوضوح جدا ما يمكن و ما لا يمكن القيام به حيث تنقل النصوص عبر اللغات. لقد ترجمت مجموعة متنوعة كبيرة من النصوص تتضمن الكتيبات التقنية و الأبحاث القانونية و الطبية و الأبحاث الفلسفية و الروايات و القصص القصيرة و الشعر من و إلى الإيطالية و الشعر من الإسبانية و البولندية و اللاتينية ، و لذلك أعتقد أنني أملك فكرة جيدة عما تنطوي عليه الترجمة. و تعلمت أيضا كمية عظيمة من كتابة شعري الخاص و فوق كل شيء أهمية التشكيل. و أرى نفسي أعود مرة و أخرى مستندة على ما قد يبدو أنه لغة قديمة و تفكير قديم نوعا ما بالكاتب و المترجم على أنهما صناع كلمات مهرة wordsmiths ، و حرفيين و مشكلي أنساق. ليس هناك من شك على الأطلاق في ذهني من أن كتابتي الإبداعية كانت قيمة بصورة عظيمة في تمكيني من أنتاج عمل بحثي ليس بجاف و لا مقطوع عن العالم الحقيقي. و الحالة نفسها تصح على كتاباتي الصحفية التي مكنتني من الاشتراك بصورة مباشرة بمشاكل ترجمة التقارير الصحفية للصحف و وسائل الأعلام و التي ضمنتها كتابي الحديث “الترجمة و الأخبار العالمية “Translation and Global News الصادر في 2008. أننا نخبر بصورة متزايدة أن القرن الحادي و العشرين سيكون الفترة الذهبية لآسيا. و مع ذلك فإن حقل دراسات الترجمة في هذا الجزء من العالم، بمقارنته مع أوربا، لم يكن على وجه الخصوص متجانسا، فالجامعات في سنغافورة، على سبيل المثال، تقدم مقررات تصنف الترجمة كعلم تطبيقي بينما نجد المؤسسات في هونغ كونغ أكثر انفتاحا من ناحية دمج نظريات الترجمة كجزء من منهاجها الدراسي.
بهراوي: لو كنت أستطيع أن أشركك الأن في أن تنظري من خلال الكرة الكريستالية فكيف ترين مستقبل دراسات الترجمة و الترجمة ذاتها؟
باسنيت: تطلب مني ألآن أن أنظر في الكرة الكريستالية. و ذلك صعب جدا على الدوام غير أني أعتقد أنني أرى مستقبل دراسات الترجمة على أنه يسير في اتجاهات مختلفة. ليس هنالك من سؤال في أن الترجمة الآن مهمة بصورة كبيرة كمشروع كوني، و ربما أكثر من ذلك في أي مرحلة من مراحلها في الماضي. و هذا تبعا لحركة الأشخاص حول العالم بأعداد أعظم مما سبق و تبعا للترابط الاقتصادي العالمي المتزايد و لتكاثر وسائل الأعلام الإليكترونية. و سنحتاج على هذا الأساس لأن يكون هناك تأكيد على ذلك التدريب الذي ينظر إليه على أنه علم تطبيقي. على أية حال، هذا هو جانب واحد من القصة. أؤمن أن التطور الآخر لدراسات الترجمة سيحصل مثلما تتوسع برامج الأدب و أن الدور الحيوي للترجمة في نشر الأدب العالمي سيستمر في التأكيد عليه. و ما أرغب في تمنيه بألا يحصل هو أن الترجمة كعلم تطبيقي ستقطع كلية عن الجمالي لأن الرغبة في الانهماك بالأسئلة الفلسفية التي تطرحها ترجمة النصوص الأدبية أو المقدسة، على سبيل المثال، ستكون ذات عون عظيم لأي شخص يحاول أن يقوم بترجمة أي نوع من النصوص. لكن مهما يحصل في المستقبل فإني أرى الترجمة تتنامى و لا تضمحل في أهميتها .
مصدر الحوار:
https://www.asymptotejournal.com/interview/an-interview-with-susan-bassnett/

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here