روايات الأدب الروسي، والسر الكامن في عظمتها ! (اقتباس)

روايات الأدب الروسي، والسر الكامن في عظمتها ! (اقتباس)

د. رضا العطار

قال احد النقاد حديثا ان ظهور القصص الروسية في عالم الادب كان من الحوادث العظمى التي تماثل في اهميتها ظهور مؤلفات داروين في عالم البيولوجيا عام 1859 .

ولا اظن ان هذا القول قد القي على عواهنه. فان الادب الروسي لا يكفي ان نقول فيه انه يمتاز على الادب الاوربي. لان وجود الامتياز مهما تعددت وجوهه قد يدل على وحدة النوع، والحقيقة ان الادب الروسي يختلف من حيث النوع لا فقط من حيث الدرجة.

فقارئ الاداب الانكليزية اذا انتقل الى الادب الروسي لا يعرف كيف يفاضل بينهما, لانهما لا يشتركان في شئ. وانتقاله اشبه شئ بانتقال الانسان من عالم قد ألف عاداته وعاش في جوه الى عالم آخر لم يره من قبل, لكنه مع ذلك يؤثره على عالمه القديم.

وقد خطر ببالي ان اتعرف الاسباب الفارقة بين الادب الغربي والادب الروسي, فلم اهتد الا الى سبب واحد اظنه عند البحث والاستقصاء جماع الفوارق بينهما.
نلمس هذا الفارق في سذاجة الادب الروسي وخلوه من التكلف ايا كانت ضروبه. وهذه السذاجة لا تقف عند حد الصنعة الكتابية وخلو الاساليب الروسية مما نسميه بلاغا وبديعا, بل هي تعدو ذلك الى صفات ابطال القصة. فهم اشخاص حقيقيون ليس في خلقهم تصنع.

فالمؤلف الروسي لا يراثي ولا يخدع القارئ في تصوير ابطال القصة. فاذا اراد تولستوي مثلا ان يصف امرأة جميلة لم يمنعه هذا الوصف ان يقول ان انفها كان كبيرا. واذا اراد دستوفسكي ان يصف مجرما خبيثا لم يمنعه هذا الوصف عن القول بان قلبه قد تفطّر عند رؤية فتاة منكوبة . اضف الى هذا ان القصة لهذه السذاجة ايضا لا تحتوي على شيء مما قد آلفه قراء القصص الغربية من وجود عقدة او مسألة هي عمود القصة يأخذ المؤلف في كشف استارها واحد بعد آخر حتى يصل الى النهاية.

فالقصص الروسية تتسم بالسذاجة التامة. وهي لا تعدو ان تكون وصفا لحوادث يومية عادية, اسلوبها خلو من جميع ضروب التكلف البديعي. واشخاصها ليسوا – ابطالا – اذا كانت هذه اللفظة صفة الذين يأتون بالخوارق والمعجزات.

ولعل القارئ يتسائل الان : كيف تكون السذاجة ميزة يمتازها الادب ؟ ونحن قد الفنا وتعلمنا ونشأنا على ان دقة الصنعة يحتاج الى ضروب من التكلفات فيما نسميه البديع والبيان في القصة اذا كانت حوادثها مألوفة تخلو من مفاجئات مما تلذ احدا مطالعتها ؟

فلكي نعرف الاسباب علينا ان نميز بين الفن والصنعة. فالفن هو الشعر والصنعة هي النظم في تأليف القصائد. وقد يكون الانسان شاعرا عظيما دون ان يكون ناظما بارعا . وقد يكون الانسان في فن الرسم والتصوير متظلًعا يجيده, يتفحصه ويميز غثه من سمينه ولكنه مع ذلك لا يفهم صنعة التصوير لانه لم يتعلم كيمياء الالوان وكيفية مزجها.

ولكي نزيد الموضوع ايضاحا نضرب مثلا بالنجار : فهو يستطيع صنع الاثاث, يقبض على الخشب بيد ماهرة ماكرة, فيطاوعه مطاوعة العجين للعاجن. ولكننا نحن الذين لا نفهم في صنعة النجارة شيئا نستطيع ان نبين له الفرق بين الاثاث الجيد الذي يدل على رقي ورفعة وبين الاثاث الردئ الذي يدل على ذوق واطئ.
فاذا عرفنا ذلك واستقر في ذهننا ان الصنعة دون الفن, بقى علينا ان نفهم ان الفن الجيد العظيم لا يحتاج الى صنعة جيدة بل قل انه لا يكاد يحتاج الى صنعة مطلقا.
فإذا قال احدنا – خير الكلام ما قل ودل – او – الحلم سيد الاخلاق – لم نستطع زيادة جمال هذين القولين بان نقولهما في بيت منظوم . وذلك لانهما من الجمال والحكمة بحيث لا تزيدهما الصنعة شيئا .

ومن هنا نفهم ان الاديب كائنا ما كان فنه, اذا تضلع من فنه هذا وحذقه واشربت نفسه مبادئه, صارت عنايته بالفن اكبر جدا من عنايته بالصنعة. بل لا يكاد عندئذ يحسب للصنعة حسابا . . بخلاف الاديب الشادي, فانه لضعف فنه, ولأن نفسه لم تشبع بعد به. يعمد الى الصنعة فيزين بها ما نقصه من الفن.

وبعبارة اخرى نقول انه اذا كانت المادة الاصلية ثمينة, لها في ذاتها قيمة لم تكن ثمة حاجة الى الصنعة الكبيرة والعكس صحيح . فلو كنا نأكل في صحائف من ذهب او نشرب في اكواب من فضة لرضينا بهذه الصحائف والاكواب ساذجة لا صنعة فيها, لأن جمال الذهب والفضة يغني عن الصنعة.

كذلك الحال في الادب . نرضى به ساذجا خاليا من صنعة البديع اذا كان هو في نفسه راقيا رفيعا. لان رفعة الفن فيه قد اغنت عن الصنعة. كالغانية يغنيها جمالها الطبيعي عن التبرج واتقان الهندام. وكلامنا هذا لا يتناقض وتطور الاداب العربية, فقد كانت ساذجة في نهضتها الاولى , حتى اذا جاء زمن الانحطاط ظهرت صناعات البديع.

فميزة الادب الروسي هي سذاجة هذه التي تنم على رفعته الاصلية. فمن يقرأ القصص الروسية يجد فنا قد غنى بذاته عن الصنعة.

فهذا هو الفرق بينه وبين الادب الغربي. فقد يقرأ الانسان القصة التي تزيد على الف صفحة لتولستوي فلا يجد المؤلف قد لجأ في احدى عباراته الى الصنعة، فهو لا يؤثر في القارئ بخوارق الحوادث او غرائب الوقائع . انه يسير بالقارئ متحدثا اليه عن اشياء مألوفة تحدث كل يوم , فيشعر القارئ وكأنه يكتب مذكراته اليومية.
ولعل القطعة الآتية, وهي من احدى قصص دستوفيسكي تعد نموذجا للطريقة الروسية التقريرية. وهي على صغرها تنبض بالحياة. فالمؤلف يصف الحياة الزوجية :

( اي زوج لا تتبدد احقاده مهما كان مقدارها عندما يجلس الى زوجته ويراقبها وهي ترضع طفلها البكر ؟ ذلك المخلوق الصغير المتورد الذي يدفع ساقيه ويمد ذراعيه الصغيرتين وكأنهما اواني من اللبن. ثم هذه الاظافر النظيفة الصغيرة – اجل – انها لصغيرة حتى ليضحك الانسان منها عندما يراها. ثم انظر الى عينيه الصغيرين تفضين ذكاء، حتى لتظن انهما تريان كل شئ . نعم انظر الى طفل يرضع . الا ترى كيف يلعب ويتلبط على صدر امّه ؟ ألا ترى كيف انه عند مجيء والده يترك حلمة الثدي وينقلب على ظهره فيحدق في والده ويندفع ضاحكا حتى لكأنه لن يسكت. ثم يأخذ الحلمة ثانية, وربما عضها اذا كانت قد نبتت اسنانه, ثم ينظر الى والدته وكأنه يقول لها :
– لقد رضعت لبنك – اجل أليست السعادة الكاملة هي اجتماع هذه الثلاثة : الاب والام والطفل ؟ وهل في العالم ما يحلم به انسان لكي يتمتع بهذه اللحظات ؟

* مقتبس من كتاب هؤلاء علموني للموسوعي سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here