دور الكورد الذين كتبوا باللغة العربية في نشر المدنية والعلم والفن والأدب بين العرب؟

محمد مندلاوي

حقيقة لا أريد أن أسرد أسماء المئات من فطاحل الكورد، الذين أغنوا المكتبة العربية بنتاجاتهم العلمية والأدبية والشعر. لكني سأتحدث اليوم عن شخصية كوردية مرموقة رفدت المكتبة العراقية والعربية بدواوين شعرية وكتباً فلسفية كان له قصب السبق بنشر المدنية في العراق بين العنصر النسائي قبل الرجال، كما قام به أقرانه من الشعراء والكتاب الكورد في كوردستان. عزيزي المتابع، نادراً ما يوجد في العراق اليوم شخص ما لم يسمع باسم هذا العالم الجليل والشاعر المبدع رغم مرور 84 عاماً على رحيله من هذا العالم إلى عالم اللا عودة، لكن المكتبة العراقية والعربية لا زالت تحتفي بمؤلفاته الفلسفية والأدبية ودواوينه الشعرية إلا وهو (جميل صدقي زهاوي) 1863-1963م سليل العائلة البابانية الكوردية الأصيلة، التي موطنها مدينة السليمانية التي تحمل اسم جدهم الأكبر سليمان باشا بابان وكانت عاصمة لإمارتهم المترامية الأطراف بعد أن تركت (قلاجولان= قەڵاچوالان) في جنوب كوردستان، إلا أن مولد جميل صدقي ووفاته كان ببغداد. لقد لقبت العائلة بالزهاوي بعد أن انتقل جد جميل من السليمانية إلى مدينة (سەر پول زەهاب- سَربول ذهاب) في شرق كوردستان ليكون مفتياً فيها.

جرياً على العادة بين العوائل الكبيرة المتنورة في عموم كوردستان أنهم يأخذوا بأيدي أبنائهم كي ينهلوا من معين العلم والمعرفة، مثال عائلة العالم عبد الكريم المدرس الشهير بعبد الكريم بياره. تقول عنه الموسوعة الحرة كان مفتي العراق، ورئيس رابطة علماء العراق، وعضواً في مجمع اللغة العربية في دمشق، وعضواً مؤازراً في مجمع اللغة الأردني وكان فقيهاً، ومحدثاً، ومفسراً، ولغوياً، وأديباً الخ. ويأتي بعده نجليه فاتح عبد الكريم، ومحمد ملا كريم وكانا من مثقفي كوردستان المعروفين. ولهؤلاء الثلاثة الأب والولدين شرح وتفسير رائع لديوان الشاعر الكوردي المعروف نالي (ملا خضر أحمد شاويس ميكائيلي) الذي عبارة عن 740صفحة، ولهم أيضاً مؤلفات أخرى عديدة. وقبل عائلة المدرس (بياره) كان متربعاً على عرش الفقه والاجتهاد عائلة الزهاوي حيث أن الجد كان عالماً بالدين و فقيهاً معروفاً، وهكذا الأب – والد جميل- كان فقيهاً ولغوياً ومحدثاً وعالماً، ونجله محمد سعيد كان مفتياً للديار العراقية، ونجل محمد سعيد الزهاوي أمجد الزهاوي كان رئيس رابطة علماء العراق. لقد تربى عالمنا وشاعرنا جميل صدقي بين أحضان هذه العائلة العلمية الكريمة، إلا أنه خالفهم بعض الشيء، وغرد خارج السرب إيجاباً، وانعطف نحو المدنية والعلوم الفلسفية الحديثة، وكتب في هذا الحقل كتباً عديدة

ككتاب الجاذبية وتعليلها، وكتاب الظواهر الطبيعية والفلكية، وكتاب الفجر الصادق، وكتاب الخيل وسباتها الخ. وفيما يتعلق بلغة الضاد، كان متمكناً منها كابني جلدته أمير شعراء العرب (أحمد شوقي) ومعروف عبد الغني الرصافي، وامتلك ناصية اللغة العربية التي أرخى له عنان الشعر العربي. لقد قال الكورد قديماً: إن الابتكارات العلمية وغزو الفضاء الخ كانت رؤى شاعر.لا أريد أن أتوسع كثيراً في مقالي هذا الذي حددته عن العالم والشاعر (جميل صدقي زهاوي) لكني أرى من الضروري والمفيد أن أنشر للقراء الأعزاء أبياتاً من قصيدة كتبها أحد علماء الكورد من الدين اليارساني القويم واسمه (ئيل بگى جاف) (898- 961) هجرية، أي: إنه عاش قبل خمسة قرون، تنبأ فيها عن بعض الأحداث والعلوم الحديثة وخاصة وصفه الدقيق للطائرة، دعني عزيزي القارئ أن أضع أمامك هنا خماسيتين منها فقط، يقول فيها: طەیری وەک ڕەعد و بەرق دەبێ … گوێچکەی لە دووکەڵ غەرق دەبێ … دەشت و دەڕێ پێ لەق دەبێ … بەروێ هەوا موولەق دەبێ … هەروا بووەو هەروا دەبێ = يظهر طائر صوته كدوي الرعد … ويخرج دخاناً من ذنبه … يقطع المسافات بسرعة فائقة … كان هكذا، وسيكون كما كان. أليس هذا وصف دقيق للطائرة؟. بلا شك الوصف باللغة الكوردية أدق وأبلغ من العربية، لأن الترجمة يفقد النص جماليته ودقة معانيه، أرجو أني وفقت أن أترجم النص بصيغة قريبة من المضمون الكوردي له. طبعاً وصف الشاعر في قصيدته المذكورة السيارة وفك بعض الألغاز التي حيرت العالم قبل صنعها في الغرب بأكثر من قرنين، إلا أنه ليس موضوعنا الآن. يظهر أن جينات من علماء الكورد القدامى انتقلت جيل بعد جيل مع الكروموسومات إلى العالم والشاعر (جميل صدقي الزهاوي) فلذا ثار على مجتمعه البغدادي المتخلف ونادى بسيكولوجيته الكوردية مثل ابن جلدته (قاسم أمين) الذي نادى بتحرير المرأة من الذل والعبودية، فكتب جميل صدقي قصيدته المشهورة التي صرخ فيها بأعلى صوته: مزقي يا ابنة العراق الحجابا … أسفري فالحياة تبغي انقلابا … مزقيه واحرقيه بلا ريث … فقد كان حارساً كذابا … قال هل في السفور نفع يرجى … قلت خير من الحجاب السفور … إنما في الحجاب شلٌ لشعب … وخفاءٌ وفي السفور ظهور … كيف يسمو إلى الحضارة شعبٌ … منه نصف عن نصفه مستور … ليس يأتي شعبٌ جلائل ما لم … تتقدم إناثه والذكور … إن في رونق النهار لناساً … لم يزل عن عيونها الديجور. ويستمر الزهاوي في قصيدته العصماء: زاهر والحجاب ليل بهيم … اسفري فالسفور في صلاح … للفريقين ثم نفع عميم … زعموا عفة الفتاة حجاب … اسفري فالحجاب يا ابنة فهر … هو داء في الاجتماع وخيم … كل شيء إلى التجدد ماض … فلماذا يقر هذا القديم؟ … اسفري فالسفور للناس صبح … بل يقيها تثقيفاً والعلوم. يقول السياسي وابن السياسي نصير كامل الچادرچي الذي ناهز التسعين من عمره في برنامج “أطراف الحديث” مع الدكتور (مجيد السامرائي): إن والدتي كانت ترتدي العباءة ثم تركتها، ويقول:هكذا والدة المؤرخ العراقي نجدة فتحي صفوة هي الأخرى ذبت العباءة. وكذلك والدة عدنان رؤوف وغيرها. ويقول الچادرچي: شقيقتي هي الأخرى كانت سافرة ومعها كل أقربائنا بل وأكثر الناس. ويقول له المحاور البارع الدكتور مجيد السامرائي: هل تعرف هذا تأثير مَن؟ هذا تأثير (جميل صدقي الزهاوي) الذي له قصيدة قال فيها: اسفري يا ابنة فهر … الخ . نعم دكتور مجيد هذا هو تأثير الفتى الكوردي في المجتمع البغدادي والعربي، الذي شق بقصيدة واحدة ديجور الظلام، ونشر نور المدنية في أصقاع كثيرة. وناغمه بأبيات جميلة ومؤثرة من قمم جبال كوردستان الشماء شاعر الكورد وكوردستان (فایەق بێ کەس- فائق بيكس) يحث فيها الفتاة الكوردية على أخذ زمام المبادرة بيديها، قائلاً: نەسرین دەمیکە داخت لە دڵمە … گیرۆدەی بەندی ژیانت زوڵمە. ويستمر الشاعر (فایق بيكس) في رائعته الشعرية: مەڵێ من کچم تۆش وەکوو منی … مەجبوور بە ئیش و خزمەت

کردنی … ناچاری عیلم و فن و خوێندنی … هەستە تێکوشە تا خوێنت گەرمە … سەرپۆش فڕێدە چ وادەی شەرمە= نسرين منذ أمد بعيد يتحسر قلبي عليك … أنتِ مكبلة بالأغلال وحياتك عبارة عن مآسي … لا تقولي أنا أنثى أنتِ مثلي إنسان … مرغمة على أداء الأعمال السخرة … مجبرة على ترك دراسة الفن والعلم … لا تخجلي، إلقي بالحجاب بعيداً. ولم يكن دور الكوردي الآخر في بغداد (معروف الرصافي) أقل شأناً من دور زميله جميل وشقيقته أسماء الزهاوي في حركة النهضة النسائية التي انبثقت في بداية القرن الماضي والدفاع عنهن. تجده يصرخ الرصافي في طرقات بغداد وهو ينشد قصيدته (الأرملة المرضعة) التي تعتبر من روائع الشعر العربي وهو يتألم لمنظر امرأة بائسة كانت تستجدي كي تعيل ولديها، يقول: لقيتها ليتني ما كنت ألقاها … تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها … أثوابها رثة والرجل حافية … والدمع تذرفه في الخد عيناها، إلى آخر القصيدة. كانت هذه نافذى صغيرة فتحناها على واحة بعضاً من أبناء الكورد الذين كان لهم الدور الأكبر في نشر العلم والمعرفة والمدنية في أوساط أهل بغداد.

“يسخر من الجروح كل من لا يعرف الألم”

01 11 2020

شكراً على القراءة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here