الملا عثمان الموصلي، ينبوع الفن العراقي الأصيل

الملا عثمان الموصلي، ينبوع الفن العراقي الأصيل (*)

د. رضا العطار

من منا لم يسمع اغنية – زوروني بالسنة مرة – التي اشهر من غناها المغنية اللبنانية فيروز، وهي الأغنية التي تدعي وسائل الاعلام المصرية بان السيد درويش مبتكرها، وكم من كاتب وصفها بقمة الغناء المصري والعربي الاصيل ودليل على عبقرية سيد درويش. ولكن كم من المؤرخين والموسيقيين يعرفون بان سيد درويش اقتبس هذه الاغنية من استاذه العراقي الملا عثمان الموصلي بدون ذكر حقيقة اصلها وهي الاغنية العراقية الصوفية المعنونة – زر قبر الحبيب مرة – ويا ليته كان الاقتباس الوحيد لسيد درويش من استاذه بهذا الشكل الفاضح.

ولد الملا عثمان بن الحاج عبد الله عام 1858 في مدينة الموصل بالعراق في بيت فقير كان والده سقاء يجلب الماء من نهر دجلة. وعندما بلغ السابعة توفي ابوه تاركا اولاده برعاية امهم المعدمة فأضطرت ان تشتغل خادمة في دار محمود افندي العمري شقيق عبد الباقي العمري الشاعر المعروف. ولم تكن هذه نهاية كوارث عثمان فقد غزا وباء الجدري المدينة طاحنا الكثير من سكانها ولم يرحم عثمان، فقد اصابه ليشوه وجهه ويفقده بصره ليغرق في عالم الظلام بقية حياته.

احتضنت عائلة العمري عثمان وحرصت على تعليمه القران الكريم والشعر والموسيقى، وقد ساعد عثمان في التفوق في هذه الميادين حدة ذكائه وجمال صوته وقابليته الخارقة على الحفظ، مما اذهلت كل من عرفه، جعلته متفوقا على اقرانه. وقد صاحب ذلك خصلتان هما خفة دمه وحلو معشره. وقد فتحتا له الابواب وجعلته جليسا ومستمعا وقادرا على كسب ود الجميع. وقد تعمق في دراسة الدين حتى ارتدى زي رجال الدين. وقد ترك عثمان الموصل الى بغداد بعد وفاة محمود افندي لينضم الى ابنه احمد العمري الذي اصبح من باشوات الدولة العثمانية

كانت بغداد نقطة تحول بارزة في مسيرة عثمان ففيها تتلمذ على يد رحمة الله شلتاغ سيد المقام العراقي انذاك ومبتكر مقام التفليس. وقد خاض اول تجربته السياسية في انتقاده الدولة العثمانية في خطبة له ادت الى نفيه الى تركيا فترة قصيرة ليعود بعدها الى الموصل وفيها تابع دراسة التجويد وانضم الى الطريقة القادرية الصوفية. وقد تميزت اغلب الطرق الصوفية بميزتين اساسيتين اولاهما استعمال الموسيقى في نشاطاتها منذ القرن التاسع الميلادي، حيث برزت مدارس في الموسيقى والغناء ذات تاثير واضح على موسيقى الشرق اوسطية. وقد ظهرت نشاطات مشابهة لدى الرهبان المسيحيين في اوربا في العصور الوسطى وقد تطورهذا الفن بشكل بارز فأستعانت الكنيسة بأبرز الموسيقيين امثال يوهان سباستيان باخ.

انتقل عثمان الى اسطنبول وبرز فيها بسرعة ليصبح اشهر قارئ قرآن وملحن ومغني فيها وانتشر اسمه في كل مكان حتى سمع عنه السلطان عبد الحميد فجلبه الى قصره وتكررت الزيارات حتى انه بدأ بالغناء امام حريمه. وكانت اسطنبول عاصمة الامبراطورية ومركز ثقافتها. ولذلك اعتبر الملا عثمان الموصلي في القرن التاسع عشر اعظم الملحنين والموسيقيين العرب في الامبراطورية العثمانية.

واينما دخل عثمان غنى وتعلم وعلم واعتبر الابرز في الغناء وتجويد القرآن، ففي مصر ادخل نغمات الحجاز والنهاوند وفروعهما، ومن مشاهير تلامذته في مصر محمد كامل الخلعي واحمد ابو خليل وعلي محمود ومحمد رفعت، اما اشهرهم فكان الموسيقار سيد درويش الذي التقى عثمان في دمشق ودرس على يده لمدة ثلاث سنوات وقام باقتباس موشحات دينية واغان كثيرة من عثمان الذي كان له الفضل الاكبر في نمو مواهبه، واشهر ما اقتبسه سيد درويش من الملا عثمان اغنية (زوروني ) كما ذكرنا.

وفي العراق تتلمذ على يده كل من الحاج محمد الملاح والحاج محمد سرحان ومحمد صالح الجوادي ومحمد بهجت الاثري وحافظ جميل وكذلك عميد المقام العراقي المعروف محمد القبانجي كما و يعتبر عثمان هو اول من ابتكر مقام المنصوري الذي لايزال يغنى في تركيا اليوم تحت اسم مقام الحافظ الملا عثمان.

ما انتجه عثمان من موشحات واغان اكبر من ان يذكر بالتفصيل، الا انني ساذكر ابرزها: – زوروني بالسنة مرة – طلعت يا محلى نورها – اسمر ابو شامة
– فوك النخل فوك – ربيتك زغيرون حسن – لغة العرب اذكرينا – التي غناها المطرب العراقي يوسف عمر – ياناس دلوني – يا ام العيون السود ـ ويا من لعبت ـ قوموا صلوا، هذه الاغاني الثلاثة الاخيرة غناها ناظم الغزالي.

عرف عن عثمان قابليته على التعرف على الرجال من لمس اياديهم، يحكى انه كان يوما يمر من عكد النصارى في بغداد فسمع عزف للعود. فتوقف وطلب من حفيده ان يدله على مصدر الصوت فلما دنا ضرب الباب بعصاه و صاح: يا عازف العود انك قتلتني شد على وتر النوى!

كان عثمان مرحا عذب المعشر مرهف الحس سريع البديهة شيخ قراء القرآن، ملحنا، يمتاز غناه بطابع البهجة، رجل دين، عازفا بارعا للعود والطبلة والقانون والناي، الا ان هذا لا يخفي الطبيعة البائسة للرجل التي كان من يدرسه بعمق يكتشف ، ارتماؤه في احضان الصوفيين وانشغاله الدائم في مختلف الفنون، فلم تكن سوى وسيلة له لنسيان بؤسه في عالم الظلام وشعوره المخيف بالوحدة في عالم لا يستطيع رؤيته وشعوره المخيف بالوحدة جعله لا ينسى اصدقائه المقربين. ومن الواضح ان نفسيته المضطربة كانت عاملا مهما في حبه للتنقل وكأنه غير قادر على العثور على راحة البال في اي مكان. وانتهى عذاب هذا العملاق عام 1930 في بغداد تاركا ارثا فنيا عظيما ارجو ان لا ينساه العرب، فمن نسي تاريخه تاه في درب الحياة.

* مقتبس من كتاب حضارة العراق للباحث عادل الهاشمي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here