قراءة في كتاب أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث : الحلقة الاخيرة : ما تركته القرون المظلمة

قراءة في كتاب أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث : الحلقة الاخيرة : ما تركته القرون المظلمة

الكتاب : أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث

تأليف : Stephen Hemsley Longrigg \ 1893 – 1979 م \ المفتش الإداري البريطاني في الحكومة العراقية

ترجمة : جعفر الخياط \ 1910 – 1973 م

مراجعة : مصطفى جواد \ 1904 – 1969 م \ مؤرخ ولغوي عراقي

الكتاب في الغالب نقل حرفي لكتابات الاتراك انفسهم , الذين كانوا يمجدون السلاطين والولاة والضباط ذوي النفس العسكري البحت , كما هي الروح البدوية التركية باستمرار . سوى بعض الإضافات التي انشأها المؤلف , وبعض توضيحات المترجم والمراجع وهم من العرب . ومن ثم فنحن بين مبالغة تركية في بناء مجد حضاري من الوهم على واقع عسكري غير مدني ومتخلف جدا , وبين إضافات أوروبية غريبة لا تعي واقع فكر وجذور الشرقيين لاسيما العرب وتنظر لهم على انهم جميعاً اقرب الى البداوة ولا تعرف شيئاً عن نواياهم واسرارهم المعرفية والاجتماعية الواقعية , وبين مجاراة عربية لما هو مكتوب في زمن لم تبن خيوط فجره البحثي التحقيقي بعد , اذ كان عصراً سردياً تقريبا .

فكانت فكرة تحليل تلك النصوص امراً يحتاج الى تأمل , وتجاوز لتلك الصور , والعبور فوق النص الى فضاء ذلك العصر وما قبله او حتى ما بعده .

وقد كان هذا القرن – التاسع عشر – فعلياً ساحة صراع المجاميع والكتل السنية التي سلطها العثمانيون على العراق من اجل الظهور بعد الفوضى التي صنعها حكم المماليك له . وقد كان وجود ال سعدون على رأس حلف المنتفك مظلة مناسبة لعدم وصول شمس الوعي الى القبائل الشيعية القوية في الجنوب لدراسة ما يجري وإعادة صياغة تحالفاتها من اجل الخروج من الزعامة البدوية . فرغم انتصار قبائل المنتفك على قوات والي بغداد الا انها لم تستثمر هذا الانتصار سياسياً ولا إداريا , بل انتفع منه مملوك اخر هو ابن لوالي مملوكي اذاق قبائل الشيعة المر , هو سعيد بن سليمان , والذي كانت فترة حكمه أسوأ الفترات للقبائل الشيعية الواعية مثل الخزاعل الذين ضربهم بقوة رغم استعانتهم بشمر والزبيد , الا ان سعيداً استعان بقبائل الظفير والعبيد بالإضافة الى المنتفك التي كانت تخضع لرأي البداوة السعدونية وكسرت شوكة اخوتها في التحرر والعقيدة , في مشابهة لما الت اليه أحوال قبيلة عقيل ببغداد اذ يستغلهم القادة المماليك في صراعهم على السلطة حتى وصل بعقيل الامر الى انعدام الامن . وفي عصره احتدت الفتنة الاهلية في النجف الاشرف بين الزغرت والشمرت .

وقد كان فرسان المنتفك هم القوة الضاربة الحقيقية للوالي سعيد حتى ان خمسمائة منهم فقط كسروا جيش داود باشا المعين من قبل السلطان والياً على بغداد وفرقوه لفترة من الزمن اراحت الوالي الساذج سعيد في بغداد , والذي صرفهم الى ديارهم , ثم صرف قبائل عقيل , فانقض عليه جيش داود المتكون من الاكراد وقبائل العبيد وقتله .

وقد تفرعن داود على القبائل العراقية العربية الشيعية والسنية في الجنوب والشمال لجمع المال بالقوة ولفرض السلطة بالقتل الذي شمل حتى موظفي الدولة العثمانية الذين عينهم الوالي السابق , واغضب قادته العسكريون القبائل العربية بسبب خيانة العهد والميثاق والخسة في التعامل والكلمة . وداود باشا مملوك اشتراه سليمان باشا من السوق وادخله الإسلام , وهكذا كان اغلب ولاة العثمانيين وقادتهم بلا اصل ولا حسب مما اضعف القيم الدينية كثيرا , ولم يكن لهم شعور وطني يجعلهم يحبون الأرض التي يحكمونها .

ورغم ان العثمانيين كانوا يشنون حملات متتالية على القبائل الشيعية على اتفه الأسباب ويعتبرون كل اعتراض تمرداً يستدعي الإبادة الا انهم لم يتخذوا أي اجراء جدي وعملي تجاه غارات الوهابيين بقيادة ال سعود السنوية على العراقيين وثرواته التي كان يسلبها الوهابية , وكان واجب الدفاع يقع على عاتق القبائل العراقية الشيعية من المنتفك الشيعة وبني كعب – رغم انهم بعيدون عن الخطر الوهابي – وكان والي بغداد يكتفي بخداع الناس بالتخييم في مدينة الحلة دون التحرك ابعد ودون دخول منطقة الخطر الحقيقية في رغبة واضحة منه لحماية سلطته في بغداد فقط . بل لم يستثمر المماليك قتل عبد العزيز ال سعود زعيم الوهابية على يد رجل دين أفغاني شيعي قتل الوهابيون ابنه في حملتهم على كربلاء . حتى كسر محمد علي باشا مصر قوة الوهابيين من خلال عدة حملات ضدهم استعاد فيها الحجاز .

وقد كان الجليليون – ذوو الأصل غير المسلم – في الموصل في حرب باردة من اجل السلطة . في وقت كان حلفاء العثمانيين من الاكراد البابانيين يلعبون لعبة تغيير الولاءات بين الصفويين والمماليك وادخلوا العراق في لهيب الصراع العسكري , حتى كسر المماليك شوكتهم . وقد ساهمت رغبات العثمانيين القمعية والسلطوية في توسيع نفوذ الاكراد على حساب العراقيين الأصليين الذين كانوا يرفضون الوجود العثماني على خلاف الاكراد البابانيين .

وكانت ايران القاجارية تنظر الى واقع العراق باهتمام بعد اسقاط السلالة الزندية , لا سيما مع ازدياد هجمات الوهابيين على العتبات المقدسة وغياب الرد العثماني المملوكي . فكانت القضايا الكردية سبباً مناسباً في اندلاع الحرب بين الطرفين والتي كانت سبباً في انتشار وباء الكوليرا في العراق وازدياد الفقر والقمع رغم رجوع الإيرانيين الى مواقعهم .

وقد كانت القبائل العربية تعيش في فوضى عدم الانتماء وتشتت الهوية بين دولتين كبيرتين , لاسيما مع ظهور قوة عشيرة وافدة ينتهي نسب بعضها الى طي هي شمر , والتي تميزت ببداوة وروح غنائمية جعلتها بلا قضية سوى كسب المزيد من النفوذ , فكانت مرة تثور ومرة تقمع الثورات الى جانب العثمانيين كما فعلت بالاشتراك مع زبيد وفلول المماليك الذين تم جمعهم لغرض الحرب فقط في قمعها لثورة قبائل الفرات الأوسط , بعد ان كادت الثورة ان تنجح في اسقاط بغداد لولا وجود بعض الفئات التي كانت تعمل مع العثمانيين مثل محمد اغا , ووجودهم جعل الحرب الدعائية التي قادها والي بغداد تنجح في فت عضد الثورة . وكذلك كانت الامارات الكردية في السليمانية وشهرزور تزيد في التفتت باقتتالها الداخلي وتعدد ولاءاتها بين الإيرانيين والعثمانيين . فيما كانت قبائل المنتفك الأقوى عسكرياً لا تزال يقودها شيوخ لا ينتمون اليها عقائدياً ويتميزون ببداوتهم وضعفهم الحضاري وعدم امتلاكهم لاي رغبة في دفع مجتمعهم علمياً ومدنياً مستغلين في وجودهم تسننهم الذي يرحب به العثمانيون , وهذا الضعف المعرفي والحضاري جعل فرصة علاقات المنتفك ببني كعب وبحاكم مسقط العماني غير منتجة فعليا , مما زاد في ضعف المنطقة وسمح لاحقاً بتغلغل البريطانيين بعد البرتغاليين . وقد ساعدت هذه الفوضى الاتراك كثيرا في دفع الجيوش الإيرانية الى الخلف , رغم ان بقاء العراق تحت الحكم الإيراني كان سيكون بالتأكيد اكثر نفعاً حضارياً من بقائه تحت الحكم العثماني المتخلف في كل ابعاده ومماليكه . وقد كانت مدن شيعية مثل الحلة جميلة بصورة مستقلة تماماً عن معونة العثمانيين الذين ليس لهم فيها سوى جمع الضرائب الجائرة من السكان دون مقابل واضح من الخدمات , لكن الإدارة القبلية والسكانية الذاتية كانت اكثر اشراقاً من الوجود العثماني . فيما كانت كتل وعشائر مثل اللاوند وعقيل يتم استئجارها بالمال كقوات مقاتلة الى جانب الوالي العثماني الذي ينفق فقط على تعليم وتدريب المماليك الذين يتم جلبهم وشراؤهم من بلدان وأسواق متفرقة . فيما يتم النظر للقبائل العربية على انهم رعاع فوضويون , رغم ان العثمانيين بمماليكهم كانوا رمزاً لتاريخ القبلية البدوية الفوضوية , حتى ان شط الهندية – الذي تم حفره لايصال الماء الى مدينة النجف الاشرف والذي جرى فيه الماء بانتظام عام 1800م – تم على يد آصف الدولة الهندي وليس العثمانيين[1] .

ان اهم ما ميز عهود حكم مماليك العثمانيين للعراق ثورات القبائل المستمرة , وضرب الحكومة لها بقسوة كل سنة , وانتشار العصابات وقطاع الطرق وسلب المسافرين , وفرض الضرائب على المستضعفين واعفاء الأقوياء , وإعطاء الأراضي للماليك الغرباء ورجال الحاشية الأجانب والمتواطئين , والعبث المستمر للجنود والاغاوات , وامتلاء الديوان بالمستشارين المجانين والجهلة والمتعصبين , بالإضافة الى جنون وعبث وجهل اكثر الولاة في بغداد , وسعيهم الدائم الى تشتيت القبائل وتفكيكها[2] .

ومنذ منتصف القرن الثامن عشر صار التنافس الفرنسي البريطاني في العراق واضحاً , مع رغبة تبشيرية فرنسية تمتزج بالسياسة من خلال جعل القنصل اسقفا , وسلوك تجاري بريطاني سرعان ما اصبح متغلغلاً في عمق السياسة المملوكية في بغداد والبصرة وإسطنبول , والسياسة الاجتماعية المحلية من خلال العلاقات المالية والقبلية التي تفرعت عن مندوبي شركة الهند الشرقية والقناصل البريطانيين بالتعاون مع اللوبي اليهودي العراقي , حتى ان العلاقات المملوكية البريطانية لم تتأثر في خضم الحرب البريطانية التركية في بداية القرن الثامن عشر بل ازدادت قرباً وتعاوناً عن طريق الرعاية المملوكية للمصالح البريطانية وصفقات السلاح التي زودت بها بريطانيا المماليك . كما كان بعض المدربين والأطباء حول الولاة فرنسيين . فيما اشتركت البعثات البريطانية والفرنسية ومن شاركهما من الاوربيين في مجال التنقيب وسرقة الاثار العراقية تحت نظر الحكومة المملوكية الجاهلة والمرتشية . وقد اصبح السفير البريطاني في القرن التاسع عشر ثاني رجل في العراق عملياً وبصورة شبه رسمية بعد رتبة الباشا في بغداد[3] .

ورغم ابتداء السلطنة العثمانية في إسطنبول في بداية القرن التاسع عشر في اصلاحاتها الا ان احداً لم يفكر في تطبيق هذه الإصلاحات في العراق , وظل المماليك بجهلهم يحكمون قبضتهم المتخلفة على العراق . ورغم إبادة الانكشاريين في مركز الإمبراطورية العجوز الا انهم ظلوا لفترة أطول في العراق , حتى تم تهديدهم بالمدفعية فتحولوا الى الوحدات النظامية طوعاً , وهذه الوحدات الجديدة التي اصطبغت بصبغة محلية ظلت تجمع بين رجالات الجيش القدماء الغرباء ورجالات الرؤية الطائفية المتعصبة المحليين والذين كانوا يزدرون ما عليه غالبية سكان العراق من الشيعة . فيما أصبحت هذه الإصلاحات مدعاة لمزيد من التغلغل الأوروبي لا سيما البريطاني في العراق . وقد تم سلب المزيد من الأراضي القبلية وتحويلها الى اميرية حكومية تحت داعي الإصلاح الزائف . وقد كان الإصلاح عسكرياً في غالبه موجهاً بإدارة اوربية لا تسمح له ان يتغول للمواجهة الدولية , بل حافظت التدخلات الأوروبية على مظهر للقوة العثمانية موجهاً الى الداخل العراقي[4] .

وامام رغبة العثمانيين في إسطنبول انهاء حكم المماليك في العراق واعادته الى يدهم تم ارسال صادق افندي لاقناع الوالي المملوكي بالتنحي , الا ان الوالي استشار اسحق الصراف اليهودي واتفقوا على قتل المبعوث السلطاني فقتلوه خنقا , وقد كان السفير البريطاني جزءاً من هذه القصة , فتم ارسال ضباط من الشركس يرافقهم الالبان للاستيلاء على العراق تحالفوا مع حلفاء المماليك السابقين من قبائل عقيل وشمر التي كانت تنتمي للجانب الأقوى وترتضي بما تغنم , وكانت عقيل على قسمين احدهما الى جانب الوالي , فصادف تلك الحملة لإزالة حكم اخر المماليك داوود باشا ان انتشر الطاعون الذي ظهرت أولى الإصابات به من خلال محلات اليهود , ولولا ارتفاع مناسيب دجلة وفيضان النهر في نفس الشهر لاختفى سكان بغداد عن اخرهم , فحمل الوالي جزءاً من ثروة الدولة وهرب , ونهب زعماء عقيل الكثير من ثروات السراي الحكومي واحرقوه , والغريب ان الاجتماعات والمؤامرات كانت تدار في دار صالح بك التي أصبحت دار المقيم البريطاني لاحقا , وهؤلاء المجتمعون في هذه الدار هم من قتلوا قاسم باشا اول الضباط الداخلين الى سراي بغداد من الجيش العثماني الذي قاده علي رضا باشا الشركسي . وبعد صراع وخديعة وسلب ونهب وموت وخراب استسلم داوود باشا , لكنّ المفاجأة انه لم يعدم بل تسلم الحكم في البوسنة وانقرة وغيرها حتى مات , وكأن دماء من سقط في بغداد كانت هباءً منثورا , فتم قتل جميع المماليك الخصم والجندي الموالي والمتعاون وغير المتعاون المواجه والهارب والمقاتل والمستسلم على يد قيادة الالبان بلا امان ولا عهد ولا ذمة كما كانت عادت سياسة الدولة العثمانية التي استفادت من هذا الوجود المملوكي الذي صنعته لقرون ثم ابادته . ومن تخلي علي رضا باشا الشركسي عن مظاهر السلطة الإسلامية التقليدية واحاطته بالأوروبيين وتجديده لامتيازات شركة الهند الشرقية البريطانية نفهم من كان خلف استغلال المماليك ثم قتلهم للاستفادة من خلفهم بصورة اكبر . وذلك كله في حدود منتصف القرن التاسع عشر[5] .

ان استبدال العمامة بالطربوش مع بقاء الرأس نفسه هو ما يلخص ما كانت عليه أحوال الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر . وهو عهد ازدهار النفوذ البريطاني فيها على حساب باقي الدول . فكان البريطانيون يحظون بالمزيد من الامتيازات التجارية , ويتحكمون برقاب الولاة العثمانيين في العراق عبر ممثليهم في استانبول , كما ان يدهم اطلقت اكثر في القبائل العراقية , حتى ان المقيم البريطاني هو من كان يشرف على توزيع الثروة الضخمة التي خلفها ملك اوده الشيعي في الهند ويتحكم في نقلها الى المجتهدين في النجف وكربلاء , وهو الامر الذي يخفي ما يخفي من اسرار القوة العلمائية والجماعاتية فيما بعد , لاسيما ان العثمانيين الذين يرون الشيعة رافضة كفرة متمردين لن يطيب لهم ذلك النقل ما لم يكن خلفه ما يجبرهم على السكون .

وكانت تلك الفترة تشهد اغلب الاتفاقيات الحدودية بين العراق وايران بحضور ممثل روسي وممثل بريطاني , وكان وضع الخرائط يقع على عاتق البريطانيين . فيما تستمر النزاعات القبلية المحلية وعبر الحدود بين الدولتين وبمشاركة سيئة من الجيش العثماني الذي يديره ولاة يتحكم فيهم البريطانيون . وقد شهد هذا العصر سلب وقطع تركيا لأجزاء من العراق مثل ماردين والحاقها بمركزها , كما ضعف شأن الموصل والبصرة كثيرا , رغم ان الإصلاح يفترض فيه جعلهما اكبر وانضج . فإصلاحات خطي كولخانة وخطي همايون التي حاولت تقليد المنهج الغربي في الحكم لم تدخل العراق ولا حتى اغلب البلدان التي يحتلها العثمانيون . ان الذي حدث فعلاً حينذاك وفي العراق خاصة هو نقل السلطة من يد باشوات المماليك الى يد السلطة المركزية بقيادة السلطان , ونقل الحكومة والسلطة الإدارية من يد الاغاوات الى يد الخدم ممن لا يجيدون اكثر من القراءة والكتابة , ومع استمرار اهم خصائص السلطات العثمانية منذ ظهورها وهي الرشوة وحب المال فقد ظهرت أيضا على يد هؤلاء الخدم – الموظفين – البيروقراطية , وهؤلاء الخدم كانوا متعالين على الناس ولا يتحدثون بين العرب الا بالتركية .

فكان ذلك العهد عهد تأليب القبائل على بعضها وتفشي الامراض كالطاعون , والجباية التعسفية , بل والمواجهة بين المفتي السني عبد الغني – جد اسرة ال جميل في بغداد والمستورد من الشام الى بغداد – وبين الوالي حتى تم حرق دار المفتي ومكتبته لانه حاول ان يدافع عن بعض الاسر البغدادية المرتبطة به .

وتم تحطيم معظم الدويلات الكردية حينها , وتمت الاستفادة من صراعها الداخلي في كسر اخر امبراطورياتها , حتى انهم غدروا بأحد اكبر امرائها الذي اعطوه العهود والمواثيق لكنه اختفى عند دخوله العاصمة استانبول , وكان عام 1850م اخر ما حكم به الاكراد انفسهم اذ استلم أراضيهم بعدئذ الاتراك بلغتهم وموظفيهم , بعد ان نجحوا في تمزيق عوائلهم عن طريق الفتن بين الاخوة والرشى . واذا كان الاكراد هم السبب الرئيس في استمرار حكم العثمانيين ومماليكهم للعراق بمعونتهم لهم على قمع الثورات العربية فقد كان منتصف القرن التاسع عشر مناسباً للقضاء على اماراتهم هم ايضاً وحكمهم بعد تفكك اكبر القبائل او بداية تفككها والتي كانت تشكل تهديداً للوجود العثماني . وهذا ما شمل قبيلة عقيل في بغداد ايضاً اذ تم طردها من غرب بغداد بعد ان كانت سبباً مهماً في وصول الوالي الذي طردها للحكم . حتى انهم اسروا زعيم قبيلة شمر التي طالما تحالفت معهم وارسلوه الى العاصمة . وقد شملت هذه الحملات أيضا تحطيم قوة اليزيديين في سنجار , وتقليص وقضم نفوذ العائلات الموصلية . ومن ثم لم يكن من الصعب ضرب كربلاء ثم النجف اللتين تتمتعان بحكم ذاتي عملياً , اذ ارتكب فيهما الجنود العثمانيون اخس المجازر , وفعلوا اشنع الافاعيل .

وقد عمل كل الولاة العثمانيون على تفكيك القبائل العراقية الكبيرة , واستخدموا لذلك قادة كانوا في الأصل زعماء عصابات . مع استمرار نظرتهم الدونية للفلاح . واستمروا في نقل المال من العراق الى استانبول لدعم حروب السلطان في القرم وغيرها ولتشييد القصور السلطانية هناك .

ومن الغريب الوصف الذي تم نقله في كتاب ( أربعة قرون من تاريخ العراق ) عن وحشية قبائل جنوب العراق وان مرجعيتها الدينية سلفية وانها ترفض الخضوع للنظام , ومكمن الغرابة هو التاريخ والسياسة والإدارة الفاشلة والمتخلفة والجاهلة للعثمانيين في العراق واستيلائهم على أراضي اهله وثرواتهم وارسالها الى الخارج من خلال ولاة وجنود وموظفين أجانب وتسبب وجودهم في انتشار الامراض والاوبئة طيلة قرون , وكذلك اعتبارهم ان القسم الأعظم من شعب العراق كافر , وهم اذ يعادون الدولة الصفوية التي يملك شعبها علاقات تاريخية وحضارية وقبلية بشعب العراق باعتبارها في نظرهم شيعية كافرة يمنحون امتيازات مفرطة للبريطانيين والأوروبيين الأجانب ذوي النوايا السيئة – والتي ثبت اثرها السيء فيما بعد – دون مقابل , كما ان تخريبهم للزراعة والتجارة والصناعات المحلية يقرب من مفهوم الإبادة الجماعية , وبالتالي ان موقف قبائل جنوب العراق ومدنهم وعواصمهم المقدسة في كربلاء والنجف كان موفقاً لرفضهم تلك الحقبة السوداء المظلمة , رغم ان هذا الجنوب وحده من سيدافع عنهم لاحقاً حين يغدر بهم البريطانيون في بداية القرن العشرين .

ولم يفت العثمانيين في تلك الفترة قتل المسيحيين العراقيين الشرقيين أيضاً لاسباب نفهمها من المستفيد لاحقا . وبدأت تنتشر قبائل عنزة وشمر وزبيد في العراق بدل قبائله القديمة التي كانت تهرب بسبب هيجان الجور العثماني , الذي انطلق فجأة في كل هذه الابادات المخططة والمنظمة والتي لن تعود عليه بالخير . حيث تم ضرب الخزاعل وقبائل الفرات الأوسط , وتعيين شيخ منتفكي لجباية أراضي بني لام لاثارة الفتنة بين اقوى تحالفين قبليين في العراق , ولم يكن زعماء المنتفك من السعدون غير المتحضرين يفهمون ما يراد بهم , رغم انهم قاوموا محاولة تحويلهم الى موظفين اتراك من خلال اعطائهم وظيفة قائم مقام بدل شيخ المشايخ , وكذلك محاولة تركيا سلب الأراضي التي تحت أيديهم وضمها الى مدن أخرى .

ويكفي في بيان سوء الإدارة العثمانية المدنية والعسكرية – وهما في الغالب مختلطتان – ان العراقيين حين يريدون حتى اليوم وصف امر ما بالفوضى يقولون متندرين ( هي هايته ) والهايته اسم للجيش العثماني الذي نشأ في العراق بعد حل الانكشارية . ورغم هذه الفوضى التركية التي امتدت لقرون في العراق نراهم يطلقون على الإدارة الوطنية لمدينة كربلاء ( ياره ماز ) أي السفهاء الذين لا يصلحون لشيء ! وكأنما كان الاتراك يصلحون لشيء رغم القرون التي قضوها في السلطة والتي لم تدخلهم في التمدن الحضاري . ( ولا يفوتنا ضرورة الإشارة الى ان ذلك كله كان تحت اشراف البريطانيين وممهداً لدخولهم العراق من خلال القضاء وتفكيك كل الامارات المحلية في العراق وتجهيله وتجويعه ونشر الفتن بين العائلات الاميرية والقبلية الحاكمة وتوطين القبائل لتسهيل ضربها وزيادة خوفها من المواجهة بعد توطنها لثقل حركتها[6] .

عند اول رحلة لباخرتين بريطانيتين في الثلث الأول من القرن التاسع عشر وهما ( دجلة – الفرات ) في الأنهار العراقية بعد موافقة السلطة العثمانية في تركيا على ذلك وبعد المناقشة البريطانية في لندن لدعم ملاحة شركة الهند الشرقية , غرقت الباخرة دجلة بعاصفة أصابتها , اما الباخرة الفرات فقد طلب فلاحو حديثة من طاقمها ان يذهبوا الى بغداد ويرفعوا علمهم هناك , وقابلهم اهل الحلة مقابلة الكفار , وقابلهم الخزاعل باستخدام القوة والطرد , وتم سد طريقها في سوق الشيوخ بجذوع النخل . الا ان العثمانيين سمحوا لها ان تمخر عباب المياه العراقية لخمس سنين أخرى . مما يكشف الفرق بين الوعي الوطني لأهل العراق وبين الإدارة العثمانية الفاسدة . وهو الامر الذي ستدفع ثمنه الدولة العثمانية غالياً مستقبلا , لكن سيدفع ثمنه اهل العراق ايضاً بسبب الوجود والسذاجة والرشوة العثمانية .

وخلال الفترة اللاحقة انتشرت البواخر البريطانية في المياه العراقية بترخيص او بدونه , وتم رسم عشرات الخرائط للبلاد من قبل المساحين البريطانيين لتدخل الخدمة في الجيش البريطاني حتى عام 1914م . ولم تكن لتلك البواخر أهمية تجارية ولا مهمة محددة , وانما كانت مقدمة للتجارة الحقيقية ولطلائع الجيش البريطاني لاحقا .

وحين جاء العثمانيون بعد منتصف القرن التاسع عشر بباخرتين بالشراكة مع التجار لم يتم استخدامهما سوى في الحملات العسكرية لضرب القبائل , ولم تعط لهما أهمية تجارية تدر الأرباح , في الوقت الذي تحقق شركات اسرة لنج البريطانية الأرباح في المياه العراقية .

ورغم ان العراقيين اول من اخترع العجلة في التاريخ الا ان بلادهم كانت تسير تجارتها باستخدام الحيوانات , لعدم قيام الحكومات العثمانية المختلفة باي مشروع لإنشاء طريق صالح للسير , وهي الحكومات التي كانت تجبر الفلاحين والأهالي على بناء القناطر على الأنهار رغم انها تسلب أموالهم . فيما دفنت رغبات التجار المحليين في مد الطرق البرية والحديدية بالتعاون مع مهندسين أوروبيين بسبب التخلف الإداري العثماني , ولم تكن السلطات العثمانية تستجيب وتتعاون سوى مع الرغبات التجارية الأوروبية حينها حيث نظر الأوروبيون للعراق على انه مكمن ثروات هائلة – وهو الأهم اقتصاديا في الدولة العثمانية كلها بالاشتراك مع مصر – وطريق رئيس يربط الشرق بالغرب, وتنظر بازدراء لكل ما هو محلي .

وقد كان البريطانيون متحمسين في النصف الأخير من القرن التاسع عشر لمد خطوط التلغراف في العراق ومجمل المنطقة , لاسباب توضح انها عسكرية فيما بعد . وكان اول استخدام لهذه الخطوط التلغرافية الحديثة من قبل العثمانيين عسكرياً ايضاً اذ استخدمتها لجمع القوات اسرع لضرب القبائل العراقية[7] .

لقد جاء مدحت باشا الى بغداد حاكماً على العراق من أوروبا , وقد فشل في كل ما ادعي انه أراده من اصلاح بسبب جهله وسوء ادارته وسوء الماكنة الحكومية العثمانية . ومن الغريب انه أراد بيع خزائن مدينة النجف الاشرف النفيسة والتي لا تملكها الدولة لانها موقوفة من مالكيها على العتبات المقدسة بدعوى انفاقها على الاشغال العامة رغم انه فشل في كل ما تدخل به من اشغال لا سيما في مشاريع شط العرب . حتى انه هدم سور بغداد وتركها بلا حماية بعد ان تركه انقاضاً على الأرض , وكانت خطته تعتزم دفع الأجور للعمال من بيع انقاض السور نفسه ! .

الا انه نجح في تمصير مدن قبلية مثل الناصرية والرمادي , لا من اجل أهلها بل لان مدينة الناصرية كانت مركز إقليم المنتفك الأقوى في العراق ومن ثم هو نجح في توطين القبائل وتوظيف شيوخ السعدون عند الحكومة بعد ان كانوا امراء اكبر من الوالي نفسه , حيث أصبحت القبائل مضطرة لدفع الضرائب بلا مقابل خدمي , واصبح الشيوخ جزءاً من المنظومة الحكومية بعد ان كانوا اقدر على المعارضة , وصار بالإمكان معاقبة القبائل بيسر وسهولة , او اذلالها بمصادر المياه الزراعية التي تتلاعب بها الحكومة , وصار نشر الفتن اسهل على الولاة بين رجالات القبائل الباحثين عن مصالحهم . كما ان سياسة التوطين خلقت مشكلة التملك للأراضي التي هي ملك قبائل اصيلة لكنّ اسلاف الولاة العثمانيين منحوها هدايا وهبات لرجال وعوائل موالية لهم , مما جعل الحكومات المتأخرة في القرن الثامن عشر تخلق مفهوم الأرض الاميرية التي يتم بيع فائدتها والتصرف الزراعي فيها فقط دون ملكيتها الصرفة مقابل أموال جديدة لمن يملك سندات تمليك الولاة السابقة او من هو يعيش على الأرض فعلا , فكان هذا طوق نجاة اولي لقبائل مهاجرة جاءت من نجد او الحجاز او الخليج او الشام وهي لا تملك شيئاً سابقاً في العراق الا ان مذهبها السني أعطاها مكانة اقرب عند الولاة العثمانيين , لاسيما ان معظم القبائل الشيعية الاصيلة كانت تخشى تبعات التوطن من فرض الضرائب الجائرة او التجنيد الاجباري , وهو الذي سمح للقبائل المهاجرة بالحصول على امتيازات تم تثبيت الكثير منها لاحقا . فاصبحت بساتين شيخ كعب والمحيسن العظيمة على شط العرب ملكاً للحكومة , واصبح شيخ عنزة مالكاً للبساتين الكبيرة فجأة في اعلى الفرات , واستقرت شمر وأصبحت عائلة شيوخها من الجربا ملاكاً للأراضي في مناطق الشرقاط . واستغل السعدون هذا الوضع بعدما اصبحوا موظفين عند الحكومة العثمانية واستحصلوا سندات ملكية للأراضي في إقليم المنتفك الواسع وسط ذهول أبناء تلك القبائل واستغرابها , ليجد أبناء تلك المناطق المحاربون الاشداء انفسهم فلاحين عند السعدون , وهو الامر الذي اغضبهم وجعلهم ينفرون من مشايخ السعدون ويرفضون دفع الضرائب التي لم تستحصلها الحكومة منهم الا يسيرا . وتسبب هذا الجشع السعدوني بتفكك حلف المنتفك التاريخي الكبير والقوي . وهو اخر حلف مع حلف قبائل بني لام – الذي تم ضربه سابقاً – كانت تخشاه القوات البريطانية . وهذا ما اعترف به البريطاني صاحب كتاب ( أربعة قرون من تاريخ العراق ) .

وقد أصبحت عائلة السعدون منذ ظهور ناصر باشا وابنه فالح ومنذ عهد الوالي مدحت باشا اليد العثمانية الحكومية لاخضاع القبائل وعثمنتها بالقوة , وصار للعثمانيين قوة مقيمة لحماية شيوخ السعدون في الخميسية في سوق الشيوخ , حتى ان جشعهم وصل بهم الى اخماد ثورة الاحساء البعيدة انتصاراً للعثمانيين , مقابل الألقاب والمناصب التي نالوها , الامر الذي تسبب بحرب قبائلية داخلية لم تهدأ لعقود , واضعفت جنوب العراق كثيراً وطويلاً , بل يمتد اثرها الى اليوم .

ثم يمكن القول ان مدحت باشا جعل الطريق البريطاني الى العراق معبداً من هدم الاسوار وتوطين القبائل لتثقل حركتها وقدرتها على المراوغة . لاسيما بعد ما فعله اسلافه من حملات إبادة بشرية واقتصادية وعقائدية ضدها . وقد كانت المناصب في العراق حكراً على الاتراك والالبان والشركس وبعض العرب السوريين او الاكراد في الشمال . وكانت مناطق الجنوب العراقي اسمياً في العهد العثماني تشمل مناطق الخليج من الكويت والاحساء ونجد وغيرها وتتبع الى ولاية البصرة . وحين فشل الاتراك في الحكم المباشر لمناطق الخليج استعانوا بقبائل المنتفك الذين حكموها من بداية سبعينات القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين . ورغم هذا الحكم لم يستفد أبناء المنتفك شيئاً من التقدم بسبب بداوة وعدم جدية امرائهم من السعدون .

وكان يمثل بريطانيا في العراق منذ 1870م موظفون كبار برتبة وكيل سياسي او قنصل في عدة مدن . وقد استولى البريطانيون – المتسللون في العراق منذ ثلاثة قرون – على التلغراف والملاحة النهرية وعلاقات مع قبائل عديدة ونفوذ حكومي يصل من البصرة الى بغد والموصل الى إسطنبول , الامر الذي جعل احتلالهم للعراق مهيئاً تماما . وكان للروس والامريكان والفرنسيين والالمان ممثلون كبار في العراق , لكنه لا يمكن ان يقارن بشيء يذكر من النفوذ البريطاني في العراق . وفي الحقيقة ان وظيفة اغلب هؤلاء القناصل الرئيسة كانت التنقيب عن الاثار , حتى ان عنوان القنصل والمنقب الاثاري صار واحداً حينها .

واستوطنت قبائل شمر , رغم انقسامها بسبب توطن شيخها العام , الا ان استياطنها وتوطيد علاقتها بالحكومة العثمانية في العراق منحها الفرصة الذهبية لشغل المناصب المهمة محلياً والتي كانت ترفضها القبائل الجنوبية المعارضة للجور العثماني والحكومات اللاحقة , وكذلك انتشرت شمر طوقة من ديالى الى جنوب الكوت . وكذلك توطنت الدليم وزبيد . واتخذت التشكيلات القبلية وضعها المشابه لليوم . وقد ظل الاكراد يؤجرون الجنود الخيالة لتشكيل أفواج للجيش السلطاني العثماني .

وقد كانت الفتنة بين قبائل جنوب العراق تظهر بشراسة في تلك الفترة من التوطين , فتتقاتل القبائل بينها كما في نزاع بني لام الداخلي في اخر عقدين من القرن التاسع عشر , حتى صار للعثمانيين قوة عسكرية هناك في العمارة لأول مرة . والتي لم تتقاتل يكفي في اضعافها ضربها كما في هجوم الحكومة العثمانية على قبائل الدغارة في الديوانية , ونفي اهم شيوخ جنوب العراق الشيخ حسن امير قبيلة اسد التاريخية بعد إخراجه عنوة من الاهوار . فكان هذا الحال المثالي لدخول قوة اجنبية اقوى هي بريطانيا مستقبلا , وبذلك يكون ولاة العثمانيين وموظفوهم قد خدموا الجيوش الأجنبية الغازية خدمة لا يحلم غاز بمثلها . كما ان الاناة البريطانية والصبر في تفكيك ركائز قوى العراق لثلاثة قرون مما يثير النظر والتأمل .

فيما كان العراق من اهم مصادر المال والرجال للحروب العثمانية وللبذخ السلطاني في إسطنبول , في الوقت الذي كانت تزيده هذه الحروب والنفقات الخارجية التي لا ناقة له فيها ولا جمل فقراً وضعفا . وقد لعبت الدعاية الدينية السنية دورها في حكم العراق من قبل العثمانيين . والذين كان ضباطهم في العراق اميين , قادهم في نهاية القرن التاسع عشر بعض الضباط الالمان مثل فون دير غولتز الذي أشار على العثمانيين بانشاء قوات شرطة البادية وقد تم منحه لقب باشا كأي غريب اخر . والقوات العثمانية في العراق كانت تجبر الناس على التجنيد في الحروب الخارجية بالقوة لتشكيل عدة فيالق , فيما كانت قواتهم البحرية المواجهة للخليج الذي تلعب فيها القوى البريطانية مفككة ضعيفة بالية . وفي الحقيقة ان الجيش العثماني المهلهل والقديم الطراز لم يكن معد – ومحسن من قبل الأوروبيين – الا لضرب القبائل العراقية . وقد كان يُنظر للجيش السادس العثماني في العراق على انه احط الجيوش في الإمبراطورية , ورغم ذلك لم تستطع بريطانيا بقوتها الحديثة دخول العراق الا متأخرة[8] .

ولقد كانت التشريعات القانونية التركية توفيقاً بين ما هو شبه الإسلامي وبين ما هو فرنسي , فكان خليطاً فجاً . بالإضافة الى سوء تطبيق القانون من قبل الموظفين والولاة المرتشين . كما ان التعليم كان اخر الأشياء التي من الممكن ان تسعى الحكومات التركية الجاهلة لنشرها بين العراقيين , فكان الناس مضطرين لارسال أولادهم الى ( كتاتيب ) المساجد لتعليمهم وهو ما كان يخفف من وطأة الجهل نسبيا . ولم تظهر المدارس التي تعد على أصابع اليد الا في نهايات القرن التاسع عشر وفي المراكز الكبرى فقط وباللغة التركية التي تسببت بعدم فهم الطلاب لما يدرسون , لكنّ الغاية الحكومية كانت تتريكهم وجعلهم موظفين مطيعين ليس لهم شعور بالانتماء الوطني او القومي . وهذا ما جعل كتابة التاريخ حكراً على من له ارتباط رسمي او مذهبي بالحكومات التركية او العوائل التي اثرت واستفادت من تلك العصور المظلمة , فخسر العراق صفحات مهمة من حقيقة ما جرى اذ كان اغلب أبنائه لا يحسنون الكتابة فضلاً عن التأليف , ولم يكن للبقية الباقية من الامكانية المادية لطبع الكتب .

وكانت دوائر البلدية غير موجودة عملياً في العراق , لكنها موجودة في مركز السلطنة في اسيا التركية التي تنعم بخيرات ما تسلبه من الأقاليم الغنية كالعراق ومصر . حتى ان دائرة الأوقاف وهي من الدوائر الحكومية النادرة كانت تسرق نفائس ما يهدى الى العتبات المقدسة وترسله الى إسطنبول , وتهمل متعلقات هذه العتبات والاوقاف من مزارات ومساجد وخدمات والتي كانت بحالة رثة وكان المتولون عليها من المحليين في حالة رثة .

ولم تكن هناك من دوائر حكومية للصحة ولم يكن في العراق سوى مستشفى واحد يقع في بغداد , فكانت الامراض تنتشر كأوبئة , ومن ثم فالناس مضطرة للتشافي على يد افراد محليين . لا سيما مع قلة العناية الحكومية بالبيئة والصحة المجتمعية .

فيما كان المسيحيون واليهود يتمتعون بنظام تعليمي واضح , الامر الذي مكنهم من تطوير انفسهم ومجتمعاتهم والدخول في السلك الوظيفي . وكان ان سمحت الحكومة العثمانية للبريطانيين وموظفيهم الهنود فتح دائرة بريد تعمل في العراق , وهي ربما مكنت البريطانيين من التجسس بصورة اعمق , الامر الذي قلدته الحكومة العثمانية ففتحت دائرة مشابهة بعد مؤتمر باريس . وقد سمحت هذه الدائرة مع دائرة التلغراف بانفتاح العراق على العالم .

وبقي العراق متخلفاً في الملاحة النهرية والبحرية عن العالم بسبب سوء الإدارة العثمانية واهمالها وعدم كفاءتها وجديتها حتى نهايات القرن التاسع عشر , الامر الذي اعطى شركة ( لنج ) البريطانية الفرصة الأكبر للربح , رغم سعي بعض ولاة العثمانيين للمنافسة معها , لكنهم كانوا يفشلون بسبب عدم وجود إدارة عصرية منظمة وقوة النفوذ السياسي للبريطانيين في إسطنبول .

وعدا خط الترامواي بين الكوفة والنجف والمركز لم يكن من مواصلات برية في معظم العراق سوى البغال والحمير والاحصنة والجمال عند نهايات القرن التاسع عشر . ولم تشرع مشاريع خطوط السكك الحديد الا برغبة المانية , وبامتياز ورأسمال الماني , لكنها مدت من البلقان الأوروبية الى تركيا فقط ولم تصل الى العراق الا بعد اكثر من عشرين سنة اذ انجز خط حديد بغداد – سامراء عام 1914م , في تنافس الماني بريطاني في الوصول الى مياه الخليج برا , فزادت العلاقات البريطانية الصباحية في الكويت قرباً وكان ذلك مقدمة لفصل معظم الخليج عن العراق . وكانت معظم الدوائر العثمانية مؤسسة لجبي الضرائب من الكمرك او الأراضي او البساتين او الصيد او التجار وإدارة ما استولى عليه السلطان من أراضي العراق .

وكانت الاسرة السعدونية عند دخول العراق في القرن العشرين الميلادي آخذة في الضعف والانهيار متسببة في ضعف غيرها وانهيار اكبر واطول حلف قبلي قوي في العراق هو حلف المنتفك , بسبب ما كانت عليه من تذبذب نفعي وإعطاء وجه للعثمانيين ووجه اخر للقبائل , فكانوا في العقد الأول من ذاك القرن ضعفاء واقليمهم اضعف .

فيما انقسمت واحدة من اكبر القبائل المهاجرة الى جزيرة العراق الشمالية وهي ( شمر) وضعف امرها كثيراً عند دخول القرن العشرين , وازدادت ضعفاً بسبب التوطن غير المتناسب مع طريقة حياتهم التي اعتادوها لقرون . وصار كل العراق مشغولاً بمشاكل جمة خلقها التوطين وانقسام القبائل وسوء الإدارة العثمانية . وزاد ضعف العوائل الكردية التي كانت موالية للعثمانيين ويدهم الضاربة وصعد نجم القبائل التي تبحث عن فرص الثراء . وكان هذا الوضع مثالياً لدخول جيش اجنبي كان العراقيون يرونه كافراً هو الجيش البريطاني الغازي .

وكان العراق منذ عهد سليمان القانوني حتى دخول القرن العشرين يزداد ضعفاً وجهلاً وانحداراً مادياً ومعنويا ويقترب من مظاهر البلدان الوحشية بعد ان كان قبلة التحضر العالمية قبل ذلك . وبقيت ثروته الكامنة غير مستثمرة . رغم ان استقرار العراق في فترات الحكم المحلي المستقلة القليلة يخالف ما ادعاه البريطاني صاحب كتاب ( أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ) – كأي محتل مغالط – من عدم صلاحية اهله للحكم الذاتي , ليبرر وجود البريطانيين على ارض العراق . وهو الكاتب ذاته الذي حاول نسب فشل إدارة العثمانيين وسوء حال العراق الى عقيدة الإسلام والعقل الشرقي , رغم انه نفسه من روى ابهة ما كانت عليه هذه البلاد من حضارة وتمدن وثراء في العصور الإسلامية غير التركية . ونجده يحاول تبرير هذا الإهمال التركي للعراق ببعده عن المركز وانشغال السلطنة بالدفاع عن نفسها , ليعطي مبرراً لما يفعله البريطانيون فيه , رغم ان الاحتلال العثماني نهب ثروة العراق لعدة قرون واستعان بها في حروبه وثراء تركيا , فكيف لم يتسن له في أوقات السلم نشر الخدمات والتعليم فيه . وبرر كذلك جور وظلم الحكومات العثمانية ضد أبناء العراق باختلافهم المذهبي وقبليتهم , ليجد مبرراً لدولته المحتلة أيضا , غافلاً عن ان كل بلاد العالم كذلك بما فيها تركيا نفسها , وان هذا التنوع القومي والمذهبي في العراق كان موجوداً في كل العصور ولم يمنع احداً من الاعمار . وهو ذاته يعترف انه لم ير بلداً فيه ثروات كامنة مهملة مثل العراق[9] .

علي الابراهيمي

[1] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 266 – 302

[2] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 302 – 303

[3] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 304 – 308

[4] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 309 – 314

[5] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 315 – 331

[6] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 331 – 350

[7] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 351 – 357

[8] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 358 – 378

[9] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 379 – 390

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here